إنّما نطعمكم لوجه الله
"إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" ( الإنسان-9)
"إنّما" تفيد القصر والحصر، أي لا يبتغون شيئا آخر، وذلك أعلى أنواع الإخلاص.
فلو قال "نطعمكم" دون "إنما"، لم ينف ذلك إطعامهم لغير وجه الله، وهو غير المقصود.
لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، أي لا نريد مكافأة بالعمل، ولا نريد شكرا باللسان.
وقدّم الجزاء على الشكر، لأن الجزاء بالعمل أهم من الشكر باللسان، فالناس يهمهم الجزاء وليس الشكر باللسان فقط.
ونلاحظ تكرار (لا) في قوله (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ولم يقل (لا نريد منكم جزاء وشكورا) أي لا يريدون أي واحد من الجزاء أو الشكر، حتى لا يُفهم أنهم قد يريدون أحدهما.
وقال لا نريد ولم يقل لا نطلب، لأن الإنسان قد يريد ولا يطلب.
فنفي الإرادة أبلغ وأعمّ من نفي الطلب.
ومضات
كل القصص والشخوص القرآنية، تعيش بيننا نماذج حيّة نابضة شاخصة مُلهمة، بدرجة أو بأخرى، وبصورة أو بأخرى!
لو سار القدر برغباتنا، لهلكنا! لكنّ لطف الله يحوطنا من حيث لا ندري! "الله لطيف بعباده "
بنو إسرائيل الذين صبروا على ذل واستعباد فرعون، هم الذين قالوا لسيدنا موسى: لن نصبر على طعام واحد.
فعاقبهم الله بالذل والغضب، لتطاولهم على من حررهم، وسكوتهم على من استعبدهم: فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
ما أشبه مستضعفي اليوم بمستضعفي العصر المكي الذين سُجنوا وعُذبوا! وما أشبه منافقي اليوم بمنافقي العصر المدني الذين تظاهروا بالإسلام!
"ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها * إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور." ( الحديد22- 23)
هناك ارتباط واضح بين الكون والإنسان! فمن اتسع أفق شعوره، ليستشرف هذا الكون الكبير، وهذا الأزل القديم، حتى يدرك أنه جزء منه، علم أن أمره لا يعجز رب هذا الكون، فاطمأن إلى خالقه.
وإذا كان الإنسان جزءا من ذلك الكون الفسيح كله، فإنه يسكن إلى تدبير أمره الذي يدبره مدبر الكون كله، ولم يفرح بالدنيا الصغيرة في هذا الكون الكبير، ولم يحزن على شيء فيها.
"قال آمنتم له قبل أن آذن لك " (طه -71)
كأن الطاغية يصدّق كذبه لفرط غروره واغتراره، ويصدّق أنه قد ملك نواصي القلوب والأرواح والعقول؛ فيريد أن تستأذنه القلوب قبل أن تنير بنور الإيمان، أو تستأذنه الأرواح قبل أن تسمو إلى عنان السماء، أو تستأذنه العقول قبل أن تبرق بمنطق الحقيقة!
"وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" ( الإسراء- 81)
إن الباطل قد يعلو ويصم الآذان ويذهب بالعقول ويسحر العيون ويستلب القلوب، ويلبس ثوب الحق والفضيلة زورا وتمويها!
لكنه زهوق لا يستمر بطبعه ولا يثبت في ذاته، لأنه يستمد حياته من غيره؛ من قوى الشر، ومن جماعات المنتفعين والمتملقين والمنافقين والمتسلطين على الحق وأهله.
فإذا فقد ذلك، لم تكن له قيمة، فهو منعدم قيمة في ذاته.
أما الحق، فهو قيمة في ذاته، وإن لم يعل أو ينتصر، وإن لم يستمد حياته من غيره.
وللحق صوت مدو في الضمائر الحية، ونور ساطع في الأرواح اليقظة، وصولة فائزة في النفوس الخيرة.
فبقاء الحق محسوم، وانتصاره مسألة وقت واختبار.
"فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ" ( مريم- 65)
لم يقل "واصبر لعبادته"، لأن الفعل اصطبر، يوحي بثقل التبعة ووعورة الطريق، كما يوحي بضخامة تكاليف الارتقاء للوصول إلى "العبودية"؛ ذلك المرتقى السامي.
فاعبده، واحشد مشاعرك، ووفر طاقتك وانفعالاتك وخلجاتك ودموعك ودفقات قلبك، وانتصاب قدميك، له.
إنها مشقة التجرد من الشواغل ومن الالتفات، مشقة التغلب على الشهوات، ومقاومة اللذات، وصون الذات، والنقمة على استعباد الإنسان للإنسان.
إنها مشقة الاستغراق بكل الجوارح والخوالج، حتى تثمر تلك العبادة خيرا في الأرض وذكرا في السماء، نورا في الدنيا وجنة في الآخرة.
" فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا "( الإنسان -2)
قدّم السمع على البصر، كما هو شأن الكثير من الآيات، لأن السمع أهم في التكليف والاختبار من البصر؛ ففاقد السمع يصعب تكليفه عن فاقد البصر.
وقدّم السمع والبصر على الهداية، لأن السمع والبصر طريق للهداية.
ولم يفصل تعالى بين السمع والبصر بالواو؛ فلم يقل (سميعا وبصيرا) حتى لا يُفهم أنه تعالى خلق الإنسان على نوعين: منهم من يسمع ومنهم من يُبصر.
"قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ" ( سبأ -25)
سمى فعلنا "أجرمنا" وسمى فعلهم "تعملون"!
رسالة إلى كل مسيء للإسلام بأسلوبه!
لو تأمّل الإنسان لطف الله به في الماضي، لما خاف من حاضر أو مستقبل!
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل (يثرب) لا مقام لكم فارجعوا... القومية والعصبية العرقية دائما على لسان المنافقين، بل منذ عصر النبوة!
إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله... تكرر الفعل "قال" 11 مرة في 5 آيات! من يتكلم كثيرا يفعل قليلا!
ملخص الفكر العلماني في آية:
"قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد." ( هود-87)
فقوم شعيب عليه السلام، الذين كفروا به وأهلكهم الله بالصيحة، مع أنهم يقرون لنبيهم بالحلم والرشد، فإنهم يستنكرون اتباع أمر الله، ولا يريدون لكلمة الله أن تحكم حياتهم، ولا يريدون أن يكون للإسلام تأثير في اقتصادهم أو تعاملاتهم.
كثيرا ما يتعرّض الإنسان لاختبار يكون أمامه: طريق سهل سريع تهواه النفس لكنه يخالف أخلاقه ودينه، وطريق صعب طويل شاق على النفس لكنه متسق مع أخلاقه ودينه.
كل اختبار نتعرض له وكل اختيار، يرسم الطريق حتى تتضح معالمه ونعتاد سلوكه؛ إما طريق اليسرى أو طريق العسرى.
وذلك الاختبار والاختيار بين الطريق السهل والطريق الصعب هو معنى الابتلاء، والنجاح فيه هو ثمن الجنة.
"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى."
"ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون!"
لا يستوي من يرتكب معصية وهو ناقم على نفسه، ويتوب ويعزم على عدم العودة، حتى لو استمر على هذه الحال سنين طويلة، ومن يرتكب معصية دون ضعف أو إكراه، ويصرّ عليها دون توبة!
ذكر الله ليس مجرد عملية تذكر، وكلما كنا ماهرين في التذكر، نذكر الله.
لكن ذكر الله انعكاس لدرجة حبه في القلب.
ولله المثل الأعلى، عندما يقول المحبون: إن المحبوب يأتي على بالهم ويتذكرونه تلقائيا، وصورته لا تغيب عن ذهنهم، فهكذا ذكر الله.
إذا امتلأ القلب بحب الله نتيجة صلاحه وصفائه، فإن ذكر الله يقتحم القلب، ويأتي تلقائيا، ولا يغيب عن البال.
فلن نحتاج إلى محاولة التذكر من أجل الذكر أصلا، لأنه يأتي تلقائيا.
من أراد رؤية الفضيلة الإنسانية في أكمل صورها، وجدها في الصدق! أمّا الكمال، فكل بني آدم خطاء!
لماذا لم يحدد الله ليلة القدر؟
لأن التلميذ الذي لم يحقق الدرجة المطلوبة، لا يمكن أن ينجح في الامتحان!
فإذا كانت ليلة القدر محددة في ليلة واحدة، لحسب كل إنسان صلى أو دعا فيها، أن الله قد غفر له.
لكن الله تعالى يعلم أن التلميذ لكي ينجح يجب أن يحقق الدرجة.
فليس هناك غش في المغفرة والتوبة.
والدرجة هي الدعاء والتضرع والبكاء وصفاء القلب والإنابة لله، والتعرض لمغفرة الله، حتى يتوب الله على المسلم، وحتى يحصل التلميذ على الدرجة.
ولذلك، كان من الأفضل حصرها في وتر 10 أيام فقط، وليس هناك ما هو أسهل من ذلك، مع عدم الغش في الامتحان، حتى نتعرض فيها لهذا البكاء وهذه الخشية وحتى نتضرع طلبا للمغفرة والرحمة والعفو، فنحصل على الدرجة وننجح في الامتحان!
مهما بلغ الإنسان من معرفة، فلا يزال في حاجة إلى صحبة تعينه على الخير، لا سيما في زمن الفتن من كل نوع، وفي كل مكان.
ولا ينافي ذلك التوكل على الله أو الاستعانة به وحده.
