الفصل الثاني: المصطفى Unti1034
الفصل الثاني:
المصطفى

"والكاظمين الغيظ" (34):
كان العرب يتقاتلون لأربعين سنة بسبب حادث بسيط كاقتحام جمل يملكه ضيف إحدى القبائل داخل مراعي القبيلة الأخرى، وتقاتل كلا الجانبين حتى أن سبعين ألف نفس قد حصدت مما هدد بفناء القبيلتين.

لمثل هؤلاء العرب الشرسين جاء نبي الإسلام ليعلمهم ضبط النفس والانضباط إلى حد إقامة الصلاة في ساحة القتال.

الحرب دفاعاً عن النفس (35):
بعد أن أخفقت تماماً الجهود المتكررة الرامية إلى المصالحة وطرأت ظروف اضطرته إلى ساحة القتال اضطراراً دفاعاً عن النفس، بَدَّلَ نبي الإسلام فن (استراتيجية) القتال بالكامل.

إن إجمالي الخسائر في الأنفس في جميع الحروب التي وقعت خلال حياته حين دانت له الجزيرة العربية كلها لا يتعدى بضع مئات.

لقد علَّم أهماج (36) العرب الصلاة وأن يصلوا لله القدير جماعة لا فرادى، حتى وسط غبار العواصف والقتال.

وكلما حان وقت الصلاة وهو يحين خمس مرات في كل يوم يجب ألا تترك أو تؤجل صلاة الجماعة.

فينبغي أن تصلي طائفة فتركع وتسجد بين يدي ربها بينما تشتبك الطائفة الأخرى مع العدو.

فإذا قضيت الصلاة فينبغي أن تغير كلتا الطائفتين موقعهما (37).

التمدن والإنسانية في ساحة القتال:
إن ساحة القتال نفسها صارت مجالاً للتحضُّر الإنساني.

وصدرت توجيهات صارمة بعدم الفساد أو الإتلاف وعدم الغش وعدم نقض المواثيق وعدم انتهاك الحرمات وعدم التمثيل بالقتلى وعدم قتل الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وعدم قطع النخل أو حرقه وعدم قطع شجرة مثمرة وعدم التعرض للرهبان والأشخاص المشغولين بالعبادة.

إن معاملة مُحَمَّد الشخصية لألد أعدائه هي المثال الأسمى لأتباعه.

فقد كان في أوج قوته عند فتح مكة.

إن القرية التي عذبته هو وأتباعه وأخرجته هو وقومه إلى المغترب واضطهدته وقاطعته بقسوة حتى حينما لجأ إلى مكان يبعد عنها أكثر من مائتي ميل، هذه القرية كانت خاضعة له تماماً في ذلك الحين.

وقد كان يحق له حسب قوانين الحرب أن يثأر منها للأعمال الوحشية التي أنزلتها به وبقومه.

ولكن أي معاملة تلك التي قابلهم بها؟

لقد فاض قلب مُحَمَّد بفطرة الحب والرحمة حين صرح قائلاً:
"لا تثريب عليكم اليوم. إذهبوا فأنتم الطلقاء". (38)

العفو عن ألد الأعداء:
لقد كان أحد الأهداف الرئيسية التي أجاز بسببها الحرب دفاعاً عن النفس هو توحيد البشر.

وحينما تحقق هذا الهدف عفى عن ألد أعدائه حتى أولئك الذين قتلوا عمه الحبيب حمزة وانتهكوا حرمة جسده ومثلوا به فشقوه ولاكوا جزء من كبده.

النظرية تمتزج بالتطبيق:
إن مبدأ الأخوة العالمية (39) وعقيدة وتعاليم المساواة بين البشر التي أعلنها ونادى بها تمثل مساهمة عظيمة جداً من مُحَمَّد للارتقاء الاجتماعي للإنسانية.

إن جميع الأديان الكبرى دعت أيضاً إلى نفس العقيدة والتعاليم ولكن نبي الإسلام وضع هذه النظرية في التطبيق الواقعي.

وسوف يُعترف بقيمة هذه العقيدة والتعاليم (40) بعد فترة، ربما حين يستيقظ الضمير العالمي فتختفي التحيزات والتحاملات والأحكام العنصرية المسبقة ويخرج مفهوم أقوى لأخوة البشر إلى الوجود.

