تحرير العلم والتقنية
المطلوب تحرير «فهمنا وتصوراتنا » للعلم والتقنية والتنمية من آراء واقتناعات
وأساطير وخرافات المتخصصين بالعلم والتقنية، فهؤلاء متخصصون في فروع
من العلوم والهندسة وليسوا متخصصين في عالم العلم والتقنية والتقدم العلمي
وتجارب الدول في التطور العلمي وكيفية ربط العلم بالتنمية، فكثير من هؤلاء بل
وغيرهم ظنوا أن التقدم العلمي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاختراعات والاكتشافات
أو ما يسمى البحث والتطوير وهذه خرافة، لأن العلم أكبر بكثير من «الاختراعات
والاكتشافات »، فهناك تراكم علمي صناعي وزراعي وإداري وتخطيطي واقتصادي
وغير ذلك تم بناؤه خلال المئتين سنة الماضية، ولأن المطلوب هو أن تتقدم دولنا
النامية علمياً ولسنا في مجال الحديث عن كيفية تحقيق التقدم العلمي العالمي،
فالاختراعات لا تعتبر أولوية بالنسبة لنا إذن علينا أن نعمل ثورة علمية في دولنا
تحررنا من الضياع الذي صنعه بعض المتخصصين بالعلوم والهندسة والذي حدث،
لأنهم شاهدوا ما نستورده من الغرب من سيارات وأجهزة وطائرات وأسلحة وأدوية
وغير ذلك وما يحدث فيها من تطوير وأبحاث وظنوا وظننا معهم أن الصناعة هي
التقدم والتنمية، وأن البحث والتطوير هو عمودها، وأن علينا أن نسعى لأن تكون لنا
القدرة على الاختراع وبناء المصانع، وأصبحنا عندما نتكلم عن العلم والتقدم العلمي
والأبحاث العلمية نقصد المجالات العلمية البحتة أي العلوم والهندسة بل لا نعتبر
علوم الإدارة والاقتصاد والتعليم والتدريب والسياحة... الخ علوم، وتكلمت دولنا
عن خطة العلم والتقنية وأحياناً سياسة العلم والتقنية وسيطر المتخصصون في
العلوم والهندسة على هذا المجال منذ خمسين سنة إلى يومنا هذا ولازال احتلالهم
مستمراً ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في أن يحققوا خدمات حقيقية للتنمية وهذا
ينطبق على من عمل منهم في جامعات أو معاهد بحثية أو مستشارين للحكومة.
وهذا أدى إلى إهمال الدراسات العلمية والمعاهد العلمية في مجالات الاقتصاد
والإدارة والتعليم وغير ذلك، فتخلفنا فيها كثيراً وزاد الطين بلة أن الكثيرين يتكلمون
في هذه المجالات، لأنهم يعتبرونها سهلة فكثيرين يعتبرون أنفسهم يصلحون أن
يكونوا مدراء حتى لو لم يكونوا متخصصين بالإدارة والجميع يتكلمون في السياسة
ويحددون مواقفهم حتى لو لم يكونوا متخصصين في السياسة، ومثل ذلك يقال عن
الفتاوى الاقتصادية أو من يعطيك نصائح اجتماعية أو تربوية أو عقائدية، ولم نكن
نعلم أن التطوير الإداري أهم بكثير للدول النامية من التطوير الصناعي فقد قيل
«الدول المتخلفة هي الدول المتخلفة إدارياً » وإذا ذهبنا للدول الغربية المتقدمة علمياً
ورأينا الواقع بشموله وليس الواقع الصناعي والتطويري فقط وجدناها متقدمة
في علم التخطيط وتطبيقاته وعلم الاقتصاد وتطبيقاته وعلم الإدارة وعلم التعليم
وعلم السياحة وعلم العقار... الخ وأن قطاع السياحة فقط يحقق لبعض دولها
عشرات المليارات من الدولارات إذن لنحرر العلم من سيطرة أهل العلوم والهندسة
ولنجعل السيطرة للإداريين والاقتصاديين والتربويين... الخ ولنوجد المعاهد العلمية
الإدارية وغيرها، ولتتحرك المعاهد الإدارية لتطوير أنظمتنا الإدارية في الحكومات
والوزارات والمؤسسات والمدارس والمستشفيات ولنقتنع بأهمية التسويق فإذا كان
عندك مصنع كبير به أحدث التكنولوجيا، فإن بضاعته ستتكدس إن لم يجد تسويق
فعال، وسيعجز عن دفع رواتب العاملين ولنصرف الأموال الكثيرة على الدراسات
العلمية في مجال السياحة حتى نطور هذا القطاع الهام وسنجد إذا تعمقنا في عالم
العلم والتقنية أن بإمكاننا شراء أحدث المصانع البتروكيماوية والأدوية والمنظفات
والسجاد والأثاث وغير ذلك إذا كنا نملك المال فالسوق مفتوح ولسنا محرومين من
الصناعات والمصانع والمنتجات الحديثة وأن شراء المصانع أرخص بكثير من صناعتها
وأن لا نصيب لنا في النجاح في عالم الاختراعات والاكتشافات، لأنها تتطلب أولاً:
قاعدة علمية قوية وهي غير موجودة، وتتطلب ثانياً: أموال طائلة وثالثاً: ليست
مرتبطة بقطاعنا الصناعي، لأنه ضعيف وليس قادر على استثمار ما ننجح فيه
من اختراعات وسنعلم أن الجوانب الاقتصادية والإدارية يمكن أن تنهض بالزراعة
والصناعة أكثر من الجوانب العلمية البحتة، وإذا حققنا ذلك ستصفق الشعوب لأهل
«العلم » وستدعمهم بالمال والنفوذ على ما قدموه من خطط ومقترحات وتوصيات
ساهمت في تقدم التنمية.
