[color=violet]ح36: حديث أبي هريرة:
(من نفس عن مؤمن كربة...) م
--------------------------
36- عَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ , وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). رواه مسلِمٌ بهذا اللفظِ.
-------------------------
شرح فضيلة الشيخ:
محمد حياة السندي-------------------------
الشرح :
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَفَّسَ))مَنْ أَزالَ بطريقٍ مُبَاحٍ ((عَنْ مُؤْمِنٍ)) وكَذَا مُؤْمِنَةٌ ((كُرْبَةً)): شِدَّةً يَنْبَغِي إِزَالَتُهَا عَنْهُ، ((مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا)) وَكُرَبُهَا أَصْغَرُ وَأَحْقَرُ بالنِّسْبَةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ،((نَفَّسَ)) أَزَالَ اللهُ عَنْهُ ((كُرْبَةً)) عَظِيمَةً ((مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، إنَّه أَمْرٌ جَزَاؤُهُ التَّنْفِيسُ بالتَّنْفِيسِ جَزَاءً وِفَاقًا.
((وَمَنْ يَسَّرَ)) سَهَّلَ ((عَلى مُعْسِرٍ)) بكلِّ وجهٍ مُبَاحٍ أَمْكَنَ ((يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ)).
((و مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا)) عَيْبَهُ الذي يَنْبَغِي، أَوْ عَوْرَتَهُ أَوْ بَدَنَهُ ((سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنْيا والآخِرةِ)).
((واللهُ)) القادرُ على كُلِّ شيءٍ ((في عَوْنِ)): إعانةِ العبدِ ((مَا كانَ)) مُدَّةَ كَوْنِ ((العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ)) في الإسلامِ، فَكُونُوا في عَوْنِ إِخْوَانِكُمْ لِيَكُونَ اللهُ في عَوْنِكُمْ، وَعَونُهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، ومَنْ كانَ في عَوْنِهِ مَوْلاَهُ، كَفَاهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ.
((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ)): يَطْلُبُ فيهِ ((عِلْمًا)) شَرْعِيًّا، لِيَنْفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وعِبَادَ اللهِ تَعالَى ((سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقًا إلى الجَنَّةِ)) يومَ القيامةِ،فَيَدْخُلُهَا بِالسُّهُولَةِ، أو أَرْشَدَهُ في الدُّنْيَا إلى سبيلِ الهدايةِ والطَّاعةِ، المُوصِلَتَيْنِ إلى الجنَّةِ.((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ))مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ، ((في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ)) كالمَسَاجِدِ، والمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَنَحْوِهَا، ((يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ)) الجليلِ حَقَّ تِلاَوَتِهِ تَقَرُّبًا إليهِ، ((وَيَتَدَارَسُونَهُ)) وَيَتَذَاكَرُونَ عُلُومَهُ أَوْ يَقْرَأُونَهُ بالمُنَاوَبَةِ ((بيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ)) مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، يَنْزِلُ عَلَى الذَّاكِرِينَ، يَحْصُلُ بِهِ فِي قُلُوبِهِم السُّكُونُ وَالاطْمِئْنَانُ والحُضُورُ، ((وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ)) الرَّبَّانِيَّةُ، ((وَحَفَّتْهُمْ)) أَحَاطَتْ بِهِمُ ((الْمَلاَئِكَةُ)) المُكَرَّمُونَ تَعْظِيمًا، وَنِعْمَ الإِحَاطَةُ إِحَاطَتُهُم، ((وَذَكَرَهُمُ اللهُ)) الجَلِيلُ ((فِيمَنْ عِنْدَهُ)) مِنَ الملائِكَةِ الكِرَامِ، بِأَحْسَنِ المَحَامِدِ، ونِعْمَ الذَاكِرُ وَنِعْمَ المَذْكُورُ، وَلَوْ لَم يَكنْ لِلذَّاكِرينَ جَزَاءٌ إلاَّ هذَا لَكَفَاهُم شَرَفًا، وكيفَ ولهُمْ مَا تَقَرُّ بِهِ العيونُ.
