الباب الثالثالبدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلمغالى بعض الناس في حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعوّدوا القيام ببعض الأعمال التي لم يرد بها دليل شرعي، كما استغل بعض المنافقين حب المسلمين لرسولهم وأدخلوا عليهم ما لا يجوز ولا يصح اعتماداً على دليل واه، أو تأويل غير صحيح.
ومن هنا ظهرت بدع في مجال التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعرف لتترك ويتخلص منها المؤمنون الصادقون.
وقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع عرض الآراء الواردة في كل مسألة مع ذكر أدلتها ومناقشتها جلاء للحق وبياناً للصواب.
وقد قسّمتها إلى بدع ألحقت بمولده صلى الله عليه وسلم، وأخرى ألحقت بزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، وثالثة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وتناولت هذه البدع بالدراسة بعد تعريف مفصل للبدعة لغة واصطلاحاً.
ولذا جاء هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول هي: الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً.
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي بنفس الترتيب.الفصل الأولتعريف البدعة لغة واصطلاحاًأولاً: تعريف البدعة لغة: يقول صاحب معجم مقاييس اللغة (1): "الباء والدال والعين أصلان أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال.
فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدائه لا عن مثال والله بديع السموات والأرض (2) والعرب تقول: ابتدع فلان الركيّ إذا استنبطه وفلان بدع في هذا الأمر. قال الله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف: 9] أي ما كنت أول" (3).
ويقول صاحب مصباح المنير (4): "أبدعت الشيء وأبدعته: استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة المخالفة بدعة وهي اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة... وفلان بدع في الأمر أي هو أول من فعله.
فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع والبديع فعيل من هذا فكأن معناه هو منفرد بذلك من بين نظائره، وفيه معنى التعجب، ومنه قوله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف: 9] أي ما كنت أول من جاء بالوحي من عند الله تعالى وتشريع الشرائع بل أرسل الله تعالى الرسل قبلي مبشرين ومنذرين فأنا على هداهم.. (5).
ويقول ابن منظور: "بدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه ويبدع الشيء الذي يكون أولاً وفي التنزيل: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف: 9] أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل كثير.. وأبدعت الشيء: أخترعته لا على مثال والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها وهو البديع الأول قبل كل شيء ومنه قوله تعالى: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [البقرة: 117] أي خالقها ومبدعها فهو -سبحانه- المخترع لها لا عن مثال سابق" (6).
ونستنتج من هذه التعريفات اللغوية السابقة لكلمة البدعة ومشتقاتها أمرين اثنين: أ) أنّ معناها يدور حول الاختراع والإحداث والابتداء والإنشاء وكلها معان متقاربة كما ترى.
ب) أنّ البدعة اللغوية تشمل المحدث المذموم والحسن لأن الأمر المخترع قد يترتب عليه مصلحة فيكون حسناً، وقد يترتب عليه مفسدة فيكون مذموماً.
ثانياً: تعريف البدعة في اصطلاح أهل الشرع: اختلفت أنظار العلماء في تحديد معنى البدعة، فمنهم من حددها بـ "ما أحدث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أطلقها على ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي غيره من العادات.
ويمثل الفريق الأول ابن رجب الحنبلي (7) والشاطبي (8) والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم. بينما يمثل الفريق الآخر العز بن عبد السلام (9) والنووي وغيرهما.
وسوف أفصل تعريف كل فريق لنصل إلى التعريف المختار.
تعريف البدعة عند الفريق الأول: يقول ابن رجب الحنبلي في تعريف البدعة: "والمراد بالبدعة: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة" (10).
وعرّف الشاطبي البدعة بتعريفين: الأول: هو أن البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه (11).
والثاني: هو أنّ البدعة طريقة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالشرعية" (12).
ويقول الحافظ ابن حجر في تعريف البدعة: "ما أحدث وليس له أصل في الشرع يسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة" (13).
يظهر لنا مما تقدم أن تعريفات هذا الفريق تقيد البدعة بأمور ثلاثة: أ) الإحداث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب) أن يقصد بها التقرب إلى الله.
ج) أن لا يدل عليها دليل شرعي.
