سورة مريم
(860)
وَحَرْفاً يَرِثْ بِالْجَزْمِ (حُـ)ـلْوٌ (رِ)ضىً وَقُلْ خَلَقْتُ خَلَقْنَا (شَـ)ـاعَ وَجْهاً مُجَمَّلاَ
يريد يرثني ويرث الجزم على جواب هب لي والرفع على أن يكون صفة لوليا أي وليا وارثا للعلم والنبوة ومثله فأرسله معي ردأ يصدقني يقرأ أيضا بالجزم والرفع والأقل على الجزم في يرث وعلى الرفع في يصدقني وأجمعوا على رفع (أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا)، واستبعد أبو عبيد قراءة الجزم وقال الذي يجزم يريد الشرط أي إنك إذا وهبت لي وليا ورثني فكيف يخبر بهذا زكرياء ربه وهو أعلم به منه وجوابه أن من يطلب من الأنبياء ولدا من الله سبحانه لا يطلبه إلا صالحا فهذه الصفة مقدرة فجزم بالوراثة بناء على ظاهر الحال نحو (أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل)، ثم وجه الجزم مراعاة لفظ الأمر وإن لم تكن الوراثة لازمة من الهبة فهذا أقوى من الجزم في مثل (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)، ونحوه وقال أبو علي أوقع العام موقع الخاص وأراد بالولي وليا وارثا وقول الناظم حلو رضى خبر قوله وحرفا فإن قلت الخبر مفرد والمبتدأ مثنى فكيف يسوغ هذا قلت من وجوه أحدها أن التقدير ولفظ حرفي يرث بالجزم حلو فحذف المضاف وأقيم مقامه والثاني التقدير كل واحد منهما حلو والثالث تنزيل لحرفين منزلة حرف واحد فكأنه قال ويرث في الموضعين حلو وأنشد النحاة على ذلك، (وكان في العين حب قرنفل أو سنبلا كحلت به فأنهلت)، والرابع مجموع قوله حلو رضى خبر عن الحرفين أي هذا حلو وهذا رضى، ويلزم من اتصاف أحدهما بأحد الوصفين اتصافه بالآخر من حيث المعنى فإن الحلو مرضى والمرضى حلو ويجوز وجه خامس أن يكون بالجزم خبر حرفا أي مستقران بالجزم كما تقول الزيدان بالدار، ثم قال حلو أي الجزم فيهما حلو رضى وأما (وقد خلقتك من قبل)، بالتاء وبنون العظمة فظاهر ونصب وجها على التمييز مجملا نعته
(861)
وَضَمُّ بُكِيًّا كَسْرُهُ عَنْهُمَا وَقُلْ عِتيًّا صُلِيًّا مَعْ جُثِيًّا (شَـ)ـذَا (عَـ)ـلاَ
أي عن حمزة والكسائي ووافقهما حفص على كسر عتيا وصليا وجثيا فبكيا وجثيا جمعا باك وجاث وعتيا وصليا مصدرا عتى وصلى وأصل الجمع فعول وبكيا وصليا - لامهما ياء ويجب إدغام واو فعول فيها لأن اجتماع واو وياء، وقد سبقت إحدهما بالسكون موجب لذلك بعد قلب الواو ياء كقولهم طيا وليا، فإذا انقلبت واو فعول ياء وجب كسر ما قبلها لأن ياء ساكنة قبلها ضمة غير موجود في اللغة، فصار بكيا وصليا على لفظ قراءة الجماعة ومن كسر الياء والصاد فللاتباع وأما عتيا وجثيا فلامهما واو وقد رفضوا أن توجد واو متطرفة بعد متحرك ولم ينظروا إلى حجز واو فعول ففعلوا فيه ما فعلوا في نحو أدل كسروا ما قبل واو فعول فانقلبت ياء فلزم قلب الواو الثانية ياء ثم الإدغام فصار عتيا وجثيا ومن كسر العين والجيم فللاتباع، وهذا الصنيع في الغالب واجب فيما كان جمعا نحو جثيا وغير لازم في المصادر نحو عتيا فيجوز عتوا كقوله تعالى (وعتوا عتوا كبيرا)، واختار أبو عبيد قراءة الضم وقال هي أفصح اللغتين وأفخمها وتقدير البيت كسر عتيا وما بعده على شذا أي ذو شذا عال قال وقد تقدم معنى شذا علا في مواضع وأن معنى الشذا الطيب أو نقية النفس
