فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٤ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
يعني: بعد أن استعجلوا العذاب، وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] فجاءهم العذاب في صورة سحاب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً..} [الأحقاف: 24] يعني: سحاباً يعترض في جو السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ..} [الأحقاف: 24] مقبلاً عليهم {قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا..} [الأحقاف: 24] يعني: ظنوه سحاباً عادياً سيمطر على أوديتهم ويأتيهم بالخير.
إذن: الهاء في {رَأَوْهُ..} [الأحقاف: 24] تعود على السحاب، لأنه هو المعلوم في الكلام بدليل قولهم (ممطرنا) ولا يمطر إلا السحاب، فالقرينة دلّتْ على أنه السحاب.
وكثيراً ما يعتمد القرآن في أسلوبه على القرائن التي تبين مرجع الضمير اعتماداً على أن العقلَ يدرك بذاته المسألة.
اقرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ..} [فاطر: 45] والمراد: ظهر الأرض مع أنها لم تُذكر في السياق، لكن هي التي تأتي في الذهن، ولا يُفهم من الكلام إلا هذا.
فالقاعدة أن الضمير لا بدَّ انْ يكون له مرجع، ولا يوجد ضمير غائب ليس له مرجع إلا شيء واحد هو إذا كان الضمير الغيبي للغيب المطلق وهو الحق سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] هو من؟ الله لأنها لا تنصرف إلا إليه سبحانه.
تقول: جاء زيد فأكرمته - أى زيداً، وجاءت فاطمة فأكرمتُها.
الهاء تعود على فاطمة وهكذا، ومرجع الضمير يكون لذات الشيء كما لو قلت: جاءني رجل فأكرمته - أي: أكرمتُ الرجل، وقد يعود على غير ذات الشيء كما لو قلت: تصَّدقْتُ بدرهم ونصفه، فالهاء في نصفه لا تعود على الدرهم المذكور إنما على درهم مثله، أي على نصف درهم مثله.
لكن، لماذا ظنُّوا السحاب المعترض ممطراً؟ قالوا: لأنهم كانوا في جَذْب وقحط ينتظرون الماء، فرأوا سحاباً يعترض أفق السماء رأوه داكناً بطيئاً في سيره وهذه علامات السحاب الممطر، لأن أبطأ الدَّلاء فيضاً أملؤها، وأثقل السحب مشْياً أحفلها، فبُطء السحاب دلالة على أنه مُحمَّل بالماء وهم مُستشرفون للمطر، فظنوْه مطراً.
إذن: أعطاهم الأمل في نزول المطر، فكلُّ العلامات تدل عليه، وفجأة تقطع عنهم هذا الأمل، وبين بسْط النفس بالأمل وقمْعها بقطع الأمل نوعٌ من النكاية والحسرة، يُسمُّونه (يأس بعد طمع).
وهذا نوع من التعذيب في حَدِّ ذاته يستعمله مثلاً القائمون على التعذيب في السجن، فيمنعون الماء عن المسجون حتى يشتدَّ به العطش ويتوسَّل إليه ليشرب، فيأتيه العسكري بكوب ويُقرِّبه منه حتى يكون على شفتيه فيرميه على الأرض، وهذا إيلام وتعذيب، فليْته ما جاء بالماء أصلاً، لأن مجيء الماء أمامه بلاء فوق بلاء العطش.
كذلك الحال في هؤلاء، استشرفوا للمطر وقالوا: يخلّصنا مما نحن فيه من الجدب، فإذا به يُنزل عليهم العذاب بدلاً من الماء، إذا به العذاب الذي سبق لهم أنْ كذّبوا به واستعجلوه {بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ..} [الأحقاف: 24] أي: من العذاب جاء متمثلاً في صورة {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
قلنا: إن كلمة الريح إذا جاءت هكذا مفردة دلَّتْ على أنها تحمل العذاب والشر.
فقوله (ريح) أي: عذاب مُجمَل ثم يُفصِّله {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] أما إذا جمعتْ (رياح) فإنها تدل على الخير، كما في قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ..} [الجاثية: 5] لأن تصريفها يسوق السحاب ويُجري السفن ويلقح الزهر.. إلخ.
لذلك ورد في الحديث الشريف في دعاء هبوب الريح: "اللهم اجعلها رياحاً، ولا تجعلها ريحاً".
وسبق أنْ بيَّنا أن الرياحَ طاقةٌ وقوة تصلح وتنفع إذا جاءتْ من جميع الجهات، وتدمر إذا جاءتْ من جهة واحدة، وتفريغ الهواء الآن عِلْم له قواعدُ يستخدمونه في التدمير.
ثم إن الهواء نفسه مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة وبدونه لا توجد حياة، لذلك جعله الله عاماً شائعاً في الكون لا يملكه أحد كما يملكون الطعام مثلاً، لأن مالك الهواء لو منعه عنك لحظة تموت، على خلاف الماء والطعام مثلاً.
ثم بعد ذلك يُفصِّل القول في كلمة {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] فيقول:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا...}.