اليهودية والاستغراب
ومما يدخل في الاستغراب الدِّينِي دراسة اليهود واليهودية، والتفريق بين الحديث عن اليهودية وعن اليهود، والتفريق أيضًا بين يهود الأمس ويهود اليوم، وتقرير إذا ما كانوا سواءً، وذلك على اعتبار أن اليهود واليهودية محدد مهم من محددات العلاقة بين الشرق والغرب.

وتقتضي الدراسة الموضوعية دائمًا العدل والقسط في الطرح والكشف عن الحق حيثما كان، حتى مع وجود العداوة الظاهرة بين اليهود والمسلمين، بنص كتاب الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].

ولا تتنافى هذه العداوة مع النظر إليها نظرة عادلة مقسطة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 8، 9]، بما في ذلك إيمان المسلمين باليهودية على أنها دين -في أصله- سماوي، جاء به موسى بن عمران -عليه السلام- مرسلًا لبني إسرائيل، موحى إليه بالتوراة، وما جاءت اليهودية على موسى بن عمران -عليه السلام- على ما هي عليه اليوم، فقد حدث بين ذاك الحين وهذا الحين اختلاف كبير، ولا يتم إيمان المسلمين إلا بإيمانهم بالأديان والأنبياء والرسل السابقين لبعثة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وذكر موسى بن عمران -عليه السلام- في القرآن الكريم أكثر بكثير من ذكر عيسى ابن مريم -عليهما السلام- ومحمد -صلى الله عليه وسلم- مجتمعين.

على أن دراسة اليهودية من منطلق استغرابي ديني تقتضي النظر فيما آلت إليه اليهودية، من محاولات تحويلها من ديانة إلى قومية، وكذا النظر في الصراع الداخلي لأحبار اليهود وحكمائهم في قبول هذه النقلة من عدمها، وبقاء بعضهم إلى اليوم على الفكرة التي تؤكد أن اليهودية دين أكثر من كونها قومية، فتقبل هذه الطائفة دخول غير اليهودي في اليهودية، بينما لا تقبل الطوائف الأخرى دخول غير اليهودي في اليهودية، ما لم يكن ذا أصول يهودية، أو ينحدر من أم يهودية، رغم محاولات اليهود في فلسطين المحتلة شراء الناس من غير اليهود ليكونوا يهودًا، بما في ذلك تهويد العرب في المواقع الحسَّاسة من فلسطين المُحتلَّة، وتهويد الأقليات في الوطن العربي، ودعوة اليهود العرب إلى الهجرة إلى فلسطين المحتلة.

كما يقتضي معرفة الطوائف اليهودية الرئيسية الثلاث؛ الأرثوذوكسية والمحافظة، والإصلاحية، مدى تغلغل الصهيونية في هذه الطوائف الثلاث، على اختلاف في مقدار التغلغل، ثم الوقوف على الأوهام الخمسة حول اليهود، التي يرى عبدالوهاب المسيري أنها أكثر الأوهام شيوعًا لدى النخب الفكرية في العالم العربي.

والأوهام الخمسة هي:
- العبقرية اليهودية.
- تهمة الدَّم.
- المؤامرة اليهودية الكبرى.
- بروتوكولات حُكماء صهيون.
- اللوبي (الدَّهلزة) اليهودي والصهيوني.


ولا تتوسَّع هذه الدراسة في التفضيلات، التي قد تخرج عن نطاق إثارة الموضوع من منطلق الدراسات الاستغرابية الدينية، لا الدراسات ذات العلاقة بمقارنة الأديان ودراسة الأديان عمومًا، بما في ذلك وجود تداخل بين التعاليم اليهودية والنصرانية، فيما يكون من قبيل شرعُ مَنْ قبلنا شرعٌ لنا، أو من قبيل إدخال تعاليم يهودية في النصرانية؛ قصدًا إلى المزيد من التشويه والتشويش، ويأتي الحُكم في ذلك كله في ضوء ما جاء في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من صريح المنقول وصحيح المعقول عن الديانتين، مقارنة بما جاء بالكتب المُنَزَّلَة الأخرى والتلمود وغيرها من المصادر الدينية الأخرى، على أن هذه الدراسة المُتَعَمِّقَة تقتضي الولوج في معرفة التلمود، فَمَنْ لم يقرأ التلمود لم يفهم اليهودية الحديثة، كما أفادني بذلك أستاذ الأديان سهيل زكار، ويتأتَّى هذا بعد معرفة الشأن اليهودي في المصادر الإسلامية المُعْتَبَرَة.