(862)
وَهَمْزُ أَهَبْ بِالْيَا (جَـ)ـرى (حُـ)ـلْوَ (بَـ)ـحْرِهِ بِخُلْفٍ وَنِسْيًا فَتْحُهُ (فَـ)ـائِزٌ (عُـ)‎ـلاَ
يريد (لأهب لك غلاما زكيا)، فالهمز للمتكلم والياء للرب تعالى أو لرسوله وإنما جاز نسبة الهبة إلى الرسول سواء كان بالهمزة أو الباء لكونه أرسل لذلك ويجوز أن تكون الباء بدلا من الهمزة لأنها همزة مفتوحة بعد مكسور فقياس تخفيفها قلبها ياء نحو لئلا فيتفق معنى القراءتين ولفظهما لأن الهمزة المخففة كالمحققة وقد كتبت في المصحف بالألف وقوله جرى حلو بحره عبارة حسنة والباء من أهب مفتوحة ولكنه أدغمها في باء بالياء لما التقا المثلان كما يدغم أبو عمرو لذهب بسمعهم وهذا أولى من حمله على أنه أسكن المتحرك للضرورة ونسيا بالفتح والكسر واحد وهو الشيء الحقير ينسى وقيل ما أغفل من شيء حقير وقيل ما إذا ذكر لم يطلق والكل متقارب المعنى وعلا تمييز
(863)
وَمِنْ تَحْتَهَا اكْسِرْ وَاخْفِضِ (ا)لدَّهْرَ (عَـ)ـنْ (شَـ)ـذاً وَخَفَّ تَسَاقَطْ (فَـ)ـاصِلاً فَتُحُمِّلاَ
يريد (فناداها من تحتها)، أي أكسر الميم واخفض التاء أي ناداها المولود من تحتها والقراءة الأخرى بالفتح والنصب أي ناداها الذي تحتها ونصب الدهر على الظرف كقوله (إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ)، وقوله عن شذا أي عن ذي شذا وفي لفظ تساقط قراآت كثيرة المشهور منها في طريقة الناظم ثلاث تساقط بتشديد السين والأصل يتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين هذه قراءة الجميع غير حمزة وحفص، وأما حمزة فحذف التاء فخففت السين وقراءة حفص في البيت الآتي وقول الناظم وخف تساقط تساقط فاعل خف وفاصلا حال من تساقط يعني أنه فصل بين المفعول وهو رطبا وبين العامل فيه وهو هزي وهذا قول المبرد في ما حكاه الزجاج وغيره عنه ولهذا قال فتحملا أي تحمله النحويون عنه أو تحملوا ذلك وجوزوه لخفته في الفصل وقال الزمخشري رطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة يعني على قراءة حفص ونحوها، ثم قال وعن المبرد جواز انتصابه بهزي وليس بذاك وقال أبو علي فاعل تساقط النخلة أو جذعها ثم حذف المضاف فأسند الفعل إلى النخلة ويكون سقوط الرطب من الجذع أنه لها ورطبا منصوب على أنه مفعول به ويجوز أن يكون فاعل تساقط ثمرة النخلة ورطبا حال وإن لم يجر للثمرة ذكر فلفظ النخلة يدل عليها والباء في بجذع زائدة مثل ألقى بيده قال ويجوز أن يكون المعنى وهزي إليك بهز جذع النخلة رطبا أي إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا فإذا هززت الرطب سقط قلت يعني هزي إليك رطبا بسبب هزك للجذع وهذا تقرير المعنى الذي ذهب إليه المبرد والله أعلم.
