وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [٩]وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [١٠]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله: {وَنَزَّلْنَا ..} [ق: 9] مادة نزل أتت بلفظ أنزلنا ونزَّلنا، أنزلنا للشيء ينزل جملة واحدة، كما في قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1]
أي: أنزلناه في هذه الليلة جملة، ثم نزل به الروح الأمين مُتفرقاً حسب الأحداث، فقال:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ..} [الشعراء: 293-194].
كذلك الماء لا ينزل من السماء جملة واحدة، إنما ينزل متتابعاً متفرقاً، فقال: {وَنَزَّلْنَا ..} [ق: 9] وقوله: {مِنَ ٱلسَّمَآءِ ..} [ق: 9] أي: من جهة السماء، لأن المطر في السحاب وأصله من الماء المالح في الأرض، حيث تتم عملية البخر ويتكثف بخار الماء في السحاب فيتكوَّن الماء الذي يسوقه الله تعالى بقوة الهواء حيث ينزل حينما يصادف الأماكن الباردة.
وقال عنه {مَآءً مُّبَٰرَكاً ..} [ق: 9] لأن الله بارك فيه وجعله صالحاً للشرب ولسقي النبات، فهو عذْب سائغٌ للشاربين.
وساعة ينزل هذا الماء المبارك على الأرض تهتز الأرض وتُخرج ما فيها من نبات {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ ..} [ق: 9] جمع جنة، وهي المكان المليء بالأشجار التي تجنُّ مَنْ يسير فيها.
أي: تستره فسُميتْ جنة، ومنه قوله تعالى:
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ ..} [الأنعام: 76]
يعني: ستره بظلمته.
ومعنى {وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ} [ق: 9] أي: الحب الذي يُحصد مثل القمح والشعير والذرة والأرز، وهو يُزرع كل عام ويُحصد ليزرع من جديد، أما الجنات فهي الشجر الدائم الذي يعمر لعدة سنوات ويثمر، فنجمع منه الثمار فقط وتبقى الشجرة كما هي للعام التالي.
وقوله: {وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ..} [ق: 10] عاليات مرتفعات، والعلو في النخل من عجائب الخَلْق ودقة الإبداع، لأننا رأينا العواصف تقتلع بعض الأشجار الضخمة، لكن لم نَرَ نخلة وقعتْ من العاصفة فجأة كما تقع الشجرة.
لكنْ إذا ضعفت النخلة نراها تميل شيئاً فشيئاً على فترات حتى تصل إلى الأرض، ففيها رِفْعة، وفيها شموخ.
وذكر الحق سبحانه النخل بعد شجر الجنات وحبّ الحصيد لأن النخل يجمع الصفتين معاً لأن يعطي ثماره مثل الشجر كل عام، لكن إذا لم يلقح جاءت الثمار كما يقولون: صيّص يعني بلح لا ينفع ولا فائدة فيه فيُقطع ويُرمى.
ومعنى {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] الطلع كوز أخضر يتفتح وتخرج منه السباطة، والسُّباطة هذه تحتوي على الشماريخ التي تحمل حبات البلح، ومن عجائب الخَلْق أنك ترى هذه الحبات مُنضدّة، يعني: مرصوصة بنظام دقيق في الشمروخ الذي يحملها، فلا تجد مثلاً بلحة أمام الأخرى، لكن موزَّعة على الشمروخ بالتساوي على شكل رِجْل غراب كما يقولون.
إذن: الحق سبحانه أعطانا طرفاً من آياته في السماوات والأرض، وقلنا: أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، ومع عِظَم خَلْق السماوات والأرض، إلا أن المظروف فيهما أعظم.
والإنسان في هذه الظرفية له خصوصية لأنه خليفة الله في الأرض، فالناس باعتبار أنهم مظروف ليس لأحد منهم حَظٌّ أوفر من الآخر، فهم في هذه الظرفية سواء، لأن الظرف مهمته حماية المظروف فيه فيستوي في الحماية ورقة بخمسين مع الورقة بمائة، ويستوي الذهب والفضة والحديد، فالصيانة للجميع وإنْ كان المصون مختلفاً.
كذلك الإنسان له حظه من الصيانة مع أن قيمة الناس تختلف، وهذا الاختلاف جاء لحكمة أرادها الحق سبحانه لصالح المجتمع كله:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }[الزخرف: 32].
فالناس منهم القوي والضعيف، والغني والفقير، العالم والجاهل، والذكي والغبي يتم بينهم التكامل في حركة الحياة، وقلنا: ماذا لو أن الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة؟ فمَنْ إذنْ سيقوم بالأعمال الدنيا، إذن: لابدّ أنْ يوجد ناس للقمة، وناس دونهم للخدمة، وإلا ما استقامتْ حركة الحياة.ومع هذا الاختلاف في القيمة من حيث عمل كل إنسان وإجادته لعمله يبقى أننا جميعاً عيالُ الله وعبيده، ليس منا من هو ابن الله، فليلزم كلٌّ منا أدبه وحدوده، فكلٌّ منا مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر، يعني (مفيش حد أحسن من حد).
يقول الحق سبحانه: {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ ...}.


رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ [١١]

تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
فقد أنبت سبحانه جنات وبساتين ومزروعات، منها ما يعطي حباً يكون قوتاً للناس وهو ما يحصد مثل القمح مثلاً، وأنبت أيضاً نخلاً عالياً باسقات في جو السماء تعطي الخير للناس لأجيال طويلة.
لذلك قال تعالى: {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ ..} [ق: 11] وهو رزق لكل عباد الله مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، لأنه خلق الجميع ولا بد أن يتكفل لمن خلق برزقه الذي يعيش به، حتى ولو لم يؤمن به سبحانه ثم يقول تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ ..} [ق: 11] الضمير في (به) يعود على الماء المذكور في قوله تعالى:
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً } [ق: 9].
هذا الماء {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ..} [ق: 11] أي: أحيينا به أرض بلد ميْت.
وهي الأرض الميتة الجدباء الجرداء الخالية من النبات، فإذا نزل عليها الماء أحياها بالنبات، كما في قوله تعالى:
{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5].
والحق سبحانه جعل إحياء الأرض الميتة دليلاً ومثلاً حياً على البعث والإعادة بعد الموت، قال تعالى: {كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ} [ق: 11]، وهذا نحو قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [الزخرف: 11].
ومثل قوله تعالى:
{ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }
[الروم: 19] أي كمثل ذلك تُخرجون وتبعثون، فمن أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.
فالأرض تكون ميتة هامدة جرداء لا أثر فيها لحياة، فلما ينزل عليها الماء ويسقيها المطر تتحرك وتهتز وتزيد فتنغلق الشقوق التي في التربة بفعل العطش ثم تنبت من كل زوج بهيج، فهي نموذج حيٌّ مشاهد للخلق وللحياة.


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ [١٢]وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ [١٣]وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [١٤]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذه تسلية لرسول الله، وتخفيف عنه لما يلاقيه من تكذيب قومه له، وقد عرضتْ الآياتُ موقفهم أولاً
{ بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق: 2]
ثم كذَّبوا بالبعث الذي أخبر به، فقالوا:
{ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3].
فأراد الحق سبحانه أن يعرض على رسوله موكب الرسالات السابقة عليه، وكم حدث فيها من تكذيب لإخوانه الرسل.
وكأنه يقول له: يا محمد لست بدعاً في ذلك {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ..} [ق: 12] أي: قبل قومك كذَّب {قَوْمُ نُوحٍ ..} [ق: 12] مع أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذَّبوا ولم يؤمن معه إلا القليل منهم.
لكن هل تركهم الله؟ لا بل انتقم منهم بالغرق الذي أبادهم عن آخرهم، فما كان الحق سبحانه ليترك أهل الفساد وأهل التكذيب ومصادمة الرسل دون عقاب، بل يُملي لهم ثم يأخذهم بلا هوادة.
فقوم نوح عليه السلام كانوا يسخرون منه، وهو يصنع السفينة، فيقول لهم: سيأتي اليوم الذي نسخر نحن منكم كما تسخرون منا، وكأنه على ثقة من نصر الله وتأييده لدعوته، وكما كذب قوم نوح كذب {وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ ..} [ق: 12].
والرسُّ اسم بئر معروفة {وَثَمُودُ} [ق: 12] وهم قوم سيدنا صالح {وَعَادٌ} [ق: 13] قوم سيدنا هود {وَفِرْعَوْنُ ..} [ق: 13].
وقصة فرعون مع سيدنا موسى معروفة {وَإِخْوَانُ لُوطٍ ..} [ق: 13] أي قومه {وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ..} [ق: 14] والأيكة الحديقة كثيفة الأشجار متشابكة الأغصان، وسكان هذه الحديقة هم قوم سيدنا شعيب.
{وَقَوْمُ تُّبَّعٍ ..} [ق: 14] تبع كان ملكاً من ملوك اليمن يُقال له أبو كرب الحميري.
وكل هؤلاء المكذبين كانوا أصحاب حضارة وأهل نعمة ورفاهية، لكن بعد أنْ كذَّبوا الرسل وخالفوا منهج الله بدّل الله حالهم، وقلبَ أوضاعهم فأهلكهم بذنوبهم.
لذلك يقول هنا {كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] أي: لما كذَّبوا رسلي حَقَّ عليهم ما وعدتهم به من العذاب ووجب لهم الهلاك.
وفي آية أخرى فصل ذلك الانتقام فقال:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40].


أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [١٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
عاد السياق هنا إلى مناقشة المنكرين للبعث الذين قالوا:
{ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3]
عاد إلى هذا الموضوع ليقول لهم: لِمَ تنكرون البعث؟ أليس أمامكم الخلْق الأول {أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ ..} [ق: 15] أي: هل عجزنا عنه وهل أعيانا؟ أبداً بل قدرنا عليه وأنشأناه من العدم.
والخلق الأول خلق السماوات والأرض وخلْق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام والقادر على الخَلق بداية قادر على إعادته من باب أوْلَى.
{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] أي: في خلْط وتردد، كما قال عنهم في الآيات السابقة
{ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] أي: مختلط.