سورة الْبُرُوج
سورة الْبُرُوج 85_aoi10
عناصر السورة:
قصة أصحاب الأخدود
عقاب الكفار وثواب المؤمنين
انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه


بَين يَدَيْ السُّورَة:
* هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإِسلامية، والمحورُ الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة "أصحاب الأخدود" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإِيمان.

* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة، التي تدور فيها تلك الأفلك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين، الذين طرحوا المؤمنين في النار ليفتنوهم عن دينهم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} الآيات.

* ثم تلاها الوعيد والإِنذار لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.

* وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الانتقام من أعدائه الذين فتنوا عباده وأولياءه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}.

* وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار "فرعون" وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وهو ختم رائع يناسب موضوع السورة الكريمة.

قصة أصحاب الأخدود
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}.

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون: سميت هذه المنازل بروجاً لظهورها، وشبهت بالقصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة، الذي وعد الله به الخلائق بقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} وقيل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم ودليله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا هو جواب القسم، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي: الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد، ومعنى: {قُتِلَ} أي لعن، قال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن: {قُتِلَ} فهو لعن.. ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} أي النار العظيمة المتأججة، ذات الحطب واللهب، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود: وهذا وصف لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما فيها من الحطب، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول.. ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حين هم جلوس حول النار، يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم، ليرجعوا عن الإِسلام، فذكر الله تعالى قصة "أصحاب الأخدود" وعيداً للكفار، وتسليةً للمؤمنين المعذبين، ثم قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجنابه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله، والغرضُ أن سبب البطش بهم، وتحريقهم بالنار، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة، لكنّه الطغيان والإِجرام: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذا الإِله الجليل المالك لجميع الكائنات، المستحق للمجد والثناء قال أبو حيّان: وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى: {عزيزاً} أي غالباً قادراً يُخشى عقابه: {حميداً} أي مُنعماً يجب له الحمد على نعمه: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغي: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى مطَّلع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين.

عقاب الكفار وثواب المؤمنين
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}.

ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عَذَّبُوا المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي عَذَّبُوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم، ولهم العذاب المحرق بإِحراقهم المؤمنين.. ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والعمل الصالح: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري: هي أنهار الخمر واللبن والعسل: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادة ولا فوز بعده.

انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)  وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}.

ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال: {إِنَّ بطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إِن انتقام الله وأخذه الجبابرة والظلمة، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود: البطش الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إِياهم بالعذاب والانتقام: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}أي هو جل وعلا الخالق القادر، الذي يبدأ الخلق من العدم، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين، اللطيف المحسن إِلى أوليائه، المحبُّ لهم قال ابن عباس: يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة: {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، وإِنما أضاف العرش إِلى الله وخصَّه بالذكر، لأن العرش أعظم المخلوقات، وأوسعُ من السماواتِ السبع، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه: {الْمَجِيدُ} أي هو تعالى المجيدُ، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي: أي لا يمتنع عليه شيء يريده. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيبُ ؟ قال : نعم : قالوا : فماذا قال لك ؟ قال قال لي :{إِني فعَّال لما أريد}.: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء ؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب ؟ قال القرطبي : يؤنسه بذلك ويسليه، ثم بيَّن تعالى مَنْ هم فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي هم فرعون وثمود، أولي البأس والشدة، فقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً من قومك، ومع لك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي والله تعالى قادرٌ عليهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي بل هذا الذي كذبوا به، كتابٌ عظيم شريف، متناهٍ في الشرف والمكانة، قد سما على سائر الكتب السماوية، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظٍ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.