(864)
وَبِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ حَفْصُهُمْ وَفِي رَفْعِ قَوْلِ الْحَقِّ نَصْبُ (نَـ)ـدٍ (كَـ)ـلاَ
أي ضم الياء وخفف السين وكسر القاف أي تساقط النخلة رطبا فرطبا مفعول به ونصب قول الحق على أنه مصدر مؤكد لقوله (ذلك عيسى ابن مريم)، أي قلت قول الصدق أي قولا صدقا حقا وقيل هو نصب على المدح والحق اسم الله تعالى والرفع على تقدير هو قول الحق أي عيسى كلمة الله أو هذا الكلام قول الحق أي الصدق أو كلام الله الذي هو الحق المبين وقوله نصب ند أي قاريء هذه صفته، يقال فلان ند أي جواد وكلا حفظ وحرث
(865)
وَكَسْرُ وَأَنَّ اللهَ (ذَ)اكٍ وأَخْبَروا بِخُلْفٍ إِذَا مَا مُتُّ (مُـ)ـفِينَ وُصَّلاَ
الكسر على الاستئناف أو عطف على قوله (إني عبد الله)، والفتح على تقدير ولأن (الله ربي وربكم فاعبدوه)، أو عطف على (وأوصاني بالصلاة والزكاة)، وبأن (الله ربي وربكم فاعبدوه)، وقوله (ذلك عيسى ابن مريم) إلى قوله (كن فيكون) كلام معترض وقوله ذاك من ذكا الطيب يذكوا إذا فاحت ريحه أي وجه الكسر بين ظاهر وأخبروا يعني الرواة باختلاف بينهم عن ابن ذكوان وموفين جمع موف ووصلا جمع واصل هما حالان من فاعل أخبروا يريد قوله تعالى (أءذا ما مت لسوف أخرج)، قراءة الجماعة بالاستفهام الذي يقال على وجه الإنكار وهم على أصولهم في ذلك فيما يتعلق بتحقيق لهمزة الثانية وتسهليها وإدخال الألف بين الهمزتين، وروى عن ابن ذكوان حذف همزة الإنكار وهي مرادفة في المعنى وله نظائر ومثل هذا يعبر عنه بالإخبار لأنه على لفظ الخبر المحض ويجوز أن يكون حكاية منه للفظ الذي قيل له بعينه كما قال لسوف وليس بموضع تأكيد بالنسبة إلى حال هذا المنكر وإنما كأنه قيل له لسوف تخرج حيا إذا ما مت" فحكى هذا اللفظ منكرا له وقد تقدم تقدير أن ضد الأخبار عند الناظم الاستفهام في سورة الأعراف والرعد والله أعلم.
(866)
وَنُنَجِّي خَفِيفاً (رُ)ضْ مَقَاماً بِضَمِّهِ (دَ)نَا رءيا ابْدِلْ مُدْغِماً (بَـ)ـاسِطًا (مُـ)ـلاَ
ذكر في هذا البيت ثلاثة أحرف ننجي مقاما رئياء وننجي مفعول رض وخفيفا حال منه ومقاما مبتدأ ورئيا مفعول أبدل وفتح التنوين من رئيا بإلقاء حركة همزة أبدل عليه ومدغما باسطا حالان من فاعل أبدل وملا مفعول باسطا وسبق تفسير ملا والتخفيف والتشديد في (ثم ننجي الذي اتقوا) لغتان، وقد سبق ذكر ذلك في مواضع والمقام بالضم الإقامة وموضعها وبالفتح القيام أو موضعه والخلاف في هذه السورة في قوله تعالى (خير مقاما وأحسن نديا)، وسيأتي الخلاف في الذي بالأحزاب والدخان، ولا خلاف في ضم الذي في آخر الفرقان وأما رئيا في قوله (هم أحسن أثاثا ورئيا)، فأبدل قالون وابن ذكوان همزة ياء لسكونه وكسر ما قبله كما يفعل حمزة في الوقف فالتقى يا آن فأدغم الأولى في الثانية وهو أحد الوجهين لحمزة وقد سبق توجيههما في باب وقف حمزة وضعف مكي وجه الإدغام نظرا إلى أن أصل الباء الهمزة وكما أن حمزة لا يدغم - رئيا - إذا خفف همزها في الوقف وواجب في غير ذلك إدغام الواو الساكنة قبل الياء ويمكن الفرق بأن التقاء المثلين أثقل من التقاء واو وياء على أنه قد قيل في قراءة من لم يهمز وأدغم إنها من الري وهو يستعار لمن ظهر عليه أثر النعمة فلا يكون في الكلمة إبدال ولذلك امتنع السوسي من إبدال همزها وقد تقدم والله أعلم.