((ومنِ بَطَّأَ)): قَصَّرَ ((بِهِ عَمَلُهُ)) فتساهَلَ عَنِ الحسنَاتِ، وانهمَكَ في السَّيئاتِ عَن الوصولِ إلى الدرجاتِ التي لا تُنَالُ إلاَّ بالأعمالِ ((لمْ يُسْرِعْ بِهِ)) ويوصِلْهُ ((نَسَبُهُ)) الجليلُ إليها؛ لأَنَّها مراتبُ لا تُحَصَّلُ بالأسبابِ، وإنَّما تُنَالُ باجتهادٍ في طَاعةِ ربِّ الأربابِ، والعاقلُ مَنْ سابقَ إليهَا بالأعمالِ، والأحمقُ مَنْ أرادَ وصُولَهُ بمجردِ الآمالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ} [سورة الزخرفِ: 72].
-------------------------
المنن الربانية لفضيلة الشيخ:
سعد بن سعيد الحجري--------------------------
الحديثُ السادسُ وَالثلاثونَ
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).
رَوَاهُ مُسْلِمٌ بهذا اللَّفْظِ.
موضوعُ الحديثِ:
فَضْلُ قَضَاءِ حوائجِ المسلمينَ.المُفْرَدَاتُ:
(1) ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً)): التَّنْفِيسُ: هوَ الإِزالةُ وَالتخفيفُ عَن النفسِ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَنْفِيسِ الخِنَاقِ، كأنَّهُ يُرْخِي لهُ الخِنَاقَ حتَّى يَأْخُذَ نَفَساً.
((عَنْ مُؤْمِنٍ)): أيْ عَنْ صاحبِ إِيمانٍ بِأَرْكَانِ الإِسلامِ وَالإِيمانِ، وَقائِمٍ بالدِّينِ كُلِّهِ. ((كُرْبَةً))؛ أيْ: شِدَّةً عَظِيمَةً تُوقِعُ صَاحِبَهَا في كَرْبٍ، كَأَنْ يكونَ مَهْمُوماً أَوْ مَغْمُوماً مِنْ أَمْرٍ فَيُنَفِّسُهُ عَلَيْهِ. وَفي هذا: الجزاءُ مِنْ جِنْسِ العملِ.
((نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)): أيْ أَزَالَ عنهُ شِدَّةً مِنْ شَدَائِدِ يومِ القيامةِ العظيمةِ؛ كَتَخْفِيفِ التَّضْيِيقِ في القبرِ أَوْ تَخْفِيفِ الحسابِ عَلَيْهِ أَوْ غيرِ ذلكَ.
وَقالَ: ((مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ)): وَلمْ يَقُلْ: مِنْ كُرَبِ الدُّنيا وَالآخرةِ؛ لأنَّ الكُرَبَ هيَ الشدائدُ، وَأَغْلَبُ ما تَكُونُ في الآخرةِ، وَقدْ لا تَكُونُ في الدُّنيا على جميعِ الناسِ، بلْ لَرُبَّمَا على البعضِ. وَكُرَبُ الدُّنْيَا للآخرةِ كَلا شَيْءٍ، فَادُّخِرَتْ لهُ.
(2) ((ومَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ)): يَسَّرَ بِمَعْنَى مَدَّ لهُ في الأَجَلِ، أَوْ عَفَا عنهُ، أَوْ قَضَى دَيْنَهُ، أَوْ طَلَبَ مِنْ غَرِيمِهِ مُسَامَحَتَهُ.
وَالمُعْسِرُ: هوَ الذي تَعَسَّرَتْ أَحْوَالُهُ حتَّى أَصْبَحَ في عُسْرٍ؛ كَقَلِيلِ ذاتِ اليدِ كَثِيرِ الدُّيُونِ، فهوَ في ذُلٍّ في النهارِ وَهَمٍّ في الليلِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسِرَةٍ}
ة: 280.
وَفي الحديثِ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)).
وَهذا التيسيرُ في الدُّنيا لِتَعَسُّرِ بعضِ أُمُورِ الدُّنيا، وَفي الآخرةِ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ سُمِّيَ يَوْماً عَسِيراً.
(3) ((ومَنْ سَتَرَ مُسْلِماً)): أيْ غَطَّى عُيُوبَهُ وَدَافَعَ عنهُ لعلمِهِ أنَّ كلَّ إِنسانٍ بِعُيُوبٍ، وَأَنَّ سَتْرَ العَوْرَاتِ وَاجِبٌ، فَجَزَاؤُهُ سَتْرُ اللَّهِ لهُ في الدُّنيا بعدَ اطِّلاعِ الناسِ على عُيُوبِهِ، وَفي الآخرةِ بالعَفْوِ عنهُ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ.