فالإنسان الذي خلق ضعيفا، له طبيعة وخصائص بشرية لا تنفك عنه.
وتعلق القلب بالله وحده، لا يلغي واقعية تقلب القلب البشري، أو حقيقة ضعف الإنسان.
ولذلك وردت الأحاديث التي تحضّ على الجماعة، لأن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية.
ولذلك طلب سيدنا موسى على جلالة قدره، أن يكون أخوه هارون نبيا معه، لما يعلم من ثقل التبعة والرسالة.
"اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا... قال سنشد عضدك بأخيك."
أثبت القرآن الكريم والتاريخ علاقة بين تقدم المسلمين والتمسّك بالدين دائما! أمّا استيراد مظاهر الحضارة، فهو تقليد واستهلاك أعمى!
نعيش في زمن إنكار محرمات وإثبات واجبات، من المسلمات، لم يخطر ببالنا أن نضطر إلى إنكارها أو إثباتها يوما!
عبد الرحمن بن عوف: قـُتـل مصعب بن عمير وهو خير مني! كانوا متواضعين فعلا وقولا! لم يحبوا الشهرة، ولم يكونوا مجرد كلام ومظهر زائف!
هل رأيت كتابًا يحفظ لغة، وليست اللغة هي التي تحفظه؟
إنه القرآن الكريم وحده!
قصة أصحاب الكهف، يعيشها من يهربون بدينهم من بلادهم أو يسجنون لمعتقداتهم!
قصة البقرة وقصص بني إسرائيل وطبيعتهم المعوجة، نعيشها كل يوم عندما نحاول إقناع مسلم بأصل من أصول الدين!
قصة داود وطالوت، نعيشها في الحرب على غزة!
قصة أصحاب السبت، نعيشها كل يوم مع المسلمين الذين يغشون السلع والخدمات!
قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، نعيشها مع الإخوة الطامعين والحاسدين وآكلي الميراث!
قصص فرعون على اختلافها، نعيشها كل يوم في الظلم الواقع في بلادنا!
كل قصص القرآن الكريم بلا استثناء واقع نعيشه كل يوم في حياتنا، وليس لمجرد استخلاص الحكم النظرية!
حتى قصص قتل بني إسرائيل لأنبيائهم، تتحقق في قتل العلماء! وهل العلماء إلا ورثة الأنبياء؟
نعيش القصص القرآني في حياتنا كل يوم!
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم"
كم منّا قال ذلك؟!
وكم قلنا مثل ذلك؟!
لمن هو دون قارون؟!
"إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا"
"إنا هديناه" بالتوكيد وضمير التعظيم، وبإسناد الفعل إلى نفسه تعالى.
فالمنهج الصحيح لا يهدي إليه إلا الله، ولا يُنسب إلا إلى الله؛ لأنه هو الذي خلق العباد وهو أعلم بهم.
ولو تُرك أمرهم إليهم لاختار من شاء ما شاء.
من رحمة الله بنا، أنه يكلفنا أقلّ مما نطيق، ويعطينا أكثر مما نطلب!
من الصدق ألا تثق في نيتك المجرّدة دائماً! وأن تختبرها بالأفعال والمواقف!
عبس وتولى أن جاءه الأعمى:
تذكير ربنا سبحانه وتعالى لسيدنا محمد، يعلمنا إلى جانب أسس الدعوة، أننا نقبل على من يقبل علينا بقدر إقباله علينا، ونقدر ذلك له، لا أن نزهد فيه ضمانًا لأنه هو الذي أقبل، ولا أن نزهد في المقربين منا، ضمانًا لأنهم بقوا معنا منذ وقت طويل ولن يتركونا!
وكذلك نعرض عمن أعرض عنا بقدر إعراضه، ولا نتشبث به مع إعراضه اعتقادا بأن في إقباله خيرًا لنا أو له!
فأقبل على من أقبل عليك واحفظ له قدره ومكانته في قلبك، وعامله بالاهتمام والاحترام الذي يعاملك به!
وازهد فيمن زهد فيك بقدر زهده فيك!
هل تتخيل سيدنا موسى وهو يدخل على فرعون في أبهة الملك وسط جنوده؟
أبهة فرعون هي المدير الذي تدخل عليه مكتبه وهو في منصب أعلى منك، فتقول كلمة الحق أو تخاف على وظيفتك!
أبهة فرعون هي السيدة التي تغويك أو ترغب في محادثتك محادثات رومانسية على الخاص، فإما أن تتعفف أو تؤثر شهوتك!
أبهة فرعون هي الرشوة السهلة التي تفتنك مقابل تنازل ولو كان بسيطًا!
فرعون وأبهة وجنود فرعون معنا في كل مكان!
ومثلما كان سيدنا موسى يملك المعجزات، فنحن نملك أعجز المعجزات!