أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: كيف درس الرحالة المسلمون “الآخر”؟ الإثنين 17 يوليو 2023, 1:03 am | |
| كيف درس الرحالة المسلمون “الآخر”؟أسامة غاوجي
رغبةً ورهبةً؛ طاف الرحالة المسلمون الفيافي وقطعوا البحار، فقاسُوا الطرق والمسالك، وقاسَوْا في سبيل ذلك الصِّعابَ والمهالك، ثمّ أخبروا عن أحوال الممالك وشعوبها وثقافاتها.
ارتبطت أسفار بعضهم بأغراض سياسيّة فكانوا وزراء وعمّالاً للبريد وجواسيس وسفراء، وارتحل بعضهم لدواعٍ دينيّة كالحجّ ونشر الإسلام، وآخرون لدواعٍ تجاريّة أو علميّة صرفة.
ومع تدوين أخبارهم؛ اتسعت خريطة المعمورة وأضاءت تضاريسها، ونقل المؤرّخون والجغرافيون والخرائطيون عنهم المسافات بين البلدان، وأحوال الأقوام القاطنة فيها.
وقد جاب المسلمون كلّ سواحل المحيط الهندي (“البحر الشرقيّ الكبير” كما يُسمّيه ابن خُرْدَاذَبَه المتوفى 280هـ/893م) من شرق أفريقيا وصولاً إلى جزائر سيلا (ولعلّها شبه الجزيرة الكوريّة)؛ وخاضوا بلاد الترك شرقاً والروس شمالاً وصولاً إلى سيبيريا (“أرض الظُلْمة” كما يسمّيها ابن بطوطة المتوفى 779هـ/1377م).
كما طافوا جنبات أوروبا التي كانوا يسمّونها ‘أَوْرَفِّي‘ (هكذا ضبطها ياقوت الحموي المتوفى 626هـ/1229م -في ‘معجم البلدان‘- وقال: “كذا وجدته بخط أبي الريحان البيروني مضبوطاً مُحقّقًا”، أمَّا المسعودي المتوفى 346هـ/957م فقد جعلها -في ‘التنبيه والإشراف‘- “أورفا”، وهو قريب في النطق من لفظ ‘أوروبا‘ الحالي)، وحكوا عن سكانها من الجلالقة والفرنجة والألمان وأهل بريطانيا والنمسا والمجر.
وربما لم يصلوا إلى أقصى شمال القارة وإن وصلت كميّة وافرة من عملاتهم ونقودهم إلى السويد وفنلندا والنرويج وآيسلندا وغيرها.
كما عرفوا أفريقيا -التي يسمونها ‘لوبية‘- شرقها وغربها ووسطها ورسم بعض خرائطيّيهم جنوبها؛ بل إنّ بعضهم تجاسر على خوض “بحر الظلمات” (= الأطلسي) غرباً إلى المجهول، ومنهم “الفتية المغرَّرون” الذين ذكرهم المسعودي في كتابه ‘مروج الذهب‘، وكيف أنّهم وصلوا إلى جزر الكناري غرب أفريقيا.
ومنهم –على ما يرويه ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) في ‘مسالك الأبصار‘- سلطانُ مالي مَنْسا أبو بكر الثاني (ت بعد 712هـ/1312م)، الذي تخلّى عن المُلْك سنة 712هـ/1312م لأخيه مَنْسا موسى (ت 737هـ/1336م) وأبحر في المحيط الأطلسي بألفيْ سفينة طلباً للمجهول في الغرب ولم يعُد؛ فهل وصل؟ هل وصل غيرُه؟ حول ذلك جدالات طويلة بين مؤرّخي المسلمين والغربيين المحدَثين، كثيرٌ منها مُبيَّتُ القصد.