وَالناسُ في السترِ قِسْمَانِ:
1-مَنْ كانَ مَسْتُوراً لا يُعْرَفُ بشيءٍ مِن المَعَاصِي، فإِذا وَقَعَتْ منهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ فإِنَّهُ لا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَلا هَتْكُهَا مِنْ بابِ (إِقَالَةِ ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ).
2- مَنْ كانَ مُشْتَهِراً بالمَعَاصِي مُجَاهِراً بها، فلا يُسْتَرُ بلْ يُحَذَّرُ مِنْ شَرِّهِ.
((واللَّهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أَخِيهِ)): أيْ إِعَانَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ لقضاءِ شُؤُونِهِ النافعةِ. فاللَّهُ يُعِينُ العبدَ الذي يَسْعَى في إِعانةِ إِخوانِهِ وَيُعَوِّضُهُ عَمَّا أَنْفَقَ.
وَقدْ كانَ أبو بكرٍ يَجْلِسُ إِلى امرأةٍ عَجُوزٍ يَخْدُمُهَا، وَعُمَرُ يَتَفَقَّدُ أحوالَ الناسِ، وَأبو الحارسِ الأُولاسِيُّ خَدَمَ فَقِيراً فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقالَ عامِرٌ التَّمِيمِيُّ لأَصْحَابِهِ: (أُسَافِرُ مَعَكُمْ لِخِدْمَتِكُمْ).
(3) ((ومَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْماً)): (سَلَكَ)؛ أيْ: مَشَى أَوْ أَخَذَ بالأسبابِ، ((يَلْتَمِسُ))؛ أيْ: يَطْلُبُ. وَفي هذا الحثُّ على مُدَاوَمَةِ التَّرَدُّدِ على مجالسِ العلمِ وَالمَشْيِ إِليها وَالرغبةِ فيها. وَيَدْخُلُ في ذلكَ المَشْيُ على الأقدامِ وَالحفظُ لها وَالمذاكرةُ وَالكتابةُ وَنحوُ ذلكَ مِن الطُّرُقِ المعنويَّةِ.
((سَهَّلَ اللَّهُ لهُ بهِ طَرِيقاً الى الجنَّةِ)): أيْ أَوْصَلَهُ بهذا العلمِ النافعِ إِلى الجنَّةِ، وَذلكَ لِسَعْيِهِ إِلى رِضْوانِ اللَّهِ، وَحِفْظِ وَقْتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَدعوةِ الناسِ وَدلالتِهِم على الخيرِ، وَهدايتِهِم إِلى الصراطِ الذي يُوصِلُ للجنَّةِ، وَلأنَّهُ لا يُذْكَرُ في مجالسِ العلمِ إِلاَّ الآخرةُ.
(5) ((وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ...)): هذهِ كَرَامَاتُ أَهْلِ الذِّكْرِ الذينَ يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ وَيَبْذُلُونَ لهُ النَّفْسَ وَالوقتَ وَالمالَ، يُكْرَمُونَ بِكَرَامَاتٍ، الواحدةُ منها خَيْرٌ مِن الدُّنيا وَما عَلَيْهَا. فالرحمةُ لِمَنْعِ العذابِ وَالسلامةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَالسكينةُ للثباتِ وَالسلامةِ مِن الانحرافِ، وَحُفُوفُ الملائكةِ للولايَةِ في الدُّنيا وَالآخرةِ، وَالتكريمُ وَالذِّكْرُ عندَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَفْعِ الدرجاتِ وَمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ؛ لأنَّ مَجَالِسَهُم مِنْ أَجْلِ ذلكَ.
(6) ((وَمَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ)): مَعْنَاهُ أنَّ العملَ هوَ الذي يَبْلُغُ بالعبدِ دَرَجَاتِ الآخرةِ وَليسَ النَّسَبَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
فَالمَوَازِينُ بالتَّقْوَى وَليستْ بالنَّسَبِ.
وَرَجُلٌ انْتَسَبَ إِلى تسعةٍ وَهوَ عَاشِرُهُمْ دَخَلَ النارَ، وَرَجُلٌ انْتَسَبَ إِلى وَاحدٍ وَإِلى الإِسلامِ دَخَلَ الجنَّةَ.
وَصَدَقَ القائلُ:
لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلاَّ بِدِينِه
فَلا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبِ
َقَدْ رَفَعَ الإِسلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
وَقدْ وَضَعَ الشِّْركُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ
الفوائــِدُ:
1- الرِّضَا بالقضاءِ.
