أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ١٦ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
وكلمة {أُوْلَـٰئِكَ..} [الأحقاف: 16] إشارة لمن سبق ذكرهم وأوصافهم {ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ..} [الأحقاف: 16] المشهور عن الفعل تقبل أنه يتعدَّى بمَنْ، كما جاء في قول سيدنا إبراهيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ..} [البقرة: 127].
وفي موضع آخر: {وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ..} [الشورى: 25].
إذن: يتعدى مرة بـ (من) ومرة بـ (عن) ولكلٍّ معنى، فقوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ..} [الأحقاف: 16] يعني: أن التوبة تحمل عنك عبءَ المعاصي وثقلها، لأنها تزحزحها عنك.
لذلك قال: {عَنْهُمْ..} [الأحقاف: 16] لأن مجيء حرف مكان حرف لا بدَّ أن له حكمة، وأنه يضيف معنى لا يعطيه الحرف الآخر، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة في قول الحق سبحانه: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ..} [إبراهيم: 39] ورأينا كلّ المفسرين يقولون: (على) هنا بمعنى: مع الكِبَر.
وبتأمل الآية نجد (مع) حرفان و(على) ثلاثة أحرف، فلماذا عدل القرآن عن (مع) وجاء بـ (على)؟ كيف يترك السهل في حرفين إلى الثلاثة؟
ولما نتأمل مسألة كِبَر سيدنا إبراهيم نجد أن المعيّة التي تفيدها (مع) لا تكفي، فالمراد حرف يعطي المعية المتغلّب عليها، فالكِبَر موجود مع سيدنا إبراهيم ومصاحب له، لكنه كِبَر مُتغلَّب عليه بقدرة الله.
فكأن طلاقة القدرة علَتْ على قانون الكبر، وخرقتْ الناموس فجاء إسماعيل على هذا الكبر، وهذا المعنى لا يقوم باستخدام (مع) بل (على).
كذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} [الرعد: 6] فكأن الذنب يقتضي العقوبة، لكن مغفرة الله علَتْ على العقوبة وتغلّبت عليها.
إذن: حينما يستخدم حرفاً مكان حرف فلا بدَّ أنه يضيف معنىً لا يضيفه الحرف الأول.
إذن: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ..} [الأحقاف: 16] حملنا عنهم عبء ما كان قبل التوبة، وفي موضع آخر يشرح الحق سبحانه هذا المعنى: {فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..} [الفرقان: 70] حتى قال أحدهم: والله لقد أسفتُ أنِّي لم أرتكب الكبائر، لأن الله كان سيُبدلها حسنات، وهذا خطأ، فمَنْ يدريك أنك ستعيش حتى تتوب؟
وقوله: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ..} [الأحقاف: 16] أي: نعفو عنها ونتسامح {فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ..} [الأحقاف: 16] سبق أنْ قلنا: أصحاب الجنة يعني بينهم وبينها مصاحبة أو صداقة، أو أصحابها يعني المالكين لها.
لكن هنا يقول {فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ..} [الأحقاف: 16] فكأن هؤلاء الذين نتحدث عنهم في وسط الجنة، وأهل الجنة محيطون بهم، فهم في المركز، هذا الفهم جاء من معنى (في) هنا، لكن لماذا استحقّ هؤلاء أنْ يكونوا في الوسط وفي المركز وأهل الجنة حولهم؟
قالوا لأن الذي أَلِفَ المعصية ثم يذهب إلى الطاعة تشقّ على نفسه بعد أنِ استهوى المعصية وارتاضَ عليها، فهو يجاهد نفسه للاستمرار على الطاعة، على خلاف مَنْ لم يُجرب المعصية، فالطاعة عنده طبيعية لا تحتاج إلى مجاهدة كالأول، لذلك يعاملهم الله بهذا التساهل وهذا الفضل فيُبدِّل سيئاتهم حسنات، وهذا منتهى الكرم.
ثم يُطمئنهم الحق سبحانه وتعالى: {وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] فكأنهم لا يُصدِّقون أن الله يعاملهم بكلِّ هذا الفضل، فيُذكِّرهم أن هذا وعد الله، ووَعْد الله وعد صدق لا يُخلَف أبداً، ولا يوجد مَنْ ينقضه أو يفسخ هذا الوعد.
والحق سبحانه يعطي عباده كلّ هذه التسهيلات والإغراءات، فيقبل توبة التائبين ويعفو عن المسيئين، ويُبدِّل سيئاتهم حسنات، لا لنجاة التائب وحده، وإنما لنجاة المجتمع كله، فلو لم تشرع التوبة لشَقِيَ المجتمع بكلِّ عاصٍ سُدّ في وجهه بابها، ولاستشرى الشر وساد.