الفلاح والملك متساويان أمام الله:
تقول الشاعرة الهندية "ساروجيني نايدو" عن هذا المظهر من مظاهر الإسلام:
"لقد كان الإسلام أول دين يبشر بالديمقراطية ويمارسها، فيجتمع المصلون سوياً في المساجد حين يرفع الآذان لتتجسد ديمقراطية الإسلام خمس مرات في اليوم عندما يركع ويسجد الفلاح والملك جنباً إلى جنبٍ مُعلنين أن "الله أكبر".

وتمضي شاعرة الهند العظيمة قائلة:
"وقد أدهشتني مرة أخرى هذه الوحدة الإسلامية التي لا انفصام لها، التي تجعل المرء أخاً بالفطرة.

فأنت حين تقابل مصرياً وجزائرياً وهندياً وتركياً في لندن فلا فرق إلا أن مصر هي بلدة أحدهم والهند بلدة الآخر".

الإسلام حضَّر أسبانيا وهو اليوم الحل للمشاكل الاجتماعية:
يقول "المهاتما غاندي" (41) بأسلوبه الذي لا يُحَاكَى:
"لقد قال أحد الأوربيين في جنوب إفريقية أنهم يخشون مجيء الإسلام، الإسلام الذي حضَّر ومدَّن أسبانيا، الإسلام الذي حمل مشعل النور إلى مراكش وبشر العالم ببشارة (42) الأخوة (Gospel of Brother hood)، إن الأوروبيين في جنوب إفريقية يخشون مجيء الإسلام لأنه يقرر ويؤكد مساواة الملونين بالأجناس البيضاء، فليخشونه بجد، وإذا كانت الأخوة خطيئة وإذا كانت المساواة بالأجناس الملونة هـو ما يخشونه، فخشيتهم إذن فـي محلها".

الحج شهادة حيَّة:
يرى العالم كل عام في موسم الحج المشهد الرائع لهذا الاستعراض العالمي للإسلام وهو يسوي جميع الفروقات في الجنس واللون والمكانة.

ولا يجتمع الأوربيون والأفارقة والفرس والهنود والصينيون سوياً في مكة كأفراد أسرة ربانية واحدة فحسب، ولكنهم يرتدون زياً موحداً أيضاً (إزار) فيرتدي كل رجل منهم قطعتين ساذجتين (43) من القماش الأبيض غير المخيط إحداهما حول سوءته والأخرى فوق كتفيه (رداء) وهو حاسر الرأس في غير خيلاء ولا تكلف مردداً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك". (44)

وبذلك لا يبقى ما يفرق بين الرفيع والوضيع.

ويحمل كل حاج معه إلى بلده انطباعاً بالمدلول العالمي للإسلام.

إن كلمات الأستاذ هوجرونجي توضح هذه المسألة حيث يقول:
"إن عصبة الأمم التي أسسها نبي الإسلام تضع مبدأ الوحدة الإسلامية والأخوة الإنسانية على أسس عالمية بحيث تعطي للأمم الأخرى مثالاً يُحتذى".

ويمضي قائلا:
"الحقيقة هي أنه لا توجد أمَّة في العالم يمكن أن تضاهي ما فعله الإسلام حيال تحقيق فكرة عصبة الأمم".

الإسلام منارة لعالم ضَلَّ السَّبيل:
إن نبي الإسلام قد جاء بحكم الديمقراطية في أحسن أشكالها. (45)

إن الخليفة عمر والخليفة علي زوج ابنة النبي والخلفاء المنصور والعباس بن الخليفة المأمون وخلفاء وملوك آخرين كثيرين كان عليهم أن يمثلوا أمام القضاة كرجال عاديين في المحاكم الإسلامية.

ونحن نعلم كيف يُعامَل السود بواسطة الأجناس البيضاء المتحضرة حتى يومنا هذا.

ولنأخذ كمثال منزلة بلال العبد الحبشي في أيام نبي الإسلام زهاء أربعة عشر قرنا خلت.

إن العمل كمؤذن لصلاة المسلمين كان يعتبر عملاً يدعو للاحترام في أيام الإسلام المبكرة.