2- الحثُّ على تَنْفِيسِ كُرُبَاتِ المؤمنِ.
3- بَذْلُ الأسبابِ مَطْلُوبٌ.
4- الإِخلاصُ في العملِ.
5- الجزاءُ مِنْ جنسِ العملِ.
6- رحمةُ اللَّهِ بالعبادِ.
7- الإِيمانُ بيَوْمِ القيامةِ.
8- ثوابُ الآخرةِ أَعْظَمُ مِنْ ثوابِ الدُّنيا.
9- وُجُوبُ التيسيرِ على المُعْسِرِ.
10- رحمةُ الناسِ رحمةٌ في الدُّنْيا وَالآخرةِ.
11- أَرْحَمُ الناسِ أهلُ القلوبِ الرحيمةِ.
12- مشروعيَّةُ سَتْرِ المسلمِ التائِبِ.
13- تحريمُ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
14- التحذيرُ مِنْ أهلِ السَّوْءِ.
15- عَوْنُ اللَّهِ لِمَنْ أَعَانَ مُسْلِماً.
16- الحثُّ على طلبِ العلمِ.
17- فَضْلُ أهلِ العلمِ.
18- طريقُ العلمِ هوَ طريقُ الجنَّةِ.
19- أَقْرَبُ الطريقِ إِلى اللَّهِ طريقُ العلمِ.
20- العلمُ سَبَبٌ مِنْ أسبابِ دخولِ الجنَّةِ.
21- فضلُ العلمِ على العبادةِ.
22- فضلُ مجالسِ الذِّكْرِ.
23- الحثُّ على مُصاحبةِ العلماءِ.
24- أَرْبَحُ المجالسِ مجالسُ العلمِ.
25- تَنْزِيهُ المساجدِ عَمَّا لا يَلِيقُ بها.
26- عِظَمُ ثوابِ قراءةِ القرآنِ.
27- ترتيبُ الآياتِ وَالكلماتِ في القرآنِ تَوْقِيفِيٌّ.
28- وُجُوبُ العملِ بالقرآنِ.
29- كَرَامَاتُ أهلِ الذِّكْرِ عندَ اللَّهِ تَعَالَى.
30- ترغيبُ الناسِ في الرحمةِ لِيَتَرَاحَمُوا.
31- مَجَالِسُ الذِّكْرِ رَحْمَةٌ.
32- مِنْ أسبابِ الثَّبَاتِ مجالسُ العلمِ.
33- صُحْبَةُ الملائكةِ لأهلِ مَجَالسِ العِلْمِ.
34- حِفْظُ أهلِ الذِّكْرِ في مَجَالِسِهِم.
35- ذِكْرُ أهلِ القرآنِ عندَ اللَّهِ تَعَالَى.
36- رِفْعَةُ دَرَجَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ.
37- مَقَايِيسُ الناسِ بالأعمالِ لا بالأَنْسَابِ.
38- إِبْطَالُ الإِسلامِ لِمَوَازِينِ الجَاهِلِيَّةِ.
39- تَسْمِيَةُ المساجدِ بُيُوتَ اللَّهِ.
40- فَضْلُ التَّحَلُّقِ للعِلْمِ.
-----------------------
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
----------------------
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ النَّوويُّ: (وهو حديثٌ عظيمٌ، جامعٌ لأنواعٍ مِن العلومِ والقواعدِ والأدبِ) اهـ.
فرغَّبَ في حقوقِ أخوَّةِ الإِسلامِ، وفي طلبِ العلمِ، وفي الاهتمامِ بدُستورِ السَّماءِ، مِن حيثُ: قراءَتُهُ، وفهمُهُ، والعملُ به، وتبليغُهُ للنَّاسِ.
فضلُ تَنفيسِ الكُرَبِ:
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفـَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
(نفَّسَ) وروايَةُ (الصَّحيحينِ) (فَرَّجَ)، والمعنَى:
أزالـَها وخَففها عنه، مأخوذٌ مِن تنفيسِ خِناقِ الثَّوبِ وإرخائِهِ حتَّى يَأخذَ نَفَسًا، والتَّفريجُ أعظمُ مِن ذلك، وهو أن يُزيلَ كربَهُ، فتُفرَّجَ عنه كربتُهُ، ويَزولُ همُّهُ وغمُّهُ.
