قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٩ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
{قُلْ..} [الأحقاف: 9] أي: قُلْ لهم يا محمد {مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ..} [الأحقاف: 9] البدع هو الشيء الجديد المستحدث الذي لم يسبق له مثال.
ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] أي: خالقهما على غير مثال سابق، نقول: فلان مبدع يعني: جاء بشيء لم يسبقه أحد إليه.
والمعنى: ما جئتُ على سنة غير التي جاء عليها مَنْ سبقني من الرسل، أو ما كنتُ مبتدعاً ما أدعوكم إليه، لستْ أول رسول يُقابَل بالتكذيب ويُواجَه بالكفر والعناد والاضطهاد، بل سبقني إلى ذلك كلّ الرسل السابقين، أُوذوا وكُذبوا وصبروا حتى نصرهم الله، كما قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ..} [العنكبوت: 40].
فكانت سنة الله في الرسل السابقين أنْ تتولى السماءُ تأديب المكذِّبين للرسل المعارضين لدعوة الحق، أما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمَّن الله محمداً وأمَّن أمته على أنْ يتولوا هم تأديب المكذِّبين للدعوة المصادمين لها، وأن ينصروا الحق، وأنْ يكونَ أهلاً له إلى قيام الساعة.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة" والمراد الخير فيَّ حصراً وفي أمتي نثراً، بحيث يأخذ كل جيل أو كل واحد منهم جزءاً من هذه الخيرية.
وقوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ..} [الأحقاف: 9] أي: الآن لا أدري لكن لعله يدري في المستقبل بما يُوحيه الله إليه، كما حدث في مسألة محاربة الكفار والجهر بالدعوة، حين طلب بعض مَنْ أسلم مع رسول الله محاربة الكفار.
فكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ما أُمرت، ما أُمرت.
فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وافقهم على القتال.
إذن: جهر بدين الله في مكة ولم يحارب إلا في المدينة، وهنا حكمة، فمكة كانت موطن قريش ومحلّ سيادتها، وقريش كانت موضعَ اهتمام واحترام من كل قبائل العرب لمكانتها من بيت الله الحرام وخدمتها لحجاجه.
ولتوسط مكة طريقَ التجارة بين اليمن والشام في رحلة الشتاء والصيف، فكان لا بدَّ من مراعاة هذه المكانة لقريش، وعدم إعلان الحرب عليها في هذا الوقت.
وحين نقرأ مثلاً سورة الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 3-5] لو قلت: لماذا؟ تجيبك سورة قريش: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ} [قريش: 1-2].
يعني: فعل الله هذا لمصلحة قريش، ولتظلّ لهم المكانة والمهابة بين قبائل العرب، ولتظلّ آمنة مطمئنة في رحلة تجارتها بين اليمن والشام.
لذلك قال بعدها: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
والمعنى في {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ..} [الأحقاف: 9] يعني: ما أدري أيأمرنا الله أنْ نقاتلَ هؤلاء؟ أم يأمرنا بترك مكة إلى مكان آخر نلتمس فيه نُصْرته، لذلك بعدها أمرهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة، وقال: "إنَّ فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد".
وكأن سيدنا رسول الله كانت عنده خريطة للعالم من حوله، وفعلاً لما ذهبوا إلى الحبشة أكرمهم النجاشي، ومنعهم حينما أرسلت قريش عَمْراً في طلبهم، فردَّ عَمْراً وردَّ هدايا قريش، وآمن بمحمد ودعوته، لذلك وكله رسول الله في أنْ يُزوِّجه من أم حبيبة، ولما مات النجاشي صلى الله عليه رسولُ الله.
والهجرة إلى الحبشة كانت مرحلة انتقالية يحتمي فيها المضطهدون من المسلمين عند هذا الرجل الذي لا يُظلم أحد عنده، وحتى يأذن الله لرسوله في الهجرة إلى المدينة، وحيث تأتي نُصْرة الإسلام وإعلاء كلمته هناك.
والحكمة أن الصيحة الأولى للدعوة كانت في مكة، أما نُصْرة الدين وتأييده فكانت في المدينة، ذلك لأن قريشاً كانوا سادةَ العرب وأصحاب السيطرة في الجزيرة العربية.
ولو أن النُّصْرة جاءتْ في مكة لَقالوا إنها بسبب سيادة قريش وسُلطتها التي تعدَّت الجزيرة إلى العالم من حولها، فكانت الحكمة أن تكون الصيحة الأولى للإسلام في أذن هؤلاء السادة تهزُّهم وتُقبِّح أفعالهم، وتُبطل ما هم عليه من عبادة الأصنام.
لكن النُّصرة تُؤجل إلى المدينة لينتصر الدين بالمهاجرين والأنصار، حتى لا يظن ظانٌّ أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد، بل إن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد.
وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9] انظر هنا إلى العظمة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يتكلم بما عنده كأنه يقول: "يرد عليّ فأقول: أنا لستُ كأحدكم، ويُؤخذ مني فاقول ما أنا إلا بشر مثلكم".
إذن: سيدنا رسول الله لم يأتِ بشيء من عنده إلا في المسألة التي لم يرد فيها حكم، فإنِ اجتهد في مسألة لم يردْ فيها حكم وأخطأ قبل أنْ يُعدِّل الله له، وأنْ يُصحَّح له ولا يأنف من ذلك، وهو الذي يخبرنا بهذا التعديل، كما في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم: 1].
ثم يقول الحق سبحانه:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ...}.