تطوير إداري حقيقي
الأغلبية الساحقة من المدراء العرب بالحكومات والمؤسسات والشركات ليسوا
متخصصين في علم الإدارة، فكيف نتوقع منهم عمل تطوير إداري وهم غير ملمين
بأساسيات علم التخطيط وعلم الإدارة؟! وإذا حصل بعضهم على بعض الدورات
التدريبية أو قرأ في كتب الإدارة فهذا لا يعني أنهم أصبحوا مؤهلين إدارياً،
فالتخصص بعلم الإدارة يحتاج سنوات من التفرغ، والعلم درجات والجهل درجات،
ومن هو متخصص من المدراء بعلم الإدارة لا يعني أنه خبير أو متميز أو قادر على
إحداث تطوير حقيقي، فقد يكون من النوعية التي لم تطور علمها بعد التخرج، وإذا
أدركنا أن الجزء الأكبر من التخلف الإداري لا يرجع إلى وجود مسئولين فاسدين
وإن كثيراً من المسئولين مخلصون ولكنهم جهلاء بعلم الإدارة وإذا قُدم لهم مقترحات
تطويرية إدارية لن يستطيعوا تقييمها وكثيراً ما يرفضون المقترحات المفيدة سواءً
جاءت من موظفين أو مستشارين أو غيرهم وقد يقبلون مقترحات خاطئة جاءت
من موظفين أو مستشارين أو غيرهم إذن سيصبح التطوير الإداري الحقيقي حلماً
لن يتحقق وسنجد بدلاً منه تغييرات يحدثها المسئولين «المخلصين » في الهيكل
التنظيمي أو الإجراءات والسياسات أو الحوافز أو الصلاحيات أو غير ذلك، ولكن
تأثيرها في تحقيق التقدم محدود بل قد تجعل الأوضاع أكثر سوءاً وقد يقول قائل:
يتطلب التطور الإداري توظيف متخصصين في علم الإدارة في كل وزارة ومؤسسة
وأقول هذا موجود في كثير من الوزارات والمؤسسات ولكن لم يظهر تأثيرهم إلا
بصورة محدودة، لأن ليس لديهم الصلاحيات أو القدرات أو يُرفض ما يقدمونه
من مقترحات وهنا نقطة مهمة وهي أن نسبة المتميزين إدارياً من كل المتخصصين
في علم الإدارة لا تزيد عن 5%، أي احتمال أن نحصل على متميزين في كل وزارة
أو مؤسسة هو احتمال ضعيف، أي الأغلبية الساحقة من المتخصصين في مختلف
التخصصات عاديين لم يجتهدوا كثيراً في تطوير خبراتهم النظرية والعملية ولا
يقود التنمية إلا المتميزين أما الآخرين فهم منفذين.