والكربةُ: هي الشِّدَّةُ العظيمةُ الَّتي تُوقِعُ صاحبَهَا في الْحُزنِ والغمِّ الَّذي يَأْخذُ بالنَّفْسِ، قالَ تعالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}، يرَى ابنُ جريرٍ (أنَّ المرادَ بالآيَة الْمُكابَدةُ في الأمورِ ومشاقُّهَا) اهـ.
فالإنسانُ يَتعرَّضُ في هذه الحياةِ لما يُهِمُّهُ ويُغُمُّهُ ويُحْزِنُهُ في بدنِهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ ودينِهِ، فيَنْبَغِي علَى إخوانِهِ في العقيدةِ أن يَسْعَوْا لتخليصِهِ مِن هذا، وتخفيفِ آلامِهِ وأحزانِهِ قدرَ الْمُستطاعِ، وقد يُظْلَمُ المسلمُ، والظُّلمُ مِن شيَمِ نفوسِ البَشَرِ كما قالَ المتنبِّي:
والظُّلمُ مِن شيمِ النُّفوسِ فإن
تجدْ ذا عفَّةٍ فلِعَلَّةٍ لا يظلمُ
وهنا لا يحلُّ تركُهُ - مع الاستطاعةِ - في الظُّلمِ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)) قيل: أفرأيْتَ إذا كانَ ظالمًا، كيف أَنصرُهُ؟ قالَ: ((تَحْجُزُهُ - أَوْ تَمْنَعُهُ - مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)).
وقد يُظلمُ المسلمُ بسببِ تَمَسُّكِهِ بدينِهِ، ويلاقي مما يَهمُّهُ ويَغمُّهُ مِن البلاءِ ما لا تَتَحَمَّلُهُ الجبالُ الرواسي، مِن طغاةٍ وعتاةٍ وجبابرةِ الأرضِ الخاسرينَ، وهنا علينا تَنفيسُ كربتِهِ بأنفسِنَا وأموالِنَا وألسنتِنَا وأقلامِنَا، قالَ تَعالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}.
إنْ فعلْنَا ذلك، وسعَيْنَا في تفريجِ كربِ المسلمينَ المعنويَّةِ والماديَّةِ، فيكونُ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ، كما يقولُونَ، فسوفَ يحفظُنَا اللهُ ويزيلُ عنَّا كربَ يومِ القيامةِ أعظَمَهَا وأشدَّهَا، يقولُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}.
وعن عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهُا، أنَّها سمعَتْ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((يـُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً))، قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِهِمْ؟!! قالَ: ((يَا عَائِشَةُ، الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)).
ومعنَى غُرْلاً: جَمْعُ أَغْرَلَ، وهو الَّذي لم يُخْتَنْ وبَقِيَتْ معه غرْلَتُهُ، وهي الْجِلْدَةُ الَّتي تُقطَعُ في الْخِتانِ.
التيسيرُ علَى الْمُعْسِرِ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ يَسـَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))، الْمُعْسـِرُ: هو مَن كثرَتْ ديونُهُ وأَثْقَلَتْهُ، بحيثُ لا يَستطيعُ سدادَهَا.
ويكونُ التَّيسيرُ عليهِ: إمَّا بإنظارِهِ إلَى مَيْسَرَةٍ، حتَّى يَخرجَ مِن عسرِهِ ويُوسِّعَ اللهُ عليهِ، قالَ تَعالَى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، وإمَّا بالوضعِ عنه إن كانَ غريمًا، أو بإعطائِهِ ما يزولُ به إعسارُهُ.
ففي (الصَّحيحينِ) عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ)).
وقالَ تعالَى:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ))، ممـَّا لا شكَّ فيهِ ولا ريبَ نحنَ مقبلونَ علَى يومٍ شديدٍ هولُهُ، عسيرٌ علَى مَن انحرفَ عن صراطِ اللهِ المستقيمِ، قالَ تَعالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}.
وقالَ تَعالَى:{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
وأمَّا مَن آمَنَ به، وأدَّى حقوقَهُ، وأدَّى حقوقَ عبادِ اللهِ عليهِ، وأعانَهُمْ، ويسَّرَ عليهم يسَّرَ اللهُ عليهِ أمورَهُ، وسهَّلَهَا له، وكذلكَ سهَّلَ اللهُ عليهِ كلَّ عسرٍ يومَ القيامةِ، وأعانَهُ وثبَّتَهُ، وهذا جزاءُ صنيعِهِ في الدُّنيا مع إخوانِهِ.
