أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الدافع العلمي للاستشراق الثلاثاء 06 فبراير 2024, 1:10 am | |
| الدافع العلمي للاستشراق أ. د. إسماعيل علي محمد
تمثل الدافع العلمي للاستشراق في جانبين، نفصل القول فيهما على النحو التالي: الجانب الأول: دراسة علوم الشرق الإسلامي في مختلف التخصصات العلمية، ونقلها إلى أوربا لتفيد منها في النهوض الحضاري:
كان الغرب يعيش في ظلام دامس، ويعاني من تخلف حضاري مطبق، ففتح عينه على تقدم المسلمين العلمي، وتفوقهم الحضاري، وسبقهم في شتى الميادين، وخاصة عندما فتح المسلمون الأندلس، وأقاموا فيها حضارة زاهرة، ومدنية راقية، واكبها نهضةٌ علميةٌ خارقة.. رأى الغرب هذا، وأدرك ما بينه وما بين المسلمين من مسافات شاسعة في العلم والتقدم والازدهار، فحرص على أن ينهل من علوم الشرق الإسلامي، ويقتبس من حضارته لينهض من تخلفه، ويرقى كما ارتقى المسلمون، فكان لا بد من تعلم اللغة العربية، والتتلمذ على أيدي علماء المسلمين، والرحلة إلى حيث يقيمون.
وانكب الغربيون على علوم الشرق الإسلامي ينهلون من معينها الصافي، وطفقوا يجمعون المخطوطات الإسلامية في شتى الميادين، وينقلونها إلى اللغات الأوربية، وينقلبون إلى أهليهم في الغرب يعلِّمون بني أوطانهم ما أخذوه عن علماء المسلمين من علوم كي يتفوقوا عليهم، ويتخلصوا من سيطرتهم؛ إذ اعتقدوا أنهم لن يستطيعوا التغلب على المسلمين إلا بتعلم علومهم، ونقل تراثهم.
وقد ظل العلماء المسلمون يبذلون للغربيين ما لديهم من علوم نافعة بسماحة وسخاوة نفس، ولم يضنوا على طالب علم بشيء، أو يكتنوا علما مما علمهم الله إياهم بدعوة أن العلوم أسرار، بل كانوا يتعبدون لله تعالى بنشر العلم، وتنوير الجاهل، وإرشاد الضال، وفي ذات الوقت ظل أولئك الطلاب الغربيون يدرسون وينقلون تلك العلوم على يد العرب والمسلمين، وأكثرهم محتفظون لأنفسهم بعقائدهم واتجاهاتهم البغيضة نحو الإسلام والمسلمين.
"وقد بلغ ما تُرجم من العربية في القرون الوسطى أكثر من ثلاثمائة كتاب، منها تسعون في الفسلفة والطبيعيات، وسبعون في الرياضيات والنجوم، وتسعون في الطب، وأربعون في الفلك والكيمياء، وظلت هذه هي زاد أوربا الذي أخذت تثريه وتفيد منه شيئا فشيئا، حتى كانت نهضتها المادية الكبرى التي هددت كياننا بعد ذلك"[1].
وقد ذكر أحد الباحثين عشرات الكتب والمؤلفات التي نقلها المستشرقون إلى أروبا، شملت مختلف التخصصات العلمية، نورد بعضها فيما يلي[2]:
في الفلك والجغرافيا: 1- صورة الأرض، لمحمد بن جابر البتاني. نشره: "لولو فيل".
2- زبدة كشف الممالك، للظاهري. نشره: "رافيس".
3- كشف المسالك والممالك، لعبد الله القرطبي. نشره: البارون "دي سلان" سنة 879م.
في التاريخ: 1- واسطة السلوك في سياسة الملوك، للسلطان موسى بن حمو الثاني. نشره وترجمه للأسبانية: "جاسبار وريمريو".
2- غانة، ترجمه للفرنسية: "جوبير".
3- مختصر الدول، لابن العبري مع ترجمة لاتينية له. نشره: "بوكوك" الإنجليزي سنة 1663م.
في العلوم والطب: 1- فصول في الطب والعلاج العربي، نشره: "د يفزمري" و"سانفيناتي".
2- الكرويات، تصحيح يحيى بن محمد المغربي. نشره: "البارون دي فو".
3- أسماء النباتات المختلفة، لابن العوامز ترجمة: "ملله" في جزأين.
