لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٢٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
{لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا ..} [ق: 22] في غفلة ونسيان لهذا اليوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ ..} [ق: 22] أي: كشفنا عنك غطاء الغفلة.
{فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] أي: حاد ونافذ يستطيع أنْ يدرك الأمور على حقيقتها، أي: أمور الآخرة وما فيها من بعث وحساب وجزاء.


وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [٢٣]أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [٢٤]مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ [٢٥]الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [٢٦]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
معنى {قَرِينُهُ ..} [ق: 23] أي: الملك المقارن والملازم له عن يمينه وعن شماله يُسجِّل عليه كل أعماله وكل نَفَس من أنفاسه، يأتي ويقول: {هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] هذا ما عندي لهذا العبد، وهذا ما سجلته عليه جاهز ومُعد.
كما نرى مثلاً رجل البوليس حينما يُقدِّم تقريراً للنيابة يقدم فيه الأدلة ويقول: هذا ما عندي وقد انتهت مهمتي وعلى النيابة الحكم في المسألة.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] هذا أمر من الحق سبحانه وتعالى لكل من السائق والشهيد أنْ يُلقيا في جهنم كلَّ (كفار) شديد الكفر متمكن فيه.
والكفر إما كفر للنعمة كما حدث من أهل سبأ، فقال الله فيهم:
{ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ..} [سبأ: 17]
أي: كفروا نعمة الله، أو كفر المنعم سبحانه وهو كفر الألوهية.
وكلمة {كَفَّارٍ ..} [ق: 24] صيغة مبالغة من كافر، أي كفر مرة واحدة إنما كفار يعني يتكرر منه الكفر، لذلك وصفه بعدها بأنه {عَنِيدٍ} [ق: 24] أي: عنيد في كفره مُصرٌّ عليه مُتمادٍ فيه.
والكفر في اللغة هو السَّتْر، وكفر النعمة يأتي على قسمين: ستر النعمة في مكانها، بمعنى أنهم لم يذهبوا إليها بجهد العمل والسعي والاستنباط، أو أنهم جمعوها وأتوا بها في جيوبهم ثم بخلوا بها على المحتاجين.
كذلك كلمة {عَنِيدٍ} [ق: 24] فيها مبالغة نقول معاند وعنيد، فالعنيد هو الذي يعاند كلما دعوْتَه للحق ويُصر على موقفه، ولا شكَّ أن دعوة الرسول للناس بأنْ يؤمنوا تتكرر دائماً، لكن العنيد يعاند ولا يقبلها ولا يهتدي، ويتمادى مُتمسكاً برأيه، لا يقبل حجة ولا يقبل نقاشاً.
إذن: كفر بالنعمة وكفر بالمنعم.
وقوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} [ق: 25] هذا هو الوصف الثالث للكافر العنيد، فبالإضافة إلى شدة كفره، وعناده، هو {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ ..} [ق: 25] ومناع أيضاً صيغة مبالغة من مانع، فهو كثير المنع للخير يمنعه حتى عن نفسه بعد أنْ منعه عن الآخرين حين وقف في وجه الدعوة للإيمان، وحين منع ماله ولم يعط المحتاجين.
ثم هو بعد ذلك كله {مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} [ق: 25] فلم يكتف بمنع الخير، بل تعدي على الخير عند غيره فأخذه دون وجه حق، أخذه مرة بالسرقة، ومرة بالرشوة، ومرة بالخطف والغصب، ومرة بالتدليس، ومرة بالغش.. إلخ.
فهو إذن مُعتد بأيِّ وجه من وجوه التعدي، وهو {مُّرِيبٍ} [ق: 25] أي: شاكّ مُرتاب في هذا اليوم، ولو كان مؤمناً به وبالحساب والجزاء ما فعل ذلك، لو كان يؤمن بالمقابل لأعطى ولم يمنع.
ومن صفاته أيضاً {ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ..} [ق: 26] الخطأ هنا في القمة في مسألة الإيمان بالله، والله يقول:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ..} [النساء: 116]
لذلك كان الجزاء {فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ} [ق: 26].
إذن: عندنا نوعان من العذاب: عذاب مطلق لم يُوصف بأنه شديد في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ..} [ق: 24] وهذا لمن عصى الله وارتكب من الكبائر ما دون الشرك بالله.
ثم عذاب يُوصف بأنه شديد لمن أشرك بالله تعالى، ذلك لأن مرتكب الكبيرة ينطق بلا إله إلا الله، ويمكن أن يتوب لأن كلمة التوحيد لها أثر في حماية النفس حتى في العاصي.
أما المشرك فلا ينطق بكلمة التوحيد، وليس لها أثر في نفسه، ولو أدخلنا هذا مع هذا لكانت كلمة التوحيد ليس لها معنى ولا أثر.
والمغفرة في قوله:
{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ..} [النساء: 116]
قد تكون المغفرة مُعجَّلة له ونهائية وهو حي، وذلك لمَنْ تاب وأناب وبدّل عمله السيء بالعمل الصالح.
فيدخل تحت قوله تعالى:
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ..} [الفرقان: 70].
وإما أنْ تُؤخر له المغفرة، فيُعذَّب فترة في النار، ثم تتداركه رحمة الله وتشمله بركة لا إله إلا الله، فتُخرجه من النار كرامة لكلمة التوحيد.


قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [٢٧]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
القرين هنا بمعنى الصاحب والملازم له الذي زيَّن له الضلال سواء من الجن أو من الإنس، وهذا القرين يقول معتذراً لنفسه ومُدافعاً عنها {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [ق: 27] يريد أنْ يتبرأ من صاحبه الضال ويتركه في المأزق الذي وقع فيه.
والقرآن الكريم شرح لنا في أكثر من موقف هذا الحوار الذي دار بين التابع والمتبوع، ممَّنْ سلكوا طريق الضلال، وكيف أن كل طرف منهما يُلقي باللائمة على الآخر.
يقول تعالى:
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } [الصافات: 27-34].
كذلك يتبرأ الشيطان ممن اتبعه، فيقول:
{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ..} [إبراهيم: 22]
يعني: لا أحدَ منّا يستطيع أنْ يدافع عن صاحبه.


قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [٢٨]مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [٢٩]

تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الحق سبحانه وتعالى يُنهي هذا الحوار وهذه الخصومة بين الضال والمضل، وينهي هذه المعركة ويقول لهما {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ..} [ق: 28] لأن الخصومة لا تنفعكم الآن فلا يلقي كُلٌّ منكم بالمسئولية على الآخر، فأنا أعلم بكم، أعلم بالذنب وبالمذنب، بالضال والمضل.
فلا فائدة إذن من هذه الخصومة {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ} [ق: 28] أي: قدمتُ لكم الوعيد في الدنيا وبيَّنتُ لكم المنهج والحلال والحرام، والجزاء عليه في الجنة أو في النار.
{مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ ..} [ق: 29] يعني: تخاصمكم الآن لن يغير شيئاً فيما قضيته، ولن أرجع في كلامي، والمراد قوله تعالى:
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ق: 24].
وهذا قطع للعشم والرجاء وتيئيس لهم من رحمة الله: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] يعني: قضائي حَقّ وعدل تحكمه حكمة لا جبروت وظلم.
فهذه المدافعة وهذه المخاصمة بينكم لن تشفع لأحد منكم.
وقوله تعالى: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] كلمة (ظلام) صيغة مبالغة من ظالم، فقولنا: فلان ظلام يعني أنه من باب أوْلى ظالم لكن في النفي، فنَفْي ظلام لا تنفي ظالم.
إذن: فقوله تعالى {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] نفتْ ظلاَّم لكن لم تنْفِ ظالم، فهل يعني هذا إثبات صفة ظالم لله تعالى؟ نقول: قد تكون المبالغة في تكرار الحدث، فحين نقول مثلاً فلان أكول قد يكون لا يأكل كثيراً، إنما يأكل رغيفاً واحداً لكن يأكل عدة مرات في اليوم.
كذلك هنا الحق سبحانه لا يتحدث عن واحد، إنما عن الناس جميعاً عن العبيد كلهم، وعلى هذا المعنى يكون نَفْي (ظلام) نفياً لظالم أيضاً.
وقد يكون المقصود نفي الحدث نفسه، لأن الظلم قدرة ظالم على مظلوم، إذن: فالظلم يتناسب قوةً وضعفاً مع قوة الظالم، فلو فرضنا أن الحق سبحانه وتعالى يُوصف بالظلم، تعالى الله عن ذلك - لكن ظلمه قوياً شديداً، فنقول: ظلام لا ظالم.


يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [٣٠]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
سبق في الآيات قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] وهنا يسأل الحق سبحانه جهنم {هَلِ ٱمْتَلأَتِ ..} [ق: 30] وأيضاً سبق الوعد من الله أن يملأ جهنم
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13].
إذن: لا بدَّ أنْ يُوفيها هذا الوعد، فالسؤال هنا {هَلِ ٱمْتَلأَتِ ..} [ق: 30] سؤال إقرار، ويأتي الجواب {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] يعني هي امتلأتِ، لكن تريد المزيد، فأين تضعهم فيها؟ تذكرون أننا قلنَا زمان أن الخالق سبحانه أزلاً خلق الجنة لتسع الناس جميعاً لو آمنوا، وخلق النار لتسع الناس جميعاً إنْ كفروا، وبذلك تخلوا أماكن المؤمنين في النار، وتخلو أماكن الكافرين في الجنة، فالنار تقول {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] لتملأ الأماكن الخالية فيها.