سَتْرُ عَوراتِ المسلمينَ:
(4) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله فِي الدُّنْيَاوَالآخِرَةِ))، الأصلُ أنَّ المسلمَ السَّويَّ يحبُّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِهِ، فإذا رأَى عيبًا أو تقصيرًا في أخيهِ المسلمِ أنْ يدعوَ له بالاستقامةِ والصَّلاحِ، وأن ينصَحَهُ بالسِّرِّ، فهذا أحرَى لقبولِ النَّصيحةِ، كما قالَ الشَّافعيُّ:
تعمّدْنِي بنصحِكَ في انفرادِي
وجـَنِّبْنِي النَّصيحةَ في الجماعهْ
إنَّالـنُّصحَ بينَ النَّاسِ نوعٌ
مِن التَّوبيخِ لا أرضَى استماعَهْ
لا أنْ يَفرحَ ويسعدَ بزَلَّةِ أخيهِ وسقطاتِهِ، ويجعلَ منها حديثًا يَتلذَّذُ به في المجالسِ، فيَفضَحَ أخاهُ بذلكَ، ويخالفَ أمرَ ربِّهِ ورسولِهِ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي عنهما قالَ: صَعِدَ رسولُ اللهِ المنبرَ فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِم، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).
فالحديثُ يَدلُّ علَى أنَّ تتبُّعَ عوراتِ المسلمينَ وفضحَهُم هذا يصدرُ مِن المنافقينَ وضعفاءِ الإِيماِن، الَّذينَ لم يتغلغلِ الإِيمانُ إلَى قلوبِهِم.
ولكنْ ممَّا يَنْبَغِي أن يُعْلَمَ هنا أنَّ النَّاسَ في هذه القضيَّةِ ضربانِ:
1 - مَن كانَ مستورَ الحالِ معروفًا بينَ النَّاسِ بطاعتِهِ وصلاحِهِ، مثلُ هذا إذا وقعَتْ منه هفوةٌ أو زلَّةٌ وجبَ علَى مَن رآهُ أن يسترَ عليهِ، وإفشاءُ حالِ مثلِ هذا يقعُ تحتَ الغيبةِ الَّتِي حرَّمَها اللهُ عزَّ وجلَّ، كما أنَّ فيهِ إشاعةً للفاحشةِ في الَّذين آمنُوا، قالَ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
قالَ العلماءُ: المرادُ بإشاعةِ الفاحشةِ علَى المؤمنِ فيما وقعَ منه، أو اتُّهِمَ به ممَّا هو بريءٌ منه.
2 - مَن كانَ معروفًا بمعاصِيهِ، مجاهرًا بها، لا يُبالي بها، ولا بما قيلَ، مثلُ هذا الضَّربِ مِن النَّاسِ لا غيبةَ لهُ، بل لا بدَّ مِن بيانِ حالِهِ للنَّاسِ حتَّى يحذرُوا مِن شرِّهِ، وإذا لم ينتَهِ فلا بدَّ مِن رفعِ حالِهِ لولاةِ الأمرِ لتأديبِهِ، وتقويمِ سلوكِهِ؛ وذلك بإقامةِ الحدِّ أو التَّعزيرِ.
سَتْرُ المسلمِ نفسَهُ:
أمَّا بالنِّسبةِ لفاعلِ المعصيَةِ نفسِهِ فيَنْبَغِي أن يسترَ علَى نفسِهِ، وأن يتوبَ إلَى ربِّهِ تباركَ وتَعالَى.
عن زيدِ بنِ أسلمَ: أنَّ رجلاً اعترفَ علَى نفسِهِ بالزِّنَا علَى عهدِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعَا له رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوطٍ، فأُتِيَ بسوطٍ مكسورٍ، فقالَ: ((فَوْقَ هَذَا))، فأُتِيَ بسوطٍ جديدٍ لم تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فقالَ: ((دُونَ هَذَا))، فأُتِيَ بسوطٍ قد ركِبَ به ولانَ، فأَمَرَ به رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجُلِدَ، ثمَّ قالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللهِ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ)).
وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: (جاءَ رجلٌ إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إني عالجْتُ امرأةً في أقصَى المدينةِ، وإنِّي أصبْتُ منها دونَ أن أمسَّهَا، فأنا هذا، فاقضِ فيَّ ما شئتَ، فقالَ له عمرُ: لقد سَتَرَكَ اللهُ لو سَتَرْتَ علَى نفسِكَ).