4- النحل، للسجستاني. ترجمه: "بروتلومبو"، وكذا "لازينيو" الإيطاليين.
5- طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة. ترجمه: "د. لكلر".
6- ملخص في الطبيعيات، للقويني. ترجمه: "مولله".
7- الأشربة، لابن قتويه. نشره: "كي".
8- رسالة الصنامري في دودة القز، نشره: المستشرق "مرسيل الفرنسي".
في الرياضة: 1- مخطوطات الرياضيين الإسلاميين، نشره: "كراوزة" الألماني.
2- الرياضيون المسلمون، ألفه: "كراوزة" الألماني. (طبع برلين عام 1936م).
في الفلسفة: ترجموا ونشروا الكثير.. ومن ذلك: رسالة حي بن يقظان، نقله إلى اللاتينية: "بوكوك" الإنجليزي في القرن السابع عشر الميلادي.
الجانب الثاني: دراسة الإسلام وعلومه من منطلق البحث العلمي النزيه، دون تحيز: وهناك بعض المستشرقين أقبلوا على دراسة الإسلام دراسة علمية خالصة، محاولين التجرد عن الهوى، والتجافي عن التعصب، "بدافع حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل خطأً في فهم الإسلام وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين"[3].
"وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيحبون أن يتصوروها كما يتصورون مجتمعاتهم، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها"[4].
نماذج من المستشرقين غير المتعصبين، وبعض من أسلم منهم: ومن الأمثلة على هذه الفئة: 1- المستشرق الألماني "يوهان رايسكة" (1716 - 1774م)، الذي كان واحدا من أبرز علماء العربية في عصره، "وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية في ألمانيا، ولكن عصره ومعاصريه تجاهلوه، وحاربه رجال اللاهوت متهمينه بالزندقة، ولعل ذلك يرجع إلى موقفه الإيجابي من الإسلام، فقد امتدح الدين الإسلامي في كتاب له باللاتينية، ورفص وفص النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب أو التضليل، أو وصف دينه بأنه خرافات مضحكة - كما كان ذلك سائدا حينذاك - كما رفض تقسيم تاريخ العالم إلى تاريخ مقدس وتاريخ غير مقدس، ووضع العالم الإسلامي في قلب التاريخ العالمي، وفوق ذلك عبَّر عن آرائه بأعظم قدر من الصراحة، غير مكترث بكل العواقب المترتبة على ذلك، وقد جر عليه ذلك ويلات كثيرة، وعاش طول حياته في ضائقة مالية، ومات بائسا مسلولا وهو في الثامنة والخمسين من عمره"[5].
2- المستشرقة الأسترالية المعاصرة "تساريس وادي"، التي كتبت كتابا أسمته (العقل المسلم)، التزمت فيه بالإنصاف والموضوعية، حيث عرضت لما تضمنه كتابها من أفكار من خلال وجهة النظر الإسلامية، ومن أفواه المسلمين، وهو - في جملته - دفاع عن الإسلام وتنقية لصورته، ويقدم للقارئ الأوربي شيئا غير ما قرأه في كتب أخرى عن الإسلام.
وقد أهدت الكتاب إلى شيخ الأزهر الراحل الإمام عبد الحليم محمود رحمه الله، وعندما زارته في مكتبه بعد إخراج الكتاب قدمت له نسخة منه، كتبت عليها: "إلى الرجل الذي وقفت عليه هذا الكتاب أُهدي نسخة منه"[6].
ومن أولئك المستشرقين من قاده البحث الحر النزيه، والتمسك بالمنهج الموضوعي في دراسته إلى الاهتداء إلى الإسلام واعتناقه.
"منهم المستشرق الإنجليزي المشهور""جون فيلبي"، فقد استطاع في خلال إقامته في بلاد العرب أن يطّلع على تعاليم الدين الإسلامي اطلاعا مقنعا، حَبّب إليه اعتناق هذا الدين القويم، وقد لاحظ عليه كثير من المجتمعين به ذلك الحب الكبير الذي يبدو منه نحو الدين الإسلامي، وهذا التقدير الصادق الذي كان يشعر به لتعاليمه، حتى إن مُكاتب "الماتان" سأله في هذا الصدد في حديث له، فقال: لماذا لم تُقدم إذن على اعتناق الإسلام حتى يتم لك ما تريد، وتصبح عربيا دينا كما اتخذت بلاد العرب وطنا؟ فأجابه: إنني سأكون يوماً ما مسلما عندما يتم اقتناعي بهذا الدين، فإني لا أريد أن يكون إسلامي ظاهريا أتخذه قناعا أستتر به وقلبي خال من الإيمان والتقوى، ولم ينتهِ أسبوع حتى أسلم واعتنق دين المساواة"[7].
