وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [٣١]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أن تحدثت الآيات عن جهنم والعياذ بالله تذكر هنا المقابل وهو الجنة {وَأُزْلِفَتِ ..} [ق: 31] أي: قُرِّبت من المتقين، لأنهم بشَّروا بها في الدنيا، وبأن الله تعالى لا يخلف الميعاد.
أما الآن ونحن في موقف الآخرة فهي تقرب منهم {غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] أي: أزلفتْ منهم إزلافاً غير بعيد.


هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [٣٢]مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [٣٣]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله تعالى: {هَـٰذَا ..} [ق: 32] إشارة إلى ما تقدَّم من تقريب الجنة للمتقين {مَا تُوعَدُونَ ..} [ق: 32] أي: وعد الله به {لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق: 32] أوَّاب صيغة مبالغة نقول: آيب وأوَّاب يعني كثير الأوْب والرجوع إلى الله إنْ حصلت منه معصية، فسرعان ما يندم عليها ويتوب.
والحق سبحانه وتعالى شرح لنا هذا المعنى في قوله تعالى:
{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ..} [النساء: 17]
يعني: لا يسعوْنَ إليها ولا يرتبون لها.
{ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ ..} [النساء: 17-18].
والأوَّاب كثير الرجوع إلى الله بالتوبة، لا يعني أنه كثير الخطايا، إنما إنْ حدثت منه غفلة عن الطاعة سارع بالتوبة، لأن الذي يرجع في توبته من الذنب ثم يعود إليه وتتكرر منه هذه، فقد شبَّهه رسول الله بالمستهزئ بربه، وهذه صفة لا تليق بالأوَّاب.
ومعنى: {حَفِيظٍ} [ق: 32] هي أيضاً صيغة مبالغة من حافظ، والحفيظ هو كثير الحفظ لحدود الله وحُرمات الله، يحفظ نفسه من الوقوع في المعصية، بل يحفظ نفسه من الاقتراب منها.
وهذا هو معنى الحديث الشريف:
"احفظ الله يحفظك"
وحِفْظ الله يكون بحفظ حدوده والوقوف عند أوامره ونواهيه.
ومن صفات المتقين الذين وعدهم الله هذا الوعد {مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ} [ق: 33] الخشية معناها الخوف وهو على نوعين: تخاف وأنت تكره مَنْ تخافه وتلعنه لأنه أقوى منك، أو لأنه يذلُّك ويقهرك، فأنت تخافه وتحتقره، وهذا خوف العباد من العباد.
وهناك خوف بحب وهيبة وإجلال على حَدِّ قول الشاعر:
أخافك إجلالاً وما بك قدرة عليَّ ولكن مِلْءُ عين حبيبها
فأنت تحب مَن تخافه، وتعلم أن له جميلاً عندك، وأنك لا تستطيع أنْ تُوفيه حقه، وهذا هو الخوف من الله.
ويساعدنا على فهْم هذا المعنى قول الله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ..} [فاطر: 27-28].
الحق سبحانه هنا لم يأت بحكم شرعي يلزمنا به أو يُخوِّفنا من التهاون فيه، إنما تحدث عن آيات كوْنِه، أرادنا أنْ نبحث فيها ونتأملها، وأنْ نُنقب عن أسرارها وما فيها من جمال.
فكلما نظرنا في آيات الكون من حولنا ازددنا لله خشية، ومهابة وإجلالاً لعظمته ونعمته علينا، والعلماء هم أوْلَى الناس بهذا النظر، وأقرب الناس إلى خشية الله وتقديره حَقَّ قَدْره.
وتأمَّل هنا الاداء القرآني: {مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ ..} [ق: 33] فاختار صفة الرحمة، ولم يقل مَنْ خشي القهار أو الجبار، لأن الخشية هنا مغلَّفة بالحب وبالرحمة والتعظيم والإجلال لله الذي نخافه ونخشاه.
ثم قيد هذه الخشية بأنها {بِٱلْغَيْبِ ..} [ق: 33] يعني: ليست معلنة أمام الناس، فالمؤمن الحق يخشى الله في سِرِّه قبل جهره، وفي خلْوته قبل جلوته، يخافه بينه وبين نفسه.
أما ضعيف الإيمان فيخاف الله أمام الناس، وإذا كان في جمع منهم تحدَّث عن الحلال والحرام، لكن إذا خلا بنفسه انتهك حرمات الله.