وأعتقد أن التطوير الإداري الحقيقي يتحقق إذا جمعنا مئات من أفضل
المتخصصين بالإدارة وعملنا معهد أو معهدين للدراسات الإدارية وطلبنا منهم عمل
المقابلات الكثيرة مع المسئولين والموظفين والعملاء والقطاع الخاص وغيرهم ثم
التعرف على تجارب الدول المتقدمة في التطوير الإداري ثم عمل الدراسات الميدانية
والنظرية الكثيرة لتشخيص واقعنا الإداري ووضع العلاج له ثم إعطاء هذا العلاج
للوزارات والمؤسسات والقطاع الخاص على جرعات من الخطط والبرامج والقرارات
ومراقبة تنفيذ هذه الجرعات، وإجراء مزيداً من الدراسات والتعديلات والتطويرات
وسيحكمون في ما يقدم لهم من مقترحات وآراء متناقضة بين المسئولين والموظفين
وغيرهم لأنهم المؤهلين علمياً للحكم على صواب الآراء من خطئها لأنهم متخصصون
ويعملون بصورة جماعية ويقومون بإجراء الدراسات ثم يصدرون أحكامهم وبهذا
تقل كثيراً الاختلافات الإدارية ويصمت كثيراً من المسئولين فلا يفرضون آراءهم
نتيجة قوة منصبهم فعلم المعاهد العلمية للدراسات الإدارية أكبر من علمهم بكثير،
وتتميز هذه المعاهد بتفرغها الكامل للدراسة والمقابلات والتفكير والمعرفة بالواقع
الإداري لكل مؤسسة وهذا أمر غير متاح لأساتذة الجامعات المتخصصين بالإدارة
لأنهم مشغولين بالتدريس وليس متاح للمكاتب الاستشارية الأجنبية، لأنها تأتي
لفترة محددة فهي ليست ذات علم قوي بتفاصيل الواقع الإداري لوزارة أو مؤسسة
ناهيك عن دولة وليست لديها الاستمرارية للمراقبة والتعديل والتطوير وحتى
يستمع المسئوولون وغيرهم لما تقول المعاهد العلمية الإدارية فيجب أن تكون تابعة
للحاكم أو لرئيس الوزراء أما إذا كانت تابعة لوزير فإنها تضعف كثيراً ولا تستطيع
تقديم خطط أو قرارات تخالف آراء الوزير إذن يجب أن تكون مستقلة، وتبعث
تقاريرها للحاكم ولرئيس الوزراء وأيضاً للوزير والوكلاء وكل مسئول مخلص سيقبل
آراءها وسيسعى لتنفيذها وستكون كثيراً من آرائها صحيحة وما ينطبق على المعهد
العلمي للدراسات الإدارية ينطبق على المعهد العلمي للدراسات الاقتصادية والمعهد
العلمي للدراسات التعليمية والمعهد العلمي للدراسات الصناعية... الخ وهذه المعاهد
ستكون عقول وعيون الدولة وستكون «السلطة العلمية » في الدولة فهي متفرغة
كلياً لجمع المعلومات الصحيحة، وإبعاد المعلومات الخاطئة، ومتفرغة للمقابلات،
وقراءة التقارير، وعمل الدراسات، والنزول يومياً للواقع ونقل التجارب الناجحة من
مؤسسة إلى أخرى فلا تنمية إدارية أو اقتصادية أو تعليمية... الخ بلا عقل علمي
ورصيد علمي كبير، ومن أهم مزايا المعاهد العلمية المتخصصة أنها ستسكت كثيراً
من الآراء الخاطئة التي نقرأها في مجال التخطيط والإدارة والاقتصاد والتعليم
والزراعة، والتي نسمعها في اجتماعات رسمية أو نشاهدها في قنوات فضائية
ولن تصبح المرجعية العلمية من اختصاص وزيراً أو مستشاراً أو نائباً أو حكومة أو
معارضة أو حزب أو جماعة أو أستاذ جامعي فلا يُفتى ومالك في المدينة، ومالك
في هذا العصر هو المعاهد العلمية الكبيرة المتخصصة.
هل تريد إعادة اختراع العجلة؟
قال لي صديق مهندس ومثقف عندما تكلمت معه عن أهمية إيجاد معاهد علمية
كبيرة ومتخصصة لتقود التقدم العلمي والتنمية هل تريد إعادة اختراع العجلة؟ هناك
دول مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة حققت تطور علمي وتنموي فلنذهب إليهم ونتعلم
منهم، أي علينا أن نرسل وفود لهذه الدول لنعرف كيف تقدموا ونقلدهم، وأقول
إن عقول وفودنا أصغر حجماً من الوعاء العلمي المطلوب لتحقيق التقدم العلمي
الذي تحتاجه التنمية، فالعلم محيطات من المعلومات والحقائق والتجارب، فكيف
إذا أضفنا لذلك العلم المرتبط بتجارب الغرب وكوريا وماليزيا وإذا أضفنا أيضاً علم
الواقع المحلي لدولنا في مجال الإدارة والتعليم والصناعة والزراعة والاقتصاد... الخ.