3- وكان من أولئك المهتدين للإسلام في عصور الاستشراق المتقدمة المستشرق "تورميدا" (1352 - 1432م)، وقد "ولد في ميورقة، وتلقى علومه في إيطاليا، وانضم إلى الرهبنة الفرنسيسكانية، ورحل إلى تونس، حيث أسلم على يد السلطان أحمد بن أبي بكر الحفصي، وتسمى بعبد الله بن علي، واشتغل ترجمانا، ثم ولاه السلطان المكوس، ولا يزال قبره داخل باب المنارة، ومن آثاره، تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، معتمدا فيه على آراء ابن حزم"[8].
4- ويضاف إلى من سبق: "اللورد "هيدلي"، و"إتين دينيه (ناصر الدين)"، والدكتور "جرينيه" الذي كان عضوا في مجلس النواب الفرنسي، وقد سئل عن سبب إسلامه فقال: إنني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية والتي درستها من صغري وأعلمها جيدا؛ فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأنني تيقنت أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الصُّراح من قبل ألف سنة، من قبل أن يكون له معلم أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيدا كما قارنت أيضا؛ لأسلم بلا شك إن كان عاقلا خاليا من الأغراض"[9].
ضرورة الحذر من التسرع في إطلاق وصف "الموضوعية" أو "الإنصاف" على كل من قال بعض عبارات المدح بحق الإسلام: هذا؛ وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أمر على قدر كبير من الأهمية، ألا وهو ضرورة الحذر من التسرع في إطلاق وصف "الموضوعية" أو "الإنصاف" على كل من قال بعض كلمات الثناء، أو ذكر شيئا من عبارات المدح بحق الإسلام، أو سطر بحثا يشتمل على طرف من حقائق الإسلام بحياد، دون أن نأخذ في الاعتبار بقية كتاباته، وننظر في كافة مواقفه ومقالاته المتحاملة على الدين الحنيف والمشوهة له، حيث إن موضوعية مثل هؤلاء يمكن أن نُسميها (موضوعية نسبية)، أي بالنسبة لغيرهم من المستشرقين السافرين في التحامل على الإسلام، المبالغين في عداوته، أو بالنسبة إلى باقي كتاباتهم هم، وعلى أية حال فهي موضوعية ليست مُطْلَقة، وإلا فإن كتاباتهم الأخرى تنطوي على القدح في الإسلام، وغمزه ولمزه، بالتصريح تارة، وبالتمليح أخرى.
وقد يعمد هؤلاء إلى دراسة الإٍسلام دراسة وصفية، "تستهدف أن تعرف المزيد عنه لتكون أكثر تهيؤا لعرض (نقائصه)" [10]، ولتكون أيضا أكثر قدرة على محاربته، والقضاء على مكامن القوة فيه.
إن هناك البعض من الكتاب والباحثين المسلمين يقرأ - أحيانا - في ما كتبه المستشرقون، فيجد لأحدهم سطورا أو فقرات معدودة يتناول فيها الإسلام بما ظاهره الحياد أو الموضوعية، وعلى الفور يحكم بأن كاتبه من المستشرقين المنصفين، والباحثين المدققين... إلى آخر ما يقال في هذا الشأن.
ولو تأمل أولئك البعض من مفكرينا وكتابنا المسلمين في كلام هذا المستشرق أو ذاك من الذين يعدونه منصفا، وقرأ بقية ما سطرت يداه؛ لتبين له الأمر على حقيقته، وأدرك كنه خبيئته، وعرف خُبث طويته!!