إذن: فخشيته من الله فيها رياء ويخالطها شرك، لذلك وصف المتقين، ووصف أهل الجنة بأنهم يخشوع الله بالغيب.
ومن معاني الغيب أيضاً أن المؤمن لمّا تُخوِّفه عذاب الله وتذكر له النار وهو ما يزال في سَعَة الدنيا يخاف منها، ويؤمن بوجودها وهو لم يرها، فهذه خشية بالغيب، لأن النار بالنسبة لنا الآن غيب وما صدَّقنا بوجودها إلا لأن الله أخبرنا بها.
والمؤمن يأخذ الخبر عن الله كأنه واقع يراه بعينه، ويلمسه بحواسه، فالخبر من الله أصدق من رؤية العين، وهذه المسألة أوضحناها في قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1].
فالخطاب هنا لسيدنا رسول الله، وهو لم يَرَ حادثة الفيل، فقد وُلد في هذا العام، فلماذا لم يخاطبه بقوله: ألم تعلم وعدل عنها إلى: ألم تر؟ قالوا: لأن الخبر من الله أصدق من رؤية العين، نعم لأن الرؤية قد تخدعك، أما إخبار الله فصِدْق مطلق.
{وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 33] أي: قلب أخلص لله وصدق في الطاعة، والقلب هو موضع الإيمان، والله تعالى -كما ذكرنا- يريد منا القلب لا القالب، فالقالب يمكن أنْ تقهره على أنْ يؤمن، أما القلب فلا يأتي إلا بالحب والطواعية.
لذلك جعل الحق سبحانه الإيمان أمراً اختيارياً لا إجبار فيه، وإلا لو شاء سبحانه لأجبر الخلق جميعاً على أنْ يؤمنوا به سبحانه، كما أجبر السماوات والأرض، لكن أراد لعباده أن يأتوه طواعية واقتناعاً.


ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [٣٤]لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [٣٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
أي: ادخلوا الجنة {بِسَلاَمٍ ..} [ق: 34] سلامة خالية من المنغِّصات، ولا تنتقل إلى غَمٍّ أو ضيق أبداً بعد ذلك.
وهذا القول {ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ..} [ق: 34] هو قول الملائكة حين يلقونهم بالسلام.
وكذلك يقولها لهم الحق سبحانه في قوله:
{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]
والذي يلقاه ربه بالسلام فلا شقاءَ له بعدها أبداً.
أو {ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ..} [ق: 34] أي: مسلِّمين على إخوانكم، تقولون لهم: السلام عليكم كما كنتم تُسلِّمون عليهم وتُحيونهم بها في الدنيا، كذلك في الآخرة تُحيون بها مالكاً على باب الجنة، وتحيون بها إخوانكم.
{ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ} [ق: 34] ذلك إشارة إلى يوم القيامة {يَوْمُ ٱلُخُلُودِ} [ق: 34] يوم البقاء والدوام والنعيم الذي لا ينقطع ولا يزول، وهذا هو الفرْق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
نعيم الدنيا مهما كان يؤرقه على صاحبه أمران: أنْ يفوت النعيم بالموت، او يفوته النعيم بالفقر أو المرض، أما نعيم الآخرة فسالم من كلِّ المنغصات.
وقوله سبحانه: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا ..} [ق: 35] أي: في الجنة.
وقد وقف المستشرقون عند هذه الآية يقولون: كيف يثبت لهم مشيئة فيما يريدونه وقد ورد:
"فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
والمشيئة تعني أنهم يعرفون ما يريدونه؟ قالوا: يشاء ما كان يعلمه ويتلذذ به من نعيم الدنيا، في حين أن نعيم الآخرة غيره تماماً ليس له منه إلا الأسماء، أما حقيقة الشيء فتختلف، لذلك قال بعدها {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].
وقد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله سبحانه:
{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً ..}
[البقرة: 25].
يعني: إذا اشتاقت نفسه مثلاً لأن يأكل المانجو يجدها غير ما عرفه في الدنيا، فإنْ طلبها في اليوم التالي وجدها غير التي أكلها في اليوم الأول وهكذا، فهي متشابهة لكن ليست هي هي.
إذن: جعل لهم مشيئة فيما يعرفون من نعيم الدنيا وفيما يشتهونه منها، أما في الآخرة فشيء آخر بدليل
"فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
لأنك إذا اشتهيتَ شيئاً طلبته باسمه، والاسم فرع لمعرفة المعنى، وما دام أنها أشياء غريبة عنا فنحن إذن لا نعرفها ولا نعرف لها اسماً.