إذن نحن بحاجة إلى معاهد كبيرة ومتخصصة لتستوعب كل ذلك وهذا أمر بحاجة
إلى عمل دراسات علمية كثيرة جداً وذات نوعية عالية جداً ومن أفراد متميزين جداً
وهذا لا يتوفر في الوفود التي سنرسلها، فالتنمية تحتاج علم كثير وتفاصيل كثيرة
وعلماء متميزين وصبر ودراسات كثيرة حتى نعمل خطط ونتخذ قرارات تطويرية
وبالتأكيد أننا إذا أرسلنا وفود ستتعلم من الدول الناجحة، وبالتأكيد أننا زرنا كثيراً
من هذه الدول وكذلك أرسلنا عشرات الآلاف من طلبة البكالوريوس والماجستير
والدكتوراه للدول المتقدمة هذا غير الدورات التدريبية ومع هذا عجزنا عن رسم
خرائط طريق للتنمية الإدارية والتعليمية والصناعية والزراعية... الخ فالاختلافات
في الآراء هي القاعدة والتناقض في الأولويات أوضح من الشمس، بل لو سلطنا
الأوضاع على الواقع التعليمي المحلي فقط لوجدنا أن المتخصصين في التعليم
كثيرين ولكنهم مختلفين في تشخيص الواقع ناهيك عن الاختلاف في الخطط
والعلاج فهم لا يعرفون نسبة الغش في كل مدرسة أو على مستوى الوطن؟ وليسوا
متفقين على المناهج التي نحتاجها؟ ولا يعرفون العلاقة بين التعليم وسوق العمل؟
ولا يعرف الوزير أو الوكيل الكفاءة الإدارية العلمية لمدراء المدارس وليس عنده
دراسات في هذا الموضوع؟... الخ، وإذا لم يكونوا يعرفوا واقع عاشوا فيه عقود
هل سيعرفون الخطوط العريضة لواقع كوريا التعليمي في أيام؟ ومن قال أن تقليد
تجارب الآخرين هو من العلم أصلاً فالخطط الكورية أو الأمريكية أو السنغافورية
لا يمكن تطبيقها في مصر أو السعودية، لأن الاختلافات كثيرة جداً بين مصر
وكوريا في الأوضاع السياسية والإدارية والمالية والتاريخية والنفسية والبشرية...
الخ، فالإصلاح والتطور أكثر تعقيداً وتشعباً وعمقاً مما يراه الكثيرين، ولابد من
وجود معاهد علمية متخصصة تفكر وتدرس وتسأل وتناقش حتى تصل إلى ما
يناسبنا من قرارات وخطط.
وأرجو ألا نبسط الأمور فتحويل الكويت مثلاً إلى مركز مالي كسويسرا أمر يحتاج
كثير جداً من العلم ويحتاج أيضاً كثير من العمل والإرادة.
وأيضاً الظروف المناسبة فكيف بتنمية شاملة في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية
والتعليمية والمالية والإدارية والصناعية والزراعية والقانونية... الخ إذن عمل زيارات
لدول نامية وتقليدهم أمر ليس بصحيح وما أقوله لا يتعارض من أننا سنتعلم الكثير
من هذه الدول ولكن لوجود جوانب أخرى كثيرة منها: معرفتنا بالواقع، ومعرفتنا
بالعلوم بشكل عام، ومعرفتنا بإمكانياتنا وظروفنا فإن الأمر يحتاج معاهد كبيرة
تدرس كل ذلك ومن ليس مقتنع بذلك أقول جرب نقل نظام التعليم الياباني لدولة
عربية وتأكد أن هذا سيؤدي إلى كارثة لا نهضة تعليمية ولو حاولت دولة عربية
تطبيق النظام الزراعي الأمريكي لما استطاعت بل لحصلت ثورة من المزارعين وليس
الحل أيضاً أن يقوم وزير التعليم أو غيره بعمل بلادنا حقول تجارب لتغيرات جزئية
غير مدروسة جيداً وكل ما في الأمر أنه استوردها أو اقتنع بها فهذا خطأ وأيضاً لن
يحقق نهضة شاملة ولكنه قد يحقق «دعاية » صحيحة أو خاطئة لوزير أو لحكومة.
خبراء اقتصاديون فاشلون
قال الرئيس السوفيتي الأسبق غورباتشوف 1985 - « 1990 إن الرئيس الفرنسي
له مائة صديقة بينهن واحدة مصابة بالإيدز لا يعرفها ميتران والرئيس الأمريكي
له مائة حارس بينهم إرهابي لا يعرفه بوش أما أنا فعندي مائة خبير اقتصادي
بينهم واحد ذكي لا أعرفه «إذا تركنا جانب السخرية وركزنا على الثمن الباهظ
الذي دفعه الإتحاد السوفيتي نتيجة حدوث انهيارات اقتصادية كبيرة نتيجة تطبيق
القيادة السوفيتية لتوصيات خبراء اقتصاديون ولجان اقتصادية لتحويل الاقتصاد
الشيوعي إلى اقتصاد رأسمالي فإن الدرس المستفاد أن رصيد الإتحاد السوفيتي
من العلم في مجال التحول من اقتصاد شيوعي إلى اقتصاد رأسمالي كان رصيد
ضعيف مع أن الإتحاد السوفيتي دولة عظمى ولديه خبراء ومستشارين وجامعات
ووزراء ومدراء ومكتبات...... إلخ.