خطأ "شكيب أرسلان" في جعله "جولد زيهر" من المنصفين، ووصفه إياه بـ"سيد المدققين": ومن الأمثلة الملفتة على هذا الأمر، بل من أعجب العجب ما وقع فيه الباحث المعروف شكيب أرسلان؛ حيث أورد بضعة أسطر للمستشرق اليهودي "جولد زيهر"، وزعم أن فيها إنصافا وشهادة لصالح الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فحسب؛ بل إنه بلغ به الأمر أن جعل ذلك المستشرق (الأثيم) في مصاف العلماء المدققين والمنصفين للإسلام.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الدافع العلمي للاستشراق الثلاثاء 06 فبراير 2024, 1:10 am | |
| وذلك على النحو التالي: قال "شكيب": "وقال "غولدزيهر" سيد المدققين، وحجة المستشرقين في كتابه: "عقيدة الإسلام وشريعته" في الصفحة الثالثة من هذا الكتاب الجليل ما يلي:
إن دعوة النبي العربي كان فيها نخبة مبادئ اعتقدها هو بالاختلاط مع اليهود والنصارى وغيرهم، واقتنع بها ورآها جديرة بإحياء الشعور الديني بين قومه، ولقد كانت هذه المبادئ المقتبسة من الأديان الأخرى في نظره ضرورية لتثبيت سير الإنسان بحسب الآراء الإلهية، فتلقاها هو بصدق وأمانة، وبمقتضى إلهام أيدته فيه المؤثرات الخارجية، وجاءه وحيا إلهيا، كان هو مقتنعا بكونه وحيا إلهيا نازلا على لسانه"[11].
لست أدري كيف ساغ لباحثنا الكبير أن يصف "جولد زيهر" بـ"سيد المدققين"، وأن يصف كتابه بـ"الكتاب الجليل"؟!!
إن هذا الوصف غير واقعي بالمرة، بل إنه حكم مليء بالمجازفة.
وإذا أردنا الإنصاف والدقة فالواجب أن نقول: إنه (سيد المزورين)، وكتاباته عن الإسلام تشهد بهذا وتوكده، ومنها كتابه المذكور، الذي لا يحوي سوى الإفك والبهتان.
وهذا هو البيان: أولا: أما عن "جولد زيهر" نفسه؛ فإنه يعد من أبرز الخصوم الألداء للإسلام، حتى إن الدكتور "محمد البهي" قد صنفه ضمن قائمة بالمتطرفين من المستشرقين.
وقال عنه: "جولد زيهر": مجريٌّ عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية"، كتب عن "القرآن والحديث"[12].
كما أن الدكتور "البهي" صنّف بعض كتبه ضمن قائمة بعض الكتب الاستشراقية المتطرفة[13].
وقال عنه الشيخ "محمد زاهد الكوثري" -في معرض حديثه عن كتابات المستشرقين ضد الإسلام-: "ومن أخطر هذا الفريق المموه "جولد زيهر" المجري الدم، اليهودي النحلة، العريق في عداء الإسلام، الماضي في هذا السبيل طول حياته.. وهو من رجال أوائل القرن الميلادي الحاضر[14]، وله دراسات في القرآن، وعلومه، والفقه وأصوله، وفي الكلام وفرق المتكلمين.. إلا أنه محتال ماهر في توليد ما يشاء من نصوص يتصيدها من مصادر تعجبه باعتبار غايته، مغالطا في تحميلها ما لا تحتمله من المعاني عند أهل البصيرة، ومتجاهلا إتلاف منازل تلك المصادر في الثقة والتعويل"[15].
ثانيا: النص الذي أورده "شكيب أرسلان" يعج بالقدح في الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهو يلح على فكرة واحدة هي نزع صفة الربانية عن الدين الإسلامي الحنيف، وتجريد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من النبوة والرسالة المؤيدة بالوحي من الله رب العالمين، وما يصاحبها من معجزات يؤيد الله بها رسله، وأن دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم بشرية مخترعة، لفقها صاحبها من اليهودية والنصرانية وغيرهما.
ثم إن "جولد زيهر" لم يترك لنا مجالا للاستنباط، بل قال في صراحة ووضوح: "إن دعوة النبي العربي كان فيها نخبة مبادئ اعتقدها هو بالاختلاط مع اليهود والنصارى وغيرهم، واقتنع بها... ولقد كانت هذه المبادئ المقتبسة من الأديان الأخرى... وبمقتضى إلهام أيدته فيه المؤثرات الخارجية... وجاءه وحيا إلهيا، كان هو مقتنعا بكونه وحيا إلهيا نازلا على لسانه...".