الترغيبُ بالتعاوُنِ بكلِّ وُجوهِ الخيرِ:
(5) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((واللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ))، التـَّعاونُ علَى الخيرِ يُعطِي المجتمعَ قوَّةً وتَماسكًا وصَلابةً، ولا يَستطيعُ أحدٌ أن يَقهرَهُ أو يَنالَ منه، لذلك حثَّ القرآنُ الكريمُ عليهِ، قالَ تَعالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
كما نَهَى عن التَّعاونِ علَى الشَّرِّ وفيما يُغضبُ اللهَ ورسولَهُ، كما أنَّ التَّعاونَ علَى البِرِّ مِن الصَّدقاتِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ)).
كما أنَّ للتَّعاونِ مِن الأجرِ والثَّوابِ كما للصِّيامِ والصَّلاةِ وباقي العباداتِ.
عن أنسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (كُنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرٍ، فصامَ بعضٌ وأَفْطَرَ بعضٌ، فتحزَّمَ المفطرونَ وعملوا في زاويَةٍ: فضربُوا الأبنيَةَ، وسقَوا الرِّكابَ، وضَعُفَ الصُّوَّامُ عن بعضِ العملِ) قالَ: فقالَ في ذلك: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ))، والمرادُ بأنَّ لهم أجرًا وثوابًا كما للصَّائمينَ.
الشفاعةُ لذوي الحاجاتِ مِن التعاونِ:
قالَ تَعالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}،
قالَ ابنُ كثيرٍ: (مَن سَعَى في أمرٍ فتَرَتَّبَ عليهِ خيرٌ كانَ له نصيبٌ مِن ذلك)اهـ.
وقالَ مجاهِدٌ: (نزلَتْ هذه الآيَةُ في شفاعاتِ النَّاسِ بعضِهِمْ لبعضٍ، فالشَّافعُ لأخيهِ إذا اسْتُجِيبَتْ شفاعتُهُ كانَ له أجرانِ: أجرٌ عن الخيرِ الذي ساقَهُ إلَى أخيهِ، وأجرٌ آخرُ هو مثلُ أجرِ المشفوعِ إليهِ في فعلِهِ مِن الخير).
عن أبي بُرْدَةَ بنِ أبي بُرْدَةَ قالَ: أَخْبَرَنِي جدِّي أبو بُرْدَةَ، عن أبيهِ أبي موسَى، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وكانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسًا إذ جاءَ رجلٌ يسألُ أو طالبُ حاجةٍ، أقبلَ علينا بوجهِهِ فقالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ)).
والمعنَى: إذا عرضَ الرَّجلُ حاجتَهُ عليَّ فاشفعُوا له إليَّ، فإنَّ لكم ثوابًا في ذلك، ويُجْرِي اللهُ علَى لسانِ نبيِّهِ ما شاءَ مِن موجباتِ قضاءِ الحاجةِ أو عدمِهَا، فإنَّ ذلك بقضائِهِ سبحانَهُ وقدَرِهِ.
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: (وفي الحديثِ الحضُّ علَى الخيرِ بالفعلِ، والتَّسبُّبُ إليهِ بكلِّ وجهٍ، والشَّفاعةُ إلَى الكبيرِ في كشفِ كربِ ومعونةِ الضعيفِ، إذ ليسَ كلُّ أحدٍ يَقدرُ علَى الوصولِ إلَى الرئيسِ، ولا التَّمكُّنِ منه ليَلِجَ عليهِ، أو يُوَضِّحَ له مُرادَهُ ليعرفَ حالَهُ علَى وَجْهِها، ولهذا فقدْ كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحْتَجِبُ).
الشَّفاعةُ المحرَّمَةُ:
هي ما كانَ فيها تعدٍّ علَى حقوقِ اللهِ أو عِبادهِ، فهذه شفاعةٌ مَذمومةٌ نَهَى اللهُ عنها، ويكونُ للشَّافعِ وِزرٌ في ذلك الأمرِ الَّذي يَترتَّبُ بسببِ سعيِهِ، قالَ تَباركَ وتعالَى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}.
ومنها كذلك الشَّفاعةُ في الحدودِ عندما تصلُ إلَى الإمامِ، ويشهدُ لذلك حديثُ أسامةَ المشهورُ، عندَما شفعَ للمرأةِ المخزوميَّةِ الَّتي سرقَتْ، قالَ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!))، أمـَّا قبلَ انتهائِهَا إلَى الإمامِ فهي حَسنةٌ جميلةٌ، كما قالَ ابنُ عبدِ البرِّ.