وتعالوا نسلط الأضواء على هذا الموضوع من خلال ما يلي:
1 - النظرة الجزئية: قد يكون صاحب شهادة الدكتوراه، ناجح كأستاذ جامعي
ولكن هذا ليس دليل على أنه سينجح في فهم الاقتصاد المحلي، فعلم وخبرة الخبراء
الاقتصاديين وأستاذة الجامعات في الاقتصاد محدودة فبعضهم لديه خبرة نظرية
وبعضهم لديه خبرة عملية جزئية وهناك نقص كثير في المعلومات وضعف في معرفة
الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي تم بناءه خلال عقود بل أكثر من قرن، فالاقتصاد
الرأسمالي شبكة «معقدة » من العلاقات أي تحتاج علم كثير حتى تعرفه والواقع أن
الاقتصاد الشيوعي السوفيتي فيه حقائق كثيرة لا يعرفها الاقتصاديون السوفيت،
ولهذا كانت القرارات والخطط التي تم تنفيذها خطط فاشلة وأضرت بالاقتصاد
السوفيتي أشد الضرر، وهذا يعني أن على الدول النامية أن تزيد رصيدها العلمي
بأسرع وأقوى ما يمكن حتى تحقق التنمية، وتعالج مشاكلها بطريقة صحيحة وهي
دول تدفع حاليا ثمن جهلها الاقتصادي والإداري والتخطيطي والزراعي.... إلخ
وهذا لا يتعارض بالطبع مع وجود بعض النجاحات والإنجازات، فأرجو ألا تعتقد
الدول النامية أن ما عندها من رصيد وطني علمي حتى ولو استعانت بمستشارين
أجانب هو رصيد كافي لتحقيق التنمية .
2 - التقدم العلمي أولا: تعلمت الصين من الفشل الاقتصادي السوفيتي
وأدركت أن التحول من اقتصاد شيوعي إلى اقتصاد رأسمالي ليس عملية سهلة
تحتاج مجموعة من الخبراء الاقتصاديين أو تشكيل لجنة أو الاستعانة بمستشارين
أجانب وأدركت أن التنمية عملية شاملة وليست فقط اقتصادية وأن الرصيد العلمي
المطلوب للتنمية كبير جدا ولابد من توفيره من خلال عمل دراسات كثيرة ومشاورات
كثيرة وصبر وتعمق وشمولية، فالقضية ليست فقط إخلاص وقرار سياسي، فالعلم
هو العمود الفقري للتنمية وأي خطط وقرارات بدون علم ستكون أثارها سيئة
على الدولة كما حدث مع الإتحاد السوفيتي ولهذا نجحت الصين اقتصاديا وأيضا
سياسياً لدرجة كبيرة، وأصبحت بعد ثلاثين سنة من الاجتهاد في العلم أولاً والعمل
ثانياً ثاني أكبر اقتصاد في العالم ، وما حدث في الإتحاد السوفيتي لازال يحدث كل
يوم في كثير من الدول، النامية حيث ترتكب أخطاء كبيرة في الاقتصاد والسياسة
والإدارة والتعليم... إلخ، من قبل حكومات ومؤسسات وشركات وأفراد حتى مع وجود
إخلاص كبير في بعض هذه الدول وفشل المخلصين أدى إلى زيادة نسبة اليائسين في
العالم العربي، لأنه أضاف فسادا للفساد الذي ينتجه الفاسدين من العرب والأعداء
وتتضح حالة الضعف العلمي فينا كأفراد فكم فرد منا أدرك ضعفه العلمي عندما
بنى منزلا أو عمل مشروع صناعي أو زراعي أو نشاط فكري أو سياسي فأدرك
أنه كان يجهل الكثير وأن الأمر أكثر صعوبة مما كان يتوقع ولهذا يقول كثير من
هؤلاء تعلمت الكثير ولكن بعد أن ارتكب أخطاء إذن إيجاد حلول لمشاكلنا وتحقيق
طموحاتنا يحتاج كثير جدا من العلم غير المتوفر لأغلبية الدول النامية ولنتذكر
أنه إذا كان هناك خلاف كبير بين فردين فإن هذا يحتاج جهود من القضاء لمعرفة
الحق من الباطل ؟ فكيف عندما يكون هناك خلافات كبيرة في الشعب وأيضا بين
القياديين في الحكومة والمعارضة حول قضايا كثيرة وكبيرة ومتشعبة.