ليس هذا موضوعنا، فأدبُ “الرحلة” و”المسالك والممالك” و”العجائب” أدبٌ عريضٌ لا تستوفيه المطوّلات؛ بل موضوعنا هو تناول جزئيّة ثقافيّة مخصوصة في هذا الأدب العريض، وهي معرفة “الآخر” ودراسته.ما الموقف الذي اتخذه الرحّالة والمؤرّخون في دراسة الشعوب الأخرى؟ وما المنهج الذي اتّبعوه؟ وما المزالق التي سقطوا فيها؟ وماذا حقّقوا من الإنصاف أو المَيل؟
لقد تعرّض الاستشراق الغربيّ إلى نقدٍ وافرٍ مسَّ منهجَه وأدواته ووظيفته السياسيّة، وهو نقدٌ وجيه وإن لم يكن له أن يحجب أنظارنا عن جهودٍ منصفة كثيرة قدّمها مستشرقون ذوو أغراض علميّة ومعرفيّة صرفة.
ولكنّ سؤالنا: إلى أيّ درجة كانت أخطاء الاستشراق مخصوصة بالغرب دون غيره؟
ألا تسقط كلّ أمّة سيّدة ذات طموحات إمبراطوريّة في الميل نحو محاباة الذات والحطّ من شأن الآخر؟
ثم ألا تسعى إلى توظيف معارفها عن الأقوام الأخرى في خدمة أغراضها السياسية والتجارية والدينية؟
لا أطمعُ بتقديم جوابٍ شافٍ وافٍ عن هذه الأسئلة، بل كلّ قصدي هو لمسها والإشارة إلى بعض فصولها دون تقديم أطروحة شاملة.
ومردّ هذا القصور أمران: أننا لا نعثر على موقفٍ منهجيّ واحد بين الرحالة والمؤرّخين في إنصافهم ولا في ميلهم؛ ثم إنّ المؤرّخين علّمونا عدم صوابية المقارنة التاريخيّة بين العصور المختلفة، لاختلاف ظروفها التكوينيّة وبُناها السياسية والاقتصاديّة، وطبائع دولها ومطامحها؛ فإن كان ولا بدّ للمقارنة فلتكن بين من جمعهم عصرٌ واحد.
فتوح وانفتاح لا شكّ أنّ عالميّة رسالة القرآن وحثّه على التعارف بين الشعوب والسير في الأرض قد أسهم في جعل ثقافة المسلمين ذات تكوين منفتح على الآخر.
فلم يكن المسلمون يعتقدون مثل بعض الهنود “في الأرض أنّها أرضهم وفي الناس أنّهم جنسهم، وفي الملوك أنّهم رؤساؤهم، وفي الدين أنّه نِحلتهم، وفي العلم أنّه معهم، فيترفّعون.
ولا يظنّون أنّ في الأرض غير بلدانهم، وفي الناس غير سكانها، وأنّ للخلق غيرهم علماً غير علمهم، حتى إنّهم إن حُدثّوا بعلم أو عالم في خراسان أو فارس، استجهلوا المُخبِر ولم يصدّقوه”؛ كما يقول البيروني في كتابه ‘تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة‘، بل إنّهم رأوا في الحكمة ضالّتهم أينما وجدوها فهم أحقّ بها.
ولكنّ عاملاً موضوعيّاً آخر قد أسهم في هذا الانفتاح، ألا وهو التوجّه التجاري الذي عرفته العرب قديماً في خطّ التجارة الواصل بين اليمن والحبشة وبين شواطئ الخليج وبلاد الهند والصين، وفي خطّ التجارة القرشية بين اليمن والشام، ثمّ تأكّد مع الفتوح الإسلاميّة التي ضمّت المنطقة المركزيّة الممتدّة بين نهري النيل وجيحون، قلب العالم القديم، ومعبر التجارة الإستراتيجي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وهكذا كانت بغداد وغيرها من حواضر العراق ملتقى أسواق العالم تستقبل التجار من أقاصي الأرض، واسمع معي وصف اليعقوبي -في نهايات القرن الثالث- لبغداد إذْ يقول: “اجتمع بها ما ليس في مدينة من الدنيا… فتأتيها التجارات والمير برّاً وبحراً وبأيسر السعي، حتى تكامل بها كلّ متجر يحمل من المشرق والمغرب من أرض الإسلام وغير أرض الإسلام.