أثرُ الحديثِ في حياةِ السَّلفِ: الَّذي يَطَّلِعُ علَى سيرةِ سلفِ الأمَّةِ يجدُ تعاليمَ الإسلامِ السَّاميَةَ ظاهرةً وواضحةً في فعلِهِم وقولِهِم، فهم قدوةٌ صالحةٌ لغيرِهِمْ، ربطُوا العلمَ بالعملِ، فاهتدَى بسببِهِمْ خلقٌ كثيرٌ إلَى الإسلامِ، أمَّا واقعُ الأمَّةِ اليومَ - إلاَّ ما رحمَ ربُّكَ - فقد تحوَّلَتْ تعاليمُ السَّماءِ فيها إلَى مِدادٍ علَى ورقٍ، وكلامٍ مسجَّلٍ علَى أشرطةِ الكسيت، ومحاضراتٍ وخطبٍ أثرُهَا في الواقعِ ضئيلٌ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ.
أخرجَ ابنُ سعدٍ، عن أنيسةَ قالَتْ: كنَّ - جواري الحيِّ - يأتينَ بغنمِهِنَّ إلَى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللهُ عَنْهُ فيقولُ لهنَّ: أتُحِبُّونَ أحلبُ لكُنَّ حلبَ ابنِ عفراءَ - وكان رجلاً تاجرًا - فكانَ يغدُو كلَّ يومٍ للسُّوقِ فيبيعُ ويَبتاعُ، وكانت له قُطعةُ غنمٍ تَروحُ عليهِ وربَّما خَرَجَ هو بنفسِهِ فيها، وربَّمَا كُفِيَها فرُعِيَتْ له، وكانَ يَحْلِبُ للحيِّ أغنامَهُم لَمَّا بويعَ له بالخلافةِ، فقالَتْ جاريَةٌ مِن الحيِّ: الآنَ لا تُحْلَبُ لنا مَنَائِحُ دارِنَا، فسَمِعَهَا أبو بكرٍ فقالَ: بلَى، لعَمْرِي لأحلِبَنَّها لكم، وإنِّي لأرجو أن لا يُغيِّرَنِي ما دخلتُ فيهِ عن خُلُقٍ كنْتُ عليهِ، فكانَ يَحْلِبُ لهُمْ.
عن الأوزاعيِّ، أنَّ عمرَ خرجَ في سوادِ الليلِ فرآهُ طلحةُ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فذهبَ عمرُ فدخلَ بيتًا، ثمَّ دخلَ بيتًا آخرَ، فلمَّا أصبحَ طلحةُ ذهبَ إلَى ذلك البيتِ، وإذا بعجوزٍ عمياءَ مقعدةٍ فقالَ لها: ما بالُ هذا الرَّجلِ يأتيكِ؟! قالَتْ: إنَّهُ يَتعاهدُنِي منذُ كذا وكذا؛ يأتِيني بما يُصلِحُني ويُخرجُ عنِّي الأذَى، فقالَ طلحةُ: ثكلَتْكَ أمُّكَ يا طلحةُ، أعثراتُ عمرَ تتَبَّعُ؟.
وقالَ مجاهِدٌ رحمَهُ اللهُ تعالَى: صحبْتُ ابنَ عمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُ في السَّفَرِ لأَخْدُمَهُ فكانَ يَخْدُمُنِي.
علمُ الدِّينِ الطَّريقُ الْمُوصِلُ إلَى دارِ السَّلامِ:
(6) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ))، قدْ يكونُ المرادُ السُّلوكُ الحقيقيُّ للطَّريقِ، وهو المشيُ بما هيَّأَ اللهُ لنا مِن وسائلَ إلَى مجالسِ العلماءِ، وقدْ يكونُ سلوكُ الطَّريقِ المعنويِّ المؤدِّي لحصولِ العلمِ، مثلُ: حفظِهِ، ومدارسَتِهِ، ومذاكرتِهِ، ومطالعتِهِ، وكتابتِهِ، والتَّفهُّمِ له، ونحوِ ذلك مِن الطُّرقِ، أمَّا قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَهـَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ))، فقد يـُرادُ به تسهيلُ حصولِهِ علَى العلمِ الَّذِي هو طريقُ الجنَّةِ، أو