الرحلات العربية والاستغراب
ويصعب تحديد الانطلاقة الأولى للاستغراب، ولعلنا نستطيع القول: إن أول دراسة في الاستغراب في المعسكر الشرقي هي تلك التي نستطيع أن نردها لعالم هو محمد بن عياد الطنطاوي (1225 - 1278هـ/ 1810 - 1861م)، وذلك من خلال مؤلفه الذي كتبه في وصف روسيا وأهداه إلى السلطان عبدالمجيد، وأسماه: (تحفة أولي الألباب في أخبار بلاد روسيا) أو تحفة الاذكياء بأخبار بلاد الروسيا، وقد كتبه عام (1266هـ/ 1850م)، ويتناول في الكتاب وصفًا تفصيليًّا لرحلته من القاهرة إلى بطرسبورغ، ويتحدث عن انطباعاته خلال العشرة أعوام الأولى التي قضاها في روسيا، وقد قدم محمد عيسى صالحية لهذه الرحلة وحررها ونشرها بعنوان رحلة الشيخ الطنطاوي إلى البلاد الروسية (1940 - 1950م) المسماة بتحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا، علمًا بأنه سبق مؤلَّف الطنطاوي هذا مؤلَّفٌ أقدم منه في وصف روسيا، وهو كتاب (وصف الروسيا) للبطريرك مكاريوس الأنطاكي، يصف رحلته من سوريا إلى روسيا، والعودة منها والإقامة فيها، وكتبه ابنه بولصي الحلبي عام (1700م)، الذي كان مرافقًا له في هذه الرحلة، وبهذا يسبق عياد الطنطاوي بقرن ونصف.

إن أهمية الطنطاوي تنبع من أنه كان -ضمن أربعة عشر أستاذًا يدرسون اللغة العربية في بلاد الروسيا-، معلمًا ومتعلمًا، فاعلًا ومتأثرًا، ولعله أهم شخصية علمية عربية وجدت في روسيا في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، وأثَّرَتْ تأثيرًا فعالًا في الاستشراق الروسي، وفي الوقت نفسه درست ووصفت الحياة في روسيا من خلال مؤلفاته المختلفة.

وقد منحته الحكومة القيصرية وسام القديسة آنا (حنة) تقديرًا لجهوده العلمية في الاستشراق الروسي، وقد نشأت علاقة شخصية وزمالة بينه وبين المستشرق الألماني ج، م، جوتفالد (1813 - 1897م)، ربما ألقت بظلالها على موقف الشيخ من الاستشراق من منطلق التأثر والتأثير.

وقد تحدَّث المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 - 1951م) عن الطنطاوي، وأثنى على رحلته التي نشرها وأعجب بها، وتحدَّث عن أنها قد تكون أفضل كتب أربعة نشرها، يقول بعد حديثه عن كتبه الأربعة المفضلة ورحلة الطنطاوي رابعها: "غير أنه يبدو لي من حين لآخر -ولست أدري لماذا- أنني أفضل الكتاب الرابع على باقي الكتب الأخرى، وإنني كثيرًا ما أفتحه لأنظر إلى صورة الشخصية التي يدور الحديث حولها".

وتعاقب بعد الطنطاوي عدد من الأساتذة العرب لتدريس اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبورغ، فكان هناك سليم نوفل (1828 - 1902م)، وهو من طرابلس الشام، وقد كان في الجامعة اعتبارًا من عام (1860م)؛ أي: قبل وفاة الطنطاوي بسنة، وألَّف بعض الكتب التي لقيت نجاحًا.

وفي المدة نفسها درس اللغة العربية أحمد بن حسين المكي من (1856 - 1858م)، ثم عبدالله كلزي (1819 - 1912م) -وهو من حلب- قام بالتدريس أولًا في مدية أوديسا مدة قصيرة، ثم أمضى بقية حياته في بطرسبورغ، وقد قام بترجمة بعض أشعار الشاعر الروسي كريلوف من الروسية إلى العربية، وله كتاب في تدريس اللغة العربية (المحادثة الروسية - العربية طبع عام 1868م)، وتشمل القائمة اللواء جرجس مرقص وأنطوان خشاب وميخائيل يوسف عطايا وبندل جزي وتوفيق جبران قزما وكلثوم نصر عودة فاسيليفا، ضمن آخرين.

وإضافة إلى هؤلاء الأساتذة العرب المدرسين في الجامعة وجدت أحيانًا بعض الشخصيات العربية الإسلامية التي مارست دورًا في وسط الاستغراب الروسي، فلأسباب سياسية ظهر مثلًا جمال الدين الأفغاني (1254 - 1273هـ/ 1838 - 1897م)، الذي اتصل بالقيصرة إيكاترينا، ومكث في روسيا مدة أربعة أعوام، ثم غادرها إلى إنكلترا.

وخارج الإطار الروسي كانت هناك محاولات لفهم الغرب من قبل عدد من الكتاب العرب، من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي (1216 - 1290هـ/ 1801 - 1873م) في كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الذي طبعته دار التقدم بمصر سنة 1905م، وأعيدت طباعته مرارًا، وعبدالله فكري، وكذلك ما كتبه أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887م) بعنوان كشف المخبأ عن فنون أوروبا، وحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي (1868 - 1930م) إلى حد ما، وابن أبي الضياء، وغيرهم.

وربما سبقهم في ذلك ابن فضلان (توفي بعد سنة 310هـ/ 922م)، في رحلته إلى بلاد الترك والروس والصقالبة ووصفه للحياة فيها، وكانت الرحلة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وسبقه في الرحلة سليمان التاجر السيرافي في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وهو رحالة وتاجر سافر إلى الهند والصين في رحلة بحرية.

ولا يُعرف عنه الكثير، غير أنه كتب رحلته سنة 237هـ (851م) بعنوان: عجائب الدنيا وقياس الزمان، وصف فيها مشاهداته في الصين والهند، وقد زارهما عدة مرات، وذيل وصفه في القرن الرابع الهجري كاتب آخر، هو أبو زيد حسن السيرافي، واعتمد فيه على ما سمعه من قصص الرحالة، وقد لا يصدق هذا على مفهوم الاستغراب بمنحاه الجهوي، وإن كانت الجهوية ليست واردة في المفهوم.

وعلى أي حال، فإن كتب رحلات العرب والمسلمين إلى الغرب عمومًا يمكن أن تعد داخلة في مفهوم الاستغراب، إذا تضمنت وصفًا أو نقدًا لحال أو أحوال من الغرب، وقد تعود في المعسكر الغربي إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي (1668م)؛ أي قبل إعلان دولة الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من قرن من الزمان، بما في ذلك أمريكا اللاتينية (الجنوبية).

ويمكن أن يخرج المتتبع منها بآراء قد تكون أقرب إلى الذاتية (بعنوانات مثل: أمريكا التي رأيت)، والتعميم في أحكام لا تستقيم على قارة فسيحة كأمريكا التي تضم خمسين ولاية، ولكل ولاية أنظمتها الداخلية ونمطها الخاص، ولكنها -مع هذا- انطباعات لا تخلو من معلومة تفيد في هذا السياق، كما عد النقاد العرب رحلات الغربيين شكلًا من أشكال الاستشراق.