فهل أخبر "جولد زيهر" في كلامه هذا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نبيا مرسلا من عند الله، وأن مبادئه التي جاء بها إلهيةٌ مصدرها الوحي الإلهي؟
أم تراه يخبر بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يتصور هذا الأمر، ويعتقد هو هذا الفهم وذاك التخيل.. وأن المؤثرات الخارجية - وليست المعجزات التي أيده الله بها - قد خدمته وأيدته في دعواه..!!
ثالثا: وأما عن كتاب "عقيدة الإسلام وشريعته" الذي نقل منه "شكيب أرسلان "كلام "جولد زيهر" ووصفه بـ "الكتاب الجليل"؛ فلو أنه كلف نفسه عناء مطالعته، والنظر فيما حواه لظهر له الوصف الدقيق اللائق بهذا الكتاب وبكاتبه، حيث إنه كتاب يطفح بالتجني على الإسلام، والتشكيك في شرائعه وشعائره، وزعزعة الثقة في مبادئه ومصادره، وأن كاتبه أطلق العنان لأحقاده الدفينة وخيالاته المريضة في النيل من العقيدة الإسلامية، والقرآن الكريم والسنة النبوية ورواتها.. وقد رَدَّ عليه العلماء وفنَّدُوا ضلالاته وأباطيله، ومنهم الشيخ محمد الغزالي في كتابه "دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين"، والدكتور مصطفى السباعي في كتابه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، والشيخ "عبد الفتاح القاضي" شيخ المقارئ المصرية، في كتابه "القراءات في نظر المستشرقين والملحدين".
تصدي الغرب وعموم المستشرقين لمن ينحو جانب الإنصاف من زملائهم: ثم إن البيئة الغربية وجموع المستشرقين تتصدى لكل من يحاول أن يسلك سبيل الإنصاف للإسلام في دراساته، وتمارس ضغوطها لكي تصد عن أي توجه نحو الحيدة العلمية، ويطالبون من يحاول أن يكون منصفا بأن يكتب كتابات علمية وموضوعية، وأن يتحلى بروح المنهج العلمي، زاعمين أنه -بإنصافه للإسلام، وقوله الحق- قد خالف ضوابط منهج البحث العلمي السليم، وأنه يكتب كتابات عاطفية لا تخلو من رغبة في مجاملة المسلمين.
وباختصار فإن أصحاب الاتجاه العلمي النزيه من المستشرقين يكونون عرضة للعنت الشديد، ويدفعون لقاء توجههم العلمي الخالص ثمنا باهظا، ويحارَبون معنويا وماديا.
من دلائل الحرب المعنوية ضد المنصفين من المستشرقين: وقد حُورب العديد ممن مالوا إلى جانب الإنصاف من المستشرقين أدبيا ومعنويا في الغرب، "كما فعلوا مع "توماس أرنولد" حين أنصف المسلمين في كتابه القيم "الدعوة إلى الإسلام"، فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين، على عكس مخالفيهم معهم، هذا الكتاب الذي يُعتبر من أدق وأوثق المراجع في تاريخ التسامح الديني في الإسلام يطعن فيه المستشرقون المتعصبون وخاصة المبشرين منهم، بأن مؤلفه كان مندفعا بعاطفة قوية من الحب والعطف على المسلمين، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها"[16].
ومن الأمثلة على هذا أن المستشرق الفرنسي "كاستريز" حين كتب كتاب (الإسلام) الذي صدر في باريس عام 1896م، وكان فيه شيء من الإنصاف للإسلام والنبي محمد؛ انتقده كل من "رينيه باسيه" و"كارادي فو"، كما علق عليه المستشرق الألماني "جوستاف بفانموللر" في كتابه (موجز في أدب علوم الإسلام) الذي صدر أول مرة عام 1923م في برلين بقوله:
"إن رأي "كاستريز" في محمد إيجابي أكثر مما ينبغي، كما أنه يرى في القرآن أيضا من البداية حتى النهاية عملا فريدا ورائعا، وباختصار: إنها انطباعات، وليست دراسة علمية"[17].
وحين كتب المستشرق "بولا نفلييه" كتابه (حياة محمد) الذي ظهر في لندن عام 1730م، ويمجد فيه الإسلام، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم؛ هاجت الدنيا من حوله، وانبرى له المتعصبون من أهل ملته، ورموه بالعداء للكنيسة، وعدم العلمية والموضوعية فيما كتب، ووصف المستشرق "جان جانييه" الكتاب بأنه "مبالغات مضحكة"[18].