3 - محيطات العلم: إذا سلطنا الأضواء على الواقع الاقتصادي أو الإداري أو
التعليمي أو الزراعي أو الصناعي أو العقائدي أو الاجتماعي أو غير ذلك سنجد
أنه واقع كبير وعميق ومتشعب وبه أرقام كثيرة نجهل حاليا 90 % منها وتؤثر بعض
عناصره على بعض، فالاقتصاد له علاقة بالسياسة وبالكفاءات العلمية والمعنويات،
وسنجد أن الواقع الاقتصادي السعودي كبير، والواقع التعليمي المصري عميق وكبير،
والواقع السياسي الجزائري متشابك وعريض، فكم من الدراسات والاجتماعات
والمشاورات نحن بحاجة لها حتى نعرف جوانب كثيرة من كل ذلك، فالتعليم يعني أن
نتعمق بالمناهج وبكفاءة المدرسين، وجودة الإدارة المدرسية، ودور الأسرة في التعليم
وظروف الطلبة وقدراتهم وسوق العمل وما يحتاجه وغير ذلك وإذا نظرنا للعلم من
ناحية نظرية وجدنا تراكم عالمي كبير جدا جدا في علوم الصناعة والزراعة والبناء
والاتصالات والمواصلات والإدارة... إلخ، تم خلال القرنين الأخيرين وأن رصيد
الدول النامية من هذا التراكم العلمي محدود جدا وكذلك رصيدها في معرفة
واقع الدول المتقدمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وصناعياً وعقارياً وإدارياً وطبياً
وتخطيطياً محدود جدا، ويمكن تقسيم العلم إلى علوم نظرية ضخمة وواقع محلي
ضخم وواقع عالمي ضخم وأصبح الفريق العلمي أقزاما أمام حجم العلم، فما بالك
بالعالم والمتخصص ولهذا لا يستطيعون أن يفتون ويقدمون الاستشارات في كثير
جدا من المواضيع، وهذا ليس نقصاً في كفاءتهم بل لأن العلم أصبح محيطات وزاد
الطين بله أن اكتساب علم عن كيفية بناء مصنع بنسبة 80 % لا يكفي لتحقيق النجاح
بل يعني فشل المشروع فإذا تعلمت كيف تصنع سيارة بنسبة 80 % فلن تستطيع
صناعتهاً وهذا يفسر فشل كثير من مشاريعنا وخططنا وقراراتنا حول البطالة
والتعليم والصناعة والزراعة وغير ذلك فهي لا تملك حتى 40 % من العلم المطلوب
لنجاحها.
4 - الرصيد العلمي العربي: أنفق الغرب آلاف المليارات من الدولارات والأيام
على الأبحاث والدراسات العلمية في مختلف المجالات المادية والفكرية ويكفى أن
نعرف أن الولايات المتحدة تصرف حاليا حوالي أربعمائة مليار في السنة على
البحث العلمي ويكون نصيب بعض المجالات كأبحاث النفط واستخلاصه من الرمال
عشرات المليارات إن لم يكن أكثر ولدى الولايات المتحدة آلاف الجامعات والمعاهد
العلمية، ولديها عشرات الملايين من المتخصصين، ولديها قطاع خاص لا يرحم،
ولديها مكتبات وأنظمة ومعلومات متطورة، ولديها أرقام ودراسات عن واقعها وعن
العالم وتستقطب الكفاءات الأجنبية وتعطيها المزايا الكثيرة، ولديها التخطيط
المتطور والإدارة المتميزة ويتعامل الغرب بجدية مع العمل، فالعامل الفني المتخصص
في استزراع الأسماك في النرويج حصل على تدريب لعدة سنوات لإتقان هذا العمل
في حين أن العامل العربي لا يتم تدريبه إلا عدة أيام على نفس العمل ويعاقبون أشد
العقاب على الغش وتتحرك الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير نظامها التعليمي
المتطور أصلا إذا كان ترتيبه الرابع على العالم وتؤلف كتاب «أمة في خطر » في حين
نحن نتساهل مع الغش بل قد نحميه ولا نبحث ولا نشجع الكفاءات الوطنية فما