(867)
وَوُلْدَا بِهاَ وَالزُّخْرُفِ اضْمُمْ وَسَكِّنَنْ (شِـ)ـفاَءً وَفِي نُوحٍ (شَـ)ـفاَ حَقُّهُ وَلاَ
هنا أربعة مواضع (لأوتين مالا وولدا) - (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) - (أن دعوا للرحمن ولدا) - (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا)، وفي الزخرف (قل إن كان للرحمن ولد)، أي ضم الواو وسكن اللام لحمزة والكسائي والباقون بفتحهما وهما لغتان نحو العرب والعرب والعجم والعجم وقيل ولدا بالضم جمع ولد بالفتح كأسد وأسد ووافق ابن كثير وأبو عمرو لحمزة والكسائي على ضم الذي في نوح وهو (واتبعوا من لم يزده ماله وولده)، وقوله وسكنا أدخل نون التأكيد الخفيفة في فعل الأمر ويجوز كتابتها بالألف اعتبارا بحالة الوقف عليها فإنها بالألف وشفا حال أي ذا شفاء وولا في آخر البيت بالفتح وهو تمييز أو حال أي ذا ولاء، أو هو مفعول شفاكما تقول شفى الله فلانا أي شفى الحق ولاء وذكر الشيخ أن ولا ههنا بالفتح والكسر، قلت الكسر بعيد فإنه سيأتي بعد بيت واحد "حلا صفوه" ولا بالكسر فلا حاجة إلى تكرار القافية على قرب من غير ضرورة
(868)
وَفِيهاَ وَفِي الشُّورى يَكَادُ (أَ)تَى (رِ)ضاَ وَطَا يَتَفَطَّرْنَ اكْسِرُوا غَيْرَ أَثْقَلاَ
التذكير والتأنيث في - يكاد السموات - في السورتين أمرهما ظاهر سبقت أمثاله ورضا حال، أي أتى التذكير ذا رضى أي مرضيا، لأن تأنيث السموات غير حقيقي وطا يتفطرن مفعول اكسروا وقصره ضرورة، وقوله غير أثقلا حال من الطاء أي غير مشدد أثقل بمعنى ثقيلا، ثم ذكر تمام تقييد القراءة فقال
(869)
وَفي التَّاءِ نُون سَاكِنٌ (حَـ)ـجَّ (فِـ)ـي صَفـ(ـا) (كَـ)ـمَالٍ وَفِي الشُّورى (حَـ)ـلاَ (صَـ)ـفْوُهُ وَلاَ
أي وفي موضع التاء نون ساكن فيصير ينفطرن مضارع انفطر والقراءة الأخرى مضارع تفطر وانفطر وتفطر مطاوعا فطرته فطّرته وكلاهما بمعنى شققته وفي التشديد معنى التكرير والتكثير والمبالغة وأكثر ما جاءني القرآن مخففا نحو (إذا السماء انفطرت) - (السماء منفطر به) - (فاطر السموات والأرض)، ولكن هنا المقصود تعظيم أمر قولهم وتهويله، فناسب التشديد والأكثر على التشديد في الشورى لم يخفف غير أبي بكر وأبي عمرو وولا في آخر البيت بالكسر ومعناه المتابعة وهو تمييز أو حال كما سبق في قوله شفا حقه ولا، لكن لا يستقيم هنا أن يكون مفعولا به لأن حلا فعل لازم بخلاف شفا في ذلك البيت وصفا في قوله صفا كمال ممدود وقصره الناظم ضرورة والله أعلم.
(870)
وَرَاءي وَاجْعَلْ لِي وَإِنِّي كِلاَهُماَ وَرَبِّي وَآتَانِي مُضَافَاتُهَا الْوُلا
فيها ست ياءات إضافة (من ورائي وكانت)، فتحها ابن كثير وحده (اجعل لي آية)، فتحها نافع وأبو عمرو(إني أعوذ بالرحمن) - (إني أخاف أن يمسك عذاب)، فتحهما الحرميان وأبو عمر (سأستغفر لك ربي إنه)، فتحها نافع وأبو عمرو (آتاني الكتاب)، سكنها حمزة وحده وقوله مضافاتها خبر قوله "وراءي"وما بعده والولاء جمع الولياء والولياء تأنيث الأولى أي الولا بالضبط والحفظ ومعرفة الخلف فيها والله أعلم.