سبحان ربي!!
هل دراسة الإسلام لا تكون علمية -في نظر المستشرقين- إلا إذا اشتملت على قدح وطعن فيه؟!!
أما إذا تضمنت إنصافا أو شهادة حق للدين الحنيف فإنها حينئذ -في نظرهم- تكون إنشاء، وانطباعات شخصية لكاتبها، ومبالغات تثير السخرية، ولا تكون من قبيل الدراسة العلمية!!
أهذا هو المنهج العلمي الذي يتبناه السادة المستشرقون وتلامذتهم؟!!
من دلائل الحرب المادية ضد المنصفين من المستشرقين: وأما من الناحية المادية؛ فإن دراسات ومؤلفات هذه الفئة ذات الدافع العلمي الخالص لا يُروج لهما كما يُروج لدراسات من عداها من الفئات المتحيزة والمتحاملة ضد الإسلام والمسلمين، "لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لا تلقى رواجا؛ لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين، ومن ثم فهي لا تُدر عليهم ربحا ولا مالا"[19].
ويظلون بحاجة إلى موارد مالية تؤمن لهم حياتهم المعيشية بدرجة يمكنهم معها الانصراف إلى دراساتهم، وهيهات أن يكفل الغرب لمثل هؤلاء تأمين احتياجاتهم المادية على النحو اللائق.
بل إن بعضهم ربما تعرض لملاحقات ومحاكمات قضائية على آرائه المبثوثة في بحوثه ودراساته، والتي لا تُرضي العقلية الغربية الكارهة للإسلام، والمتعصبة ضد كل ما ينتمي إليه بصلة.
ومن الأمثلة على هذا الأمر ما حدث مع المفكر الفرنسي "رجاء جارودي" الذي اعتنق الإسلام؛ فقد ظل الرجل نحو نصف قرن تتهافت دور النشر على إصدار ونشر كتبه، فلما كتب كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)، والذي دافع فيه عن الحقوق التاريخية للعرب والمسلمين في فلسطين، ورد على مزاعم اليهود، وقال في هذا الكتاب: "إن النصوص التوراتية أو اضطهاد "هتلر" لليهود لا يمكن أن يبررا سرقة أراضي فلسطين، واقتلاع سكانها وقمعهم بتلك الصورة الوحشية والدموية، كما أنهما لا يمكن أن يبررا الخطة الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك أواصر الدول العربية وتفريقها.."، عندئذ لم يجد ناشرا في الغرب ينشر له الكتاب، فاضطر إلى نشره على نفقته، فضلا عما لاقاه من عنت مادي ومعنوي كبيرين، لدرجة أنه قدم إلى المحاكمة في فرنسا بموجب قانون ظالم يعتبر النظر في تاريخ اليهود جريمة ضد الإنسانية.
ولقد نوه "جارودي" بهذا في صدر كتابه المذكور، فقال: "إنه بعد أكثر من نصف قرن صدرت خلاله كتبي عن أكبر دور نشر فرنسية، فإني مضطر اليوم لأن أطبع هذا الكتاب على نفقتي الخاصة، لأنني منذ عام 1982م قد خرقت أحد المحرمات عندما انتقدت السياسة الإسرائيلية التي يدافع عنها الآن قانون "جيسوفايوش" الغاشم الذي صدر في 13 يوليه 1990م، والذي يعيد في فرنسا جريمة الرأي التي سادت في عصر "نابليون الثالث" وجعلت قانونا قمعيا يعوض ضعف الحجج"[20].
هذا؛ وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من فبراير 1998م تمت محاكمة "جارودي" -بحسب ما ذكرته وكالات الأنباء ونشرته وسائل الإعلام المختلفة يومها[21]- وقد أصدرت محكمة باريس حكمها عليه بدفع غرامة قدرها مائة وعشرون ألف فرانك، (أي ما يعادل عشرين ألف دولار وقتها)، بناءً على اتهامه بالتشكيك في جرائم ضد الإنسانية في كتابه المشار إليه -في زعم المحكمة-، كما قضت بالإفراج عن الناشر "بيار جيوم" باعتباره غير مسئول عن توزيع الكتاب.
وجدير بالذكر أن هذا يحدث في فرنسا، بلد ما يُزعم بالتنوير وحرية الفكر والرأي!!
