قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [١٦]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
يعني: تنبهوا إلى هذه الحقيقة، فأنا خالقكم وأعلم بكم من أنفسكم ولا يَخْفى عليَّ منكم خافية، فإياكم أنْ تقولوا آمنا وتظنون أنكم تدارون الحقيقة وتسترون كذبكم، فأنا أعلم المؤمن من غير المؤمن، أعلم الصادق وأعلم المنافق.
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ ..} [الحجرات: 16] أي: تخبرونه بما أنتم عليه من الإيمان، كيف {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ..} [الحجرات: 16] أي: لا يخفى عليه شيء فيهما، بل {وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] يعني: علمهتعالى لا يتوقف عند السماوات والأرض، إنما يتعدَّى ذلك.
{وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] لأن السماوات والأرض بعض كوْن الله الفسيح، لذلك وصفهما أي السماوات والأرض وما بينهما، فقال: مثل حلقة ألقيتها في فلاة، فما نعرفه نحن من السماوات والأرض لا يكاد يُذكر في كوْن الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ...}.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [١٧]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
يُروى أن هذه الآية نزلت في جماعة من الأعراب، وقيل: من بني أسد أتوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في المسجد، فقالوا: جئناك نشهد أنْ لا إله الله وأنك رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثاً، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان.
فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
إذن: مَنْ يمنُّ على مَنْ؟ أنتم لا ينبغي أنْ تمنُّوا بإسلامكم على رسول الله، لأن إسلامكم في صالحكم يعود عليكم بالنفع، فالإسلام هو الذي أمنَّكم من القتال والحرب والأسْر، وأخذتم ما يتميز به المسلم من حَقٍّ في الزكاة والحماية، والله تعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
إذن: لا تمنُّوا بإسلامكم {بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ..} [الحجرات: 17] لأنه أرشدكم إلى طريق الصواب والهداية {أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ..} [الحجرات: 17] إذن: إنْ كان هناك منة، فالمنّة منّ الله عليكم، لأن طاعة الله والسير على منهجه هو الذي يحمي لكم حركة الحياة ويُنظمها حتى لا تتعارض مصالحكم.
{إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] أي: في ادعائكم الإيمان، وإنْ تفيد الشك فكأنهم يمنُّون بشيء هم كاذبون فيه، وحتى لو كانوا صادقين ما كان لهم أنْ يمنُّوا به.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [١٨]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
سبق أنْ أوضحنا أن السماوات والأرض ظرف، وفي هذا الظرف عجائب وبدائع من خَلْق الله أعظم من الظرف، لأن القاعدة أن المظروف أعلى وأعظم من المظروف فيه.
لذلك الحق سبحانه يقول:
{ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ..}[ آل عمران: 189] وفي موضع آخر:
{ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ..}[ النجم: 31] فالسماوات والأرض رغم ما فيهما من عجائب الخلْق وإبداع وهندسة كونية إلا أنهما يحويان ما هو أعجب.
هنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عما في السماوات والأرض من غيب، والغيب كل ما غاب عن إدراكك، والشيء قد يغيب عن إدراكك اليوم ويظهر لك غداً، فمثلاً الكهرباء قبل اكتشافها كانت غيباً لا ندري عنه شيئاً، والآن أصبحتْ مشهداً نحسُّه جميعاً ونتعامل معه.
إنك لو نظرتَ إلى الموجبات التي تحمل الصوت والصورة في الهواء لوجدتَ أمراً عجيباً حقاً، لأنك لو جئتَ مثلاً بمائة راديو ومائة تليفزيون، ووضعتها في مكان واحد، ووجَّهت كلاً منها إلى جهة لوجدتَ إرسالات مختلفة بالصوت والصورة.
فكيف تداخلتْ هذه الموجات في هواء واحد، ووصلتْ إلينا بهذه الدقة وهذا الوضوح، وهي من أقصى بلاد الدنيا؟ هذه كلها أسرار من غيب السماوات والأرض تدعونا إلى الإيمان بقوله تعالى:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ..}[ فصلت: 53].
ورغم عظمة الخَلْق في السماوات والأرض، فغيب السماوات والأرض أعظم من الجميع، وسيظل هذا الغيب مدداً لا ينفد، وعطاء لا ينتهي، يُطالعنا من حين لآخر بشيء جديد من غيب الله ليظلّ القرآنُ معجزاً إلى قيام الساعة.
ومن حكمة الحق سبحانه وتعالى أنْ وزَّع عطاءات القرآن على عصور الزمان كلها حتى لا يستقبل عصرٌ القرآنَ وهو بلا عطاء.
ثم إن هذا العطاء يأتي على قدر العقول، وعلى قدر البحث والتأمل في ملكوت الله، وبذلك نفهم معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن القرآن:
"لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق عن كثرة الردِّ".
فأنت تقرأ مثلاً أعظم القصائد الشعرية، ولا بدَّ أنْ تسأم منها بعد مرة أو حتى بعد عدة مرات، لكن تقرأ القرآن فلا تمله، بل تزداد له حباً كلما أمعنتَ في القراءة، لأنه كلام الله وله سِرٌّ مع كل تَالٍ له، وله عطاء لكل مُتأمل فيه، فعطاءات القرآن متعددة يأخذ منه كل تَالٍ له على قدره.
وختام السورة بهذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ..} [الحجرات: 18] يدل على أن مُلْك الله واسع وعجائبه لا تنتهي، وليس لها حصر ولا عدَ، ومهما وصلت البشرية من التقدم فسوف يبقى عند القرآن الجديد، وفي آيات الله ما يبهر العقول.
كنا في الماضي نتحدث عن عصر الفحم، ثم عصر البخار، ثم عصر الكهرباء، والآن يتحدثون عن عصر الطاقة النووية والطاقة الذرية، فأين كانت هذه الطاقات؟
كانت غيباً في علم الله وكشف عنها لعباده حينما تقدَّمتْ العقول وارتقتْ الأفكار، وكلها اكتشافات لم يأتِ أحدٌ بشيء من عنده، كلها من عند الله وفَيْض من عطائه مطمور إلى حين.