بالك بغيرها ويصرف العرب على الأبحاث العلمية أقل من ستة مليارات دولار سنوياً
ويتم الصرف بطريقة فوضوية تجعل الفائدة المتحققة قليلة جدا ولدينا أربعمائة
جامعة أغلبها جامعات صغيرة وضعيفة ولا يوجد فيها أبحاث علمية وقيل إن الغرب
يكافئ الناجح ويساعد الفاشل على النجاح في حين أن العرب يعملون على أن يفشل
الناجح ونجاح الغرب في أخذه بالأسباب المادية والمعنوية جعله يسيطر على كثير
من مفاتيح الصناعة والزراعة والأموال والقوة العسكرية والطب وغير ذلك ولا
يظلم ربك أحد ورصيدنا من المتخصصين محدود، ومن العاملين المجتهدين محدود،
وعدد الدراسات العلمية عن واقعنا محدود جدا ومع هذا نسمع كثيرا من المسئولين
والمثقفين العرب يقولون “ إن عندنا ما يكفى من الدراسات والرصيد العلمي وأن
ما ينقصنا هو فقط القرار السياسي والتنفيذي” وأقول لهؤلاء اجمعوا الدراسات
العلمية عن أي موضوع هام وستجدون أنها قليلة جدا فنحن لا نرى واقعنا ناهيك
عن العلم النظري أو ما يحدث في العالم، وإذا سلطنا الأضواء على رصيد الحكومة
أو الوزارة أو المؤسسة أو الشركة أو الحزب السياسي أو الآباء أو الأمهات أو المعلمين
أو المهندسين أو الأطباء أو الإداريين والتجار أو الشباب أو غيرهم سنجد رصيدا
متواضعا فكم منا من يقرأ كتب في تخصصه؟ وكم منا من حصل على دورات
تدريبية متميزة؟ وكم منا وجد خبراء يدربونه ويعلمونه؟ وهذا يعنى أن رصيدنا
العلمي كمؤسسات وأفراد ومسئولين غير قادرين على وضع خطط وأخذ القرارات
وكم سمعت وقرأت وشاهدت شبابا عربيا يتكلم في السياسة ورصيده من العلم
فيها محدود جدا وقل مثل ذلك عمن يتحدثون في الإنترنت والتويتر والقنوات
الفضائية والجرائد وغير ذلك، وأقول نعم عندنا علم ولكنه لا يزيد عن 20 % مما
عند الغرب وهذا يعنى أننا في مشكلة كبيرة سواء على مستوى الحكومة أو على
المستوى الفردي، ونحن نفتقد مع هذا الرصيد الضعيف وجود نظام يجعل عقولنا
تعمل بصورة جماعية فرصيدنا الضعيف متفرق ومتشتت وكثير من الدراسات
والكتب العربية أو الأجنبية المتعلقة بواقعنا لا نعرف حتى أسماءها ناهيك عن
الحصول عليها فهي موزعة في أماكن كثيرة وسوق العلم كاسدة فنحن أزهد الناس
في الكتب المفيدة والكفاءات المتميزة فلا نشجعهم لا معنويا ولا ماديا فكيف نحقق
تنمية بلا علم قوي ؟ وكيف نعالج الفقر والبطالة بلا علم قوي؟ وكيف نحل خلافاتنا
الفكرية والسياسية بلا علم قوي؟ وما قلته حقائق واقعية تثبتها الأرقام وغيرها
ولكن لا يعني هذا أن نستسلم بل يجب أن يكون ذلك دافع لنا للإصلاح فلنجمع
الأموال الكثيرة لزيادة الرصيد العلمي لدولنا ولنا كأفراد ولنعلم أنه عندنا والحمد
لله الكثير من الكفاءات البشرية والإمكانيات الهائلة التي إذا تم استغلالها ستتحقق
فقرات كثيرة وسريعة حتى لو كان الطريق طويل.
5 - الآراء والظنون: علينا أن نفرق بين الرأي والحقيقة وبين الظن واليقين، لأن الفرق
بينهما شاسع ونريد أن نقلل من عدد الآراء الموجودة، ونزيد من عدد الحقائق والعلم
واليقين فالعلم يوحد والجهل يفرق ونجد العلم عند المتخصصين والحكماء ممن يعملون
دراسات كثيرة ولديهم خبرة واتصال بالواقع والآراء نجدها عند غير المتخصصين
في المشكلة من مسئولين وموظفين وعند المتخصصين الذين يقدمون آراءهم بلا دراسة.