حجم الدافع العلمي: أمَّا بعد: فهذا هو حال أصحاب الاتجاه العلمي النزيه داخل الحركة الاستشراقية، ولذلك يستطيع الباحث أن يقرر باطمئنان أن موقع الدافع العلمي الخالص في الدراسات الاستشراقية يظل محدودا وضئيلا، حتى إنه ليتوارى في كثير من الأحيان من خريطة تلك الدراسات، كما أنه يظل كذلك محدود الأثر، بدرجة يعجز معها عن ترسيخ تيار عام في إطار دراسات المستشرقين، يقوى على مزاحمة تيار التحامل والتحيز ضد الإسلام، ويعدِّل من صورته الشائهة لدى الغرب. ========================== [1] الاستشراق وجه للاستعمار الفكري، د. عبد المتعال الجبري، ص 54. [2] السابق، ص 17 - 22. [3] الاستشراق والمستشرقون، د. مصطفى السباعي، ص 19. [4] السابق، ص 24. [5] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ص 43 - 44. [6] يراجع: صور استشراقية، د. عبد الجليل شلبي، ص 98 - 216، دار الشروق القاهرة، ط الثانية 1406هـ - 1986م، وقد عرض لكتاب المستشرقة المذكور بتفصيل وتوسع، وأطال في الكشف عمَّا احتواه. [7] المستشرقون والإسلام. زكريا هاشم زكريا. ص 13. [8] المستشرقون، للعقيقي 1/123 - 124. [9] أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، د. علي محمد جريشة، محمد شريف الزيبق، ص 29، دار الاعتصام - القاهرة. نقلا عن: التبشير والاستشراق، محمد عزت الطهطاوي، ص 67. [10] المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، ملحق بكتاب الفكر الإسلامي الحديث، ص 476. [11] حاضر العالم الإسلامي، تأليف لوثروب ستودارد، ترجمة عجاج نويهض 1/37، من حواشي الأمير شكيب أرسلان على الكتاب. [12] الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 448. [13] السابق، ص 454. [14] يقصد القرن العشرين، حيث ولد "جولد زيهر" سنة 1850م، وهلك سنة 1921م. [15] دفاع عن العقيدة الشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، ص 17، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، ط الخامسة 1408هـ - 1988م. [16] الاستشراق والمستشرقون د. مصطفى السباعي، ص 25. [17] راجع: الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، ص 55 - 56، دار وهبة، القاهرة، ط الأولى 1407هـ - 1987م. وهو عبارة عن ترجمة لفصول مختارة من كتاب موجز في أدب علوم الإسلام للمستشرق "جوستاف بفانموللر". ولقد كان ينبغي على الدكتور "زقزوق" -فيما يظهر لي- أن لا يقوم بترجمة كتاب أو أجزاء منه، ثم يعمد إلى اسم مغاير لِمَا سَمَّاه به مؤلفه، من دون أي داع، ويضع اسمه على الغلاف موهماً القارئ بأنه مَنْ قام بالتأليف، وفي حالتنا هذه كان أجدر به أن يُسَمّي ترجمته هذه -مثلاً-: "فصول مختارة من كتاب موجز في أدب علوم الإسلام؛ للمستشرق جوستاف بفانموللر" ثم يضع اسمه مشيراً له بأنه المترجم.. هذا ما يتمشَّى مع الأعراف الواجب مُراعاتها في إطار منهج البحث العلمي، وهو ما لا ينقص من جهده ولا قدره شيئاُ، فليتأمَّل!!. [18] راجع ترجمة ما كتبه المستشرق "بفانموللر" بهذا الخصوص في كتابه موجز في أدب علوم الإسلام، الذي ترجم بعضه د. محمود زقزوق تحت عنوان الإسلام في تصورات الغرب، ص 85، 86. [19] الاستشراق والمستشرقون، ص 19. [20] راجع: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ص 5 وما بعدها، ترجمته عن الفرنسية ونشرته بالعربية: دار الغد العربي - القاهرة، ط السابعة 1996م. [21] نُشِر هذا في جميع وكالات الأنباء والصحافة الصادرة في هذا التاريخ، وقرأته يومها بنفسي، ومن يراجع أية صحيفة صادرة في ذلك اليوم -سواءً أكانت عربية أم أجنبية- سيجد فيها هذا الخبر مفصلاً.
|
|