وقد أعطي هذا العمل لهذا العبد الحبشي.

وأمره النبي بعد فتح مكة أن ينادي للصلاة فوقف هذا العبد الحبشي ذو البشرة السوداء والشفتين الغليظتين على سطح الكعبة المشرفة أكثر الأماكن عراقة وقداسة في العالم الإسلامي.

وهنالك صرخ أحد العرب المستكبرين بصوت عال متألماً: "الويل لهذا العبد الحبشي الأسود، إنه يقف فوق سطح الكعبة المشرفة لينادي للصلاة".

وقد ألقى نبي الإسلام خطبة كانت كأنها الرد على هذه الثورة التي تفوح منها رائحة الكبرياء والهوى اللذين عزم نبي الإسلام على استئصالهما، قال فيها ما معناه:
"الحمد لله الذي أذهب عنا نخوة (46) الجاهلية وتفاخرها بالأنساب، أيها الناس اعلموا أن الناس فريقين: الأبرار المتقين الفائزين عند الله، والفُجَّار القاسية قلوبهم السَّفلة الذين تزدريهم عين الله، وإلا فإن الناس كلهم لآدم وخلق الله آدم من تراب".

وقد صدق القرآن هذا فيما بعد وأكَّدَهُ بهذه الكلمات:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13).

التحوُّل فوق العادي:
إن نبي الإسلام أحدث تحولاً هو من العِظَمِ بحيث أن أكرم العرب وأخلصهم نسباً عرضوا بناتهم للزواج من هذا العبد الحبشي.

وكلما رأى خليفة الإسلام الثاني المعروف في التاريخ بأمير المؤمنين عمر العظيم، هذا العبد الحبشي وقف له احتراماً ورحَّبَ به مُعلناً: "ها هو قد جاء سيدنا ها هو قد جاء مولانا".

فيا له من تحوُّل هائل هذا الذي أحدثه القرآن والنبي مُحَمَّد في العرب أكثر الناس تفاخراً بالأنساب على الأرض في ذلك الحين.

وهذا هو السبب الذي دعا جوته (47) (Goethe) أعظم الشعراء الألمان يعلن وهو يتكلم عن القرآن الكريم أن:
"هذا الكتاب سيستمر في ممارسة تأثير قوي جداً عبر جميع العصور".

وهو السبب أيضاً الذي دعا جورج برنارد شو (48) (George Bernard Show) يقول:
"لو قدر لأي دين أن يسود إنجلترا، لا بل أوروبا في غضون المائة عام المقبلة، فالإسلام هو هذا الدين".

الإسلام حَرَّرَ المرأة:
لقد كانت نفس روح الإسلام الديمقراطية هذه هي التي حررت المرأة من قهر الرجال.

يقول السير "تشارلز إدوارد أرشيبالد هاملتون".
"إن الإسلام يُعَلّمُ البراءة الأصلية (49) للإنسان، ويعلم أن الرجل والمرأة جاءا من نفس واحدة (50) وأنهما يملكان نفس الروح وأنهما مُنحَا قدرات متساوية من المواهب العقلية أو الفكرية والروحية أو الدينية والأخلاقية" (51).

إقرار حق الملكية للنساء:
كان للعرب عادة شديدة التأصُّل هي أن مَنْ يرث هو فقط مَنْ يطعن بالرمح ويصنع السيف.

ولكن جاء الإسلام ليدافع عن الجنس الضعيف وأعطى المرأة حق المشاركة في وراثة الوالدين، (52) وأعطى الإسلام المرأة من قرون مضت حق ملكية المال، بينما طبقت إنجلترا، التي يفترض أنها مهد الديمقراطية هذا المبدأ الإسلامي بعد إثني عشر قرناً وفي عام 1881م بعد المسيـح فقط.

وصدر مرسوم سُمِّـيَ "مرسـوم النساء المتزوجـات" (The Married Women's Act).

ولكن قبل ذلك بقرون كان نبي الإسلام قد أعلن أن "النساء شقائق الرجال وحقوق النساء مقدسة".

"لا تبخسوا النساء حقاً مِمَّا فُرِضَ لهن".

"إستوصوا بالنساء خيراً" (الأحاديث بالمعنى).