فإنّه يحمل إليها من الهند والسند والصين والتبت والترك والديلم والخزر والحبشة وسائر البلدان، حتى يكون بها من تجارات البلدان أكثر مما في تلك البلدان التي خرجت التجارات منها، ويكون مع ذلك أوجد وأمكن، حتى كأنّما سيقت إليها خيرات الأرض وجُمعت فيها ذخائر الدنيا وتكاملت بها بركات العالم”.
إنّ من شأن التجّار أن يكونوا أرحب صدوراً وأكثر مرونة، بحكم اختلاطهم بشتّى أصناف البشر من الرفعاء والوضعاء، وأن يكونوا أوسع آفاقاً وانفتاحاً على الغريب بحكم كثرة تجوالهم وأسفارهم؛ ومن شأن مُدن التجار أن تتشرّب هذه الأخلاق، وأن تستقبل ثقافات الغرباء مع بضائعهم، مما يخلخل صفات الانغلاق على الذات ويشجّع تعدّد اللغات وتنوّع الثقافات.
ومن ثمّ؛ فقد أثْرت التجارة مدن المسلمين بالبضائع والعلوم في آنٍ معاً، وجعلت حواضر المسلمين مدناً كوزموبوليتانيّة (عالمية) تستقبل العالم كلّه، مثلما كانت مدينة خانفو التجاريّة في الصين؛ على ما يحدّثنا المسعودي وغيره.
وليس غريباً أن يحدّثنا الجاحظ (ت 255هـ/869م) عن أخبار الأمم والأقوام، بل أن يخبرنا عن أحوال البلدان (وله في ذلك رسالة) وهو الذي لم يغادر -على الأرجح- الهلال الخصيب إلا لماماً.
أنتج ذلك في حضارة المسلمين حركيّة اجتماعيّة عالية -كما يشرح المستشرق الأميركي مارشال هودجسون (ت 1388هـ/1968م) في كتابه ‘مغامرة الإسلام‘- فكان المسلمون يشعرون بأنّهم مواطنون عالميّون، كلّ الأرض لهم مسجدٌ وطهور، ولعلّ أجلى برهان على ذلك ما يعرض للقارئ في كتب الرحّالة من لقاء أبناء أوطانهم في الغربة، فقد التقى ابن فضلان في بلاد الصقالبة بخياطٍ من بغداد، والتقى ابن بطوطة في الصين بفقيه من سبتة، والعجيب أنّه بعد سنواتٍ لقي أخا ذلك الفقيه في بلاد السودان من وسط أفريقيا.
وسأركّز في هذه المقالة على تتبّع ثلاثة نماذج من مؤلّفات الرحالة والمؤرّخين، وتبيان منهجهم في الحكاية عن الآخر والإخبار عن أحواله: وهم ابن فضلان (وكانت رحلته عاميْ 309-310هـ / 1309-1310م ولا يُعرف تاريخ وفاته) وأبو الحسن المسعودي (ت 346هـ/957م)، وأبو الريحاني البيروني (ت 440هـ/1049م).
ولنبدأ مع متفقّه بغداد الذي تجمّدت لحيته في زمهرير بلاد الصقالبة. مغامرة فقيه ككثير من الرحالة والجغرافيين -وهم في الغالب رجال من الطبقات الوسطى- لا نعرف تاريخ مولد ابن فضلان، وقد ذكر ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- أنه كان مولى للقائد العسكري العباسي محمد بن سليمان الحنيفي (ت 304هـ/916م)، وقد سماه مرات: “أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان: رسول [الخليفة] المقتدر” العباسي (ت 320هـ/932م).