والعلم تقدمه مؤسسات متخصصة كالمعاهد العلمية إن كانت مبنية على أسس صحيحة
والآراء تجدها في كل مكان وكم من المسئولين من يستمع
إلى آراء متناقضة فيختار أحدها وهو لا يدرك أنه ليس متخصص في هذا المجال
حتى يكون مؤهلا لأن يختار وتقديم الآراء لا يحتاج لأي مؤهلات بل إلى كلاما يبدو
جميلاً ومقنعاً ومنطقياً وكم منا من يقتنع بآراء لم يتعمق في دراستها فالتعمق بالعلم
متعب ويحتاج دراسات وقراءات وإشراف من متخصصين والنزول لأرض الواقع
وإحدى أصعب المشاكل التي تواجه التقدم العربي هو اقتناع الحكومة أو المجلس
النيابي أنهم فاهمين واعتقاد المؤسسة أنها فاهمة واعتقاد السياسي أنه فاهم
الواقع السياسي واقتناع من له عقيدة أنه فاهم العقائد وعقيدته هي الصحيحة
واعتقاد المعلم أن الخطأ من وزارة التربية واعتقاد الزوج أن زوجته مقصرة وأنه
قام بواجباته واعتقاد الكثيرين بأن الحل العلمي هو عند المستشار الأجنبي أو عند
اللجنة التي تم تشكيلها أو فريق التخطيط الرئيسي أو عند المدير العام أو الوزير أو
الحاكم إذن عندها مشكلة اسمها (أعتقد أني فاهم ولا احتاج لمزيد من العلم لأتخذ
القرار( وكم من حاكم عربي في القرن العشرين قاد بلاده للدمار أو الفشل الكبير،
لأنه يعتقد أنه فاهم فقد استعان بمستشارين فحدث له ما حدث لغورباتشوف مع
مستشاريه الاقتصاديين بل أكثر وكان علماء الإسلام في تخصصهم كثيرا ما يقولون
لا نعلم وقال أحد الحكماء (إن هؤلاء يفتون في أمور لو حدثت في عهد عمر بن
الخطاب لجمع لها أهل بدر) وهناك علم وهمي وأقصد أن هناك تخصصات نتكلم
بها ونحن نظن أننا متخصصين فيها والأمر ليس كذلك فالمعلم ليس متخصص
بالمناهج حتى لو كان يتعامل معها والمدير ليس متخصص بالإدارة حتى لو عمل
بها ثلاثين عاما إن لم يكن تخصصه تخطيط وإدارة ومن يعمل أبحاث علمية ليس
متخصص في إدارة البحث العلمي أو التنمية حتى يتكلم فيهما، وأستاذ الجامعة
المتخصص في علم الاقتصاد ليس متخصص في الواقع الاقتصادي ومن شارك
في إعداد خطط خمسية أو تشغيلية ليس متخصص في علم التخطيط، فكل ما
عند هؤلاء آراء وإذا وجد علم فهو محدود لا يؤهلهم للقيادة في هذا المجال، وقد
تجد فرد ذهب للسياحة عدة مرات لتركيا وهذا لا يعني انه متخصص في السياحة
التركية فهو قد لا يعرف حتى عشرة بالمائة من المطلوب لتنظيم رحلة سياحية
ناجحة ولكنه بالتأكيد عنده بعض العلم الذي يمكن أن يفيد به من لم يذهب لتركيا
وإذا نظرنا لكثير من المسئولين وجدت أنهم لم يؤهلوا تأهيلا عميقا للوظائف التي
يعملون فيها وهذا يعني أن أغلب ما عندهم هو آراء ظنية وليست آراء علمية، وأنا
هنا أتكلم عن من نعتقد أنهم مؤهلين لا من نعرف أنهم وصلوا للمناصب بالواسطة،
وإذا تذكرنا أن كل مسئول بل كل متخصص يعرف تخصص واحد وبصورة جزئية
ولا يعرف عشرات التخصصات الأخرى وليس عندهم من الوقت ما يجعلهم قادرين
على معرفة كثير من المواضيع المختلفة والتخصصات المتشعبة سندرك أننا نعيش
في عالم الآراء وأن نصيب عالم العلم محدود في حياتنا ومؤسساتنا، فمثلا تجد
من يعطيك رأيا مقنعا حول الموافقة على إنشاء جامعات أجنبية في الدولة ويقوم
آخر بالاعتراض على هذا الرأي ويعطيك أيضا مبررات مقنعة ولكن العلم سيعطيك
رأيا واحد بالقبول أو الرفض أو القبول بشروط وقل مثل ذلك عن خطط وبرامج
وقرارات ومشاريع فمن السهل إعطاء مبررات حول هذا الرأي أو الرأي المعاكس
من خلال ذكر فوائد وتجاهل سلبيات أو ذكر أمثلة ناجحة ولكنها أخذت بصورة
سطحية أو جزئية أو تم تجاهل أمثلة فاشلة ويمكن أن يكون المتحدث جاهل فكرياً
وواعياً سياسياً أي يجهل سنن الله سبحانه وتعالى في الإصلاح والتغيير أو يجهل
أجزاء كبيرة من الواقع المحلي أو العالمي ومن الأدعية المشهورة: (اللهم أرنا الحق
حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه( وهذا يعنى أن بعضنا يرى
الحق باطلاً ويرى الباطل حقاً.
يتبع إن شاء الله...