وعلى هذا تكون البدعة اللغوية أعم لاشتمالها على ما أحدث في الدين وفي غيره بينما البدعة الشرعية لا تشمل إلا ما أحدث في الدين على وجه التقرب إلى الله مع عدم وجود الدليل الشرعي. ومن ثم فلا تكون البدعة في نظر هذا الفريق إلا مذمومة شرعاً بخلاف البدعة اللغوية ولا تدخل في العادات التي ليس لها شائبة التعبد.
يقول الشاطبي: "ثبت في الأصول الشرعية أنّه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد، لأنّ ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها..
وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلاّ فلا (14).
ويقول ابن حجر العسقلاني: "فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محموداً أو مذموماً وكذا القول في المحدثة، والأمر المحدث" (15).
تعريف البدعة عند الفريق الثاني: يقول العز بن عبد السلام: "البدعة: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة.
والطريقة في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي مُحَرَّمَة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباحات فهي مباحة (16)
ثم ضرب أمثلة لكل نوع منها وهي على النحو التالي: والبدعة الواجبة مثل الاشتغال بالنحو، والبدعة المحرمة مثل الاشتغال بمذهب القدرية والجبرية، والبدعة المندوبة مثل جمع الناس في صلاة التراويح، والبدعة المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة المباحة مثل المصافحة عقب الصبح والعصر (17).
ويقول النووي -رحمه الله تعالى-: "والبدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة" (18).
وهذا الفريق يقيّد تعريف البدعة بقيد واحد وهو إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن البدعة عندهم ليست مذمومة كلها، بل منها ما هو واجب يلزم فعله، ومنها ما هو حرام يلزم تركه، وما هو وسط بين هذا وذاك.
حيث إنها تخضع للأحكام الشرعية الخمسة من وجوب، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، ومندوب.
وعلى هذا فإنّ البدعة عندهم تساوي البدعة اللغوية لأنها تشمل الحدث المذموم والحسن بخلاف الفريق الأول الذي يرى انحصارها في الحدث المذموم ومن ثم فإن النسبة بين الفريقين عموم وخصوص مطلق.
أدلة الفريقين: يستدل كلا الفريقين بأدلة تؤيد ما ذهب إليه ونذكر هنا طرفاً من أدلة كلا الفريقين مع بيان وجهة الاستدلال لكل منهما.
أولاً: أدلة الفريق الأول: هذا الفريق يستدل بالنصوص التي يفيد منطوقها ذم البدعة على وجه العموم.1- من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (19).
أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" عام يفيد أن البدعة مذمومة كلها بغير استثناء نوع منها ولم يرد ما يخصص ذلك العموم، ولذلك فليس هناك بدعة حسنة بل كلها مذمومة شرعاً.
2- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌ" (20) أي: مردود.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الإحداث في الدين أمر مردود مهما كان ذلك الإحداث صغيراً أو كبيراً لأنّ الإحداث في الدين بدعة، ومن ثم فلا يوجد بدعة حسنة.
3- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن عبد حبشي فإنّه من يعش منكم ير اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" (21).
ووجه الاستلالال بهذا الحديث هو أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من المحدثات ووصفها بأنّها بدعة كما وصف البدعة بأنّها ضلالة على وجه العموم، وهذا يقتضي أنّه ليس هناك بدعة حسنة وأخرى قبيحة بل كلها قبيحة.
ثانياً: أدلة الفريق الثاني: يستدل هذا الفريق بأدلة نوجزها فيما يلي: 1- قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صلاة التراويح بعد ما جمعهم على أبي بن كعب -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة" (22).
ووجه الاستدلال بهذا القول هو أن عمر -رضي الله عنه- قد سمى صلاة التراويح بدعة مع إقراره بل بأمره ذلك.
وهذا يدل على أنه يقصد بها البدعة الحسنة لا القبيحة ومن ثمّ فإن البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فيعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة وعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" (23).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أنه إذا أحدث أحد شيئاً حسناً يثاب عليه وأنّه غير مذموم وكذلك العكس وبالتالي هناك اختراع حسن وأخرى غير حسن ومن ثم البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
3- قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سئ" (24).
ووجه الاستدلال بهذا الأثر هو أنّه ما فعل المسلمون واستحسنوه لا يكون مذموماً بشرط أن لا يخالف الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع.
وعلى هذا فلا يعتبر البدعة كلها قبيحة بل منها ما هو حسن.
وخلاصة القول: أنّ طريقة الفريق الأول مبنية على ثلاثة أمور: 1- البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول ولم يكن له أصل من أصول الشرع ومجاز في غير ذلك.
2- أنّ جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" (25) باق على عمومه.
3- القول بأنّ البدع لا تدخل إلاّ في العاديات التي لا بد فيها من التعبد.
وأمّا طريقة الفريق الثاني فهي مبنية على أمور ثلاثة أيضاً: 1- أنّ البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول كان له أصل من أصول الشرع أم لا.
2- أنّ جميع ما ورد في البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كل بدعة ضلالة" (26) عام مخصوص.
3- القول بأن جميع المخترعات من العاديات ولو لم يلحقها شائبة تعبد تلحق بالبدع وتصير كالعبادات المخترعة) (27).
مناقشة الأدلة والترجيح: نبدأ بمناقشة أدلة الفريق الثاني ثم نتبعها بأدلة الفريق الأول: أولاً: استدلالهم بقول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة"، ليس بدليل لهم لعدة أمور: 1- أن صلاة التراويح جماعة ليست بدعة شرعية بل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته جماعة عدة ليالي ثم بعد ذلك تركها مخافة أن تفرض عليهم ثم لا يطيقوها.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فلمَّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح فلمَّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهَّد، ثم قال: "أمَّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيتُ أن تُفترض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها" (28) وفي رواية وذلك في رمضان.
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح جماعة مخافة أن تفرض عليهم وقد زال ذلك الخوف بموته صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يرجع الأمر كله إلى ما كان عليه وهو أن يصلى بها جماعة.
2- أنّ صلاة التراويح جماعة تدخل في ضمن سنة الخلفاء الراشدين، وبالتالي فهي سنة سنّها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لقولـه صلى الله عليه وسلم "... وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." (29).
3- إن عمر -رضي الله عنه- أمر ذلك بمرأى ومسمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم ينقل من عارض ذلك.
وعلى هذا فلا يكون قول عمر -رضي الله عنه- دليلاً لهذا الفريق ولكن يبقى لماذا سمى عمر هذا الفعل بدعة؟ وقد أوّل العلماء هذا القول بعدة تأويلات وأحسنها هو أن يقصد بها البدعة اللغوية لاشتمالها البدعة السيئة والبدعة الحسنة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: "ما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم إمّا أن يقال ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة في اللغة كما قال عمر: نعمت البدعة، وإما أن يقال هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسُّنَّة" (30).
ويقول أيضاً: "أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة -أي صلاة التراويح جماعة- مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أنّ البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأمّا البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي" (31).
ثانياً: استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها....".ليس بدليل لهم لأن معناه هو من أحيا سنة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فله ثوابها وثواب من اتبعه بها كما يدل عليه سبب حديث جرير بن عبدالله حيث قال: " جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصرف (32) فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه قال: ثم إنّ رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" (33).
وهذا يدل على أن الغرض من ذلك إحياء ما ثبت في الإسلام، وهنا الصدقة وليس ابتداع شيء لا أصل له في الشريعة الإسلامية.
وهناك حديث آخر يفسر هذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنّة من سنن قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه آثام مَنْ عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً" (34).
ثالثاً: وأمّا قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فما رآى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" (35) فهو أثر موقوف على ابن مسعود وليس بحجة، وأما على فرض حجته فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسناً فهو حسن، وكذلك العكس، كما أنه يقتضي كون العمل الواحد حسناً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إلى الله -تعالى- قبيحاً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إليه، وهو باطل (36).
وعلى هذا يحمل معنى هذا الأثر على ما اجتمعت عليه الأمة لعصمتها من الإجماع على ضلال، والإجماع حجة لاستناده إلى دليل شرعي، وعلى هذا فلا يوجد دليل واحد يدل إلى ما ذهبوا إليه وأنّ الأمثلة التي ذكروها للبدعة الحسنة والقبيحة تدخل تحت ما يناسبها من القواعد الشرعية.
وأمَّا أدلة الفريق الأول: فهي مقبولة ومسلمة من ناحية ثبوتها ومن ناحية الاستدلال معاً، وبالتالي فلا تحتاج إلى مناقشة.
وعلى هذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الأول وهو أن البدعة لا تكون إلاّ مذمومة لعموم النصوص التي وردت في ذم البدعة شرعاً ولعدم وجود ما يخصص ذلك، وبالتالي ليست مقسمة إلى حسنة وقبيحة.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- مؤيداً ذلك: "إنّه قد ثبت في الأصول العلمية أنّ كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها، وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: ((أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)) [النجم: 38-39] وما أشبه ذلك...
فما نحن بصدده من هذا القبيل. إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أنّ كل بدعة ضلالة وأنّ كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أنّ البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنّها على عمومها وإجمالها" (37) وأمّا البدع المنقسمة إلى حسنة وقبيحة فهي البدعة اللغوية المتعلقة بالاختراعات وبأمور المعاش ووسائله ومقاصده (38)، فما كان ضاراً فنترك، وما كان نافعاً فنفعل ونستعمل، وكل هذه أمور تدخل تحت ما فرضّه لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم..." (39).
هذا ما يتعلق بالبدعة الحقيقة وأما البدعة الإضافية فهي -كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية.
فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية "البدعة الإضافية" أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى دليل.
والفرق بينهما من جهة المعنى، أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة (40).
ومثال ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان جهراً مع أن الشارع طلب منا ذلك سراً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ، فإن من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً..." (41).
والبدعة تدخل من جهة الكيفية لا من جهة أصل مشروعية ذلك، ومن ثم تأخذ حكم البدعة الحقيقية بحسب قربها لها أو بعدها منها.
يقول الشاطبي -رحمه الله-: "فقلّما تختص -أي البدعة الحقيقية- بحكم دون الإضافية بل هما معاً يشتركان في أكثر الأحكام إلا أن الإضافية على ضربين: أحدهما: يقرب من الحقيقة حتى تكاد البدعة تعد حقيقية.
والآخر: يبعد منها حتى يكاد يعد سنة محضة (42).
---------------------------------------------------
1. تقدمت ترجمته في (ص:25).
2. إشارة إلى قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) سورة البقرة، آية (117) وسورة الأنعام، آية (101).
3. معجم مقاييس اللغة (1/209) مادة (بديع).
4. هو أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفي سنة (770هـ) انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/389).
5. مصباح المنير: 1/44 مادة (بدع).
6. لسان العرب: 8/6 مادة (بدع).
7. هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي.
8. هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي المتوفي سنة (790هـ) انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
9. هو عز الدين بن عبد السلام بن أبي القاسم شيخ الإسلام المتوفي سنة (660هـ) بمصر. انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
10. جامع العلوم والحكم (ص:160).
11. الاعتصام: (1/37).
12. الاعتصام: (1/37).
13. فتح الباري: (3/253).
14. الاعتصام: (2/790-800).
15. فتح الباري: (13/253).
16. قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (2/204).
17. انظر المصدر السابق (2/204-205).
18. تهذيب الأسماء واللغات (2/22).
19. صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592).
20. صحيح مسلم كتاب الأقضية، باب رد الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1342).
21. أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150)، وقال هذا حديث حسن صحيح.
22. والحديث كما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسحد فإذا الناس أوزاع متفرقون. يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي صلاته الرجل، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر نعمت البدعة هذه ". صحيح البخاري (1/342)، كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان.
23. صحيح مسلم كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
24. رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
25. صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
26. صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
27. انظر تهذيب الفروق (4/229).
28. صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
29. رواه الترمذي في سنة، في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150).
30. مجموع الفتاوي (10/371).
31. اقتضاء الصراط المستقيم (ص:376).
32. صحيح مسلم - كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
33. الصرف بالكسر الخالص من كل شيء. انظر النهاية (3/24).
34. أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/50ا-151) وقال: هذا حديث حسن.
35. رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
36. الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص:128).
37. الاعتصام (1/141-142).
38. انظر إصلاح المساجد من البدع والعوائد، لجمال الدين القاسمي (ص:16).
39. صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (4/1836).
40. انظر: الاعتصام للشاطبي (1/286-287).
41. صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
42. انظر الاعتصام (1/287).