ولعل أفضل مصدرٍ عنه هو رحلته ذاتها التي ورد فيها ما يفيد بأن اسمه “محمّد”، وهو عالم بأحكام الشريعة ذو ثقافة أدبيّة جيّدة، ولغة جميلة لا تكلّف فيها، دقيق الملاحظة وإن كان ذا مخيّلة واسعة، جريء في قول الحقّ وتصحيح الخطأ، عريقٌ في الحضارة وآدابها.
غادر بغداد في صفر من عام 309هـ/921م -في عهد الخليفة المقتدر- لغرضٍ مُحدّد يذكره في مطلع رسالته: “لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار (وقد تسمّى لاحقاً على يد ابن فضلان بجعفر بن عبد الله) ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إلى من يفقهه في الدين ويُعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجداً وينصب له منبراً ليُقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له (= مملكة يهود الخزر)، فأجـِيب إلى ما سأل”.
دخل الإسلام إلى بلاد البلغار والصقالبة قبل هذا التاريخ، و‘بلاد البلغار‘ المقصودة هنا مملكتهم القديمة، والخلافُ في تعيينها قائم ولكنّها -عند محقّق ‘رسالة ابن فضلان‘ سامي الدهان (ت 1391هـ /1971م)- تقع إلى شمال شرق بحر قزوين؛ أمّا ‘الصقالبة‘ فلفظ عام يشمل عنده شعوب السلافيين والجرمان وسكان شرق أوروبا، وكان يُطلق أيضا على بعض القبائل التركية القاطنة شرق بحر قزوين وخاصة حوض نهر الفولغا (= نهر أتل)، وكانت مملكتهم ضمن ما يُعرف اليوم بجمهورية تترستان الروسية.
فالمسعودي يقول في ‘مروج الذهب‘- “إن في بلاد الخزر.. خلقاً من الصقالبة والروس…، وهذا الجنس من الصقالبة.. متصلون بالمشرق”.
وابن فضلان لم يثبت وصوله إلى منطقة شرقي أوروبا حتى يلتقي صقالبتها.
ويقول الجغرافي ابن رُسْتَة الأصفهاني (ت نحو 300هـ/912م) إنّ أكثر البلغار والصقالبة ينتحلون الإسلام، ولكنّ الإسلام كان -في عهده- لا يزال ضعيف الأثر والحضور في هذه الأقوام، ولم يستحكم في أخلاقهم وعاداتهم.
ونجد شواهد على ذلك لدى ابن فضلان حين يذكر كثيراً مما يُنكره عليهم في طقوس “الدفن” وجهلهم بالمواريث، وأنّهم “يغتسلون عراةً” ولا يستترون، و”إن كانوا لا يزنون” بل ويقتلون الزاني والسارق بعقوبات غليظة.
ونعرف من الرحالة أبي حامد الغرناطي (ت 565هـ/1170م) -الذي جال حول حوض الفولغا نحواً من ثلاثين سنة وتاجر بينهم وتزوّج منهم- أنّ الإسلام كان قد شاع واستقرّ هناك، وأنّ الجوامع كانت قد كثرت في عهده.كما يذكر المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- أنّ وفداً منهم قد قدم للحجّ، ونزل ببغداد عام 433هـ/1043م.
زرازير وضفادع سار ابن فضلان –ضمن وفد رسمي- عبر محطات قادته إلى خراسان وخوارزم وبخارى، ثمّ شق طريقه بين بحيرة أورال وبحر قزوين متوغلا في بلاد الترك بمحاذاة نهر الفولغا حتى وصل إلى بلاد الصقالبة والروس؛ في رحلة استغرقت -في خط ذهابها المؤكد- 11 شهرا وقطع خلالها قرابة 5000 كلم، عبر مسار ينطلق من بغداد غربا إلى بخارى شرقا ومنها إلى نواحي مدينة قازان الروسية اليوم شمالا.
ولمّا كان الرجل قد جاء من بغداد –وهي حينها عاصمة الحضارة الزاخرة بآداب العيش ولباقة الحديث ونظافة الملبس وآداب السلوك- فقد كان من الطبيعيّ أن يأنف مما رآه من “وحشيّة” مَن قابلهم من الترك والروس والصقالبة.
ولذلك لما نزل في مدينة الجرجانيّة –التي توجد اليوم غربي أوزبكستان وكانت أيامها عاصمة مملكة خوارزم- وصف قومها بأنّهم “أوحش الناس كلاماً وطبعاً”، وأخبرنا بأنّ “كلامهم أشبه شيء بصياح الزَّرَازِير” (= جمع زُرْزُور وهو طير صغير)، وحدثنا عن قومٍ آخرين مجاورين لهم بأنّ كلامهم أشبه “بنقيق الضفادع”.
ولا شكّ في أنّ هذا النوع من الانطباعات الخاص بوصف نطق لغات الأقوام متسرّعٌ ونابعٌ من اعتياد الأذن لغتها الأمّ؛ فالبيروني مثلا -وإن كان يزكّي العربيّة لغةً للعلوم- يقول لنا -في كتابه ‘الصيدنة‘- إنّ “كلّ أمّة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع أُلّافها وأشكالها”.
وكلامُ ابن فضلان عن لغات هؤلاء الأقوام لا يبتعد عن وصف الشاعر الأمويّ النابغة الشيباني (ت 125هـ/744م) للغة الروم بأنها: أصواتُ عُجْمٍ إذا قاموا بقربتهم كما تصوِّتُ في الصبح الخطاطيفُ
ثم يصفّ ابن فضلان ‘الغُزيّة‘ (= قبائل الغُزّ -أو الأوغوز- التركية ومنهم السلاجقة والعثمانيون) في حديثه عن حياة الرعي البدويّة التي يعيشونها؛ بأنّهم “كالحمير الضالّة، لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً بل يسمّون كبراءهم أرباباً”، “ولا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك، وليس بينهم وبين الماء عمل”.
ويضيف أن التجار المسلمين عندهم كانوا يغتسلون سرّاً لأنّهم لو رأوا أحداً يغتسل لاعتقدوا أنّه يريد أن يسحرهم، وأن نساءهم لا يستترن من الرجال، بل إنّ المرأة لا تبالي بكشف فرجها أمام الغرباء، وإن كانوا “لا يعرفون الزنا” وعقوبة الزاني أن يشقّوه نصفين!
كما تحدث ابن فضلان عن ‘بلاد الباشقرد‘ فقال إنهم “قوم من الأتراك يقال لهم الباشقرد فحذرناهم أشد الحذر، وذاك لأنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداما على القتل، يلقى الرجلُ الرجلَ فيفرز هامته فيأخذها ويتركه، وهم يحلقون لحاهم ويأكلون القمل “.
تفاصيل دقيقة وبعيداً عن أحكام القيمة من استهجان وإنكار؛ فإنّ ابن فضلان يُجيد عمل الباحث الإثنوغرافيّ الذي يصوّر طباع الشعوب وعاداتها وعقائدها، وينقلها إلينا نقلاً دقيقاً.
فهو يخبرنا عن سياسات صحيّة اتخذتها تلك الأقوام مثل العزل الصحي –عند الترك والروس- للمريض وعدم الاقتراب منه إلى أن يُشفى أو يموت؛ وعن عقائد بعضهم الوثنيّة في عبادة اثني عشر ربّاً للظواهر الطبيعيّة: للشتاء ربّ، وللصيف ربّ، وللريح والموت… إلخ، وعن عبادة بعض الترك للحيوانات وتبرّك الصقالبة بنباح الكلاب؛ وعن عادة الصقالبة في الأكل منفردين، كلّ أحد ينفرد بمائدته لا يشاركه فيها أحد.
كما قدم لنا معلومات عن عادات الأقوام المختلفة في الدفن؛ فرسم لنا صورة مفصّلة في عشر صفحات عن دفن الروس أحد رؤسائهم، وتطوّع بعض أتباعه وجواريه للموت معه، وكيف حرقوا جثته (وهي ملاحظة وردت لاحقاً عند المسعودي والبيروني اللذين قارناها بفعل الهند)، وماذا يُغنون ويشربون ويفعلون في أثناء تلك الطقوس.
ولا يزال وصف ابن فضلان أهمّ وصفٍ لطقوس الموت عند الروس.
لم يكن ابن فضلان جغرافيّاً مُدقّقاً ولا إخباريّاً يُمحّص ما ينقله بميزان العقل أو النقل، وكان -على عادة الرحالة- مولعا بذكر العجائب؛ ولذا فإنّ ياقوت الحمويّ -الذي قال عن رحلة ابن فضلان إنها “مدوّنة معروفة مشهورة بأيدي الناس رأيتُ منها عدة نسخ” بل إنه نقل في ‘معجم البلدان‘ قريباً من ثلثيْها وفقا لتقدير محققها الدهان- يُصحّح كثيراً من أوصافه في الجغرافيا ويُكذّب بعض أقواله، بل ويضبط بعض العادات التي ذكرها فيقول بأنّها مخصوصة بالريف دون المدينة ونحو ذلك؛ وأحيانا يضع عليه مسؤولية ما ينقله عنه متبرئا من دقته قائلا: “وعليه عهدة ما حكاه، والله أعلم بصحته”.
يُخبرنا ابن فضلان أيضاً أنّ عادة رفع القبعة كانت قائمة في بلاد الصقالبة منذ القرن العاشر الميلادي، فإذا اجتاز الملك السوق “لم يبقَ أحدٌ إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فوضعها تحت إبطه، فإذا جاوزهم ردّوا قلانسهم إلى رؤوسهم”، وكذلك إذا دخلوا على الملك.
ويُفنّد ما نقله هنا القولَ المشتهر بأنّ عادة رفع القبّعة الحديثة تعود إلى العصور الوسطى، حين كان الفارس الأوروبي ينزع خوذته الحربيّة عن رأسه للسيدات أو الملوك أو أقرانه، للدلالة على أنّه يأمنهم وألا حاجة له بحماية نفسه في حضرتهم، أو إلى خلع المسيحيين قبّعاتهم على باب الكنائس إجلالاً؛ فلم يكن هؤلاء الصقالبة مسيحيين قبل إسلامهم بل كانوا وثنيين.
والقطع في هذا الأمر يحتاج إلى مزيد تحقيق.
ومن طرائف أخباره بين الصقالبة أنّ رجلاً منهم يقال له “طالوت” أسلم على يده، فتسمّى “محمّداً” ثمّ أسلمت زوجته وأولاده فطلب منه الرجل تسميتهم كلّهم “محمداً”! وقد مرّ ابن فضلان -في طريق عودته- ببلاد مملكة الخزر، حيث نقل عنهم آليّة ظريفة لتداول السلطة، وهي أنّ الملك إذا ملك أكثر من أربعين سنة قتلته الرعيّة، وقالوا: “هذا قد نقص عقله واضطرب رأيه”.
قلتُ: أربعون سنة كثير، ولكنّهم على الأقل قد وضعوا حدّاً لا ينبغي للملك تجاوزه!
كان ابن فضلان مثالاً معبِّراً عن حالة الرحالة ومنهجهم، وهو منهج يتصف بدقّة الوصف وصدق الخبر –ما أمكن- دون إعمال النقد في الأخبار الواردة، لا من جهة مقارنتها بالأخبار الأخرى ولا من جهة عرضها على العقل (= العادة الجارية)، مما يسمح بتمرير الخرافات والعجائب دون تعليل أسبابها أو تفسيرها، وهو منهج يستند في أحكامه إلى الانطباعات الشخصيّة –المتسرّعة أحياناً- فيستوحش مما لا يألفه، ويسترذل ما خالف آداب المسلمين وشريعتهم، ويستقبح ما شذّ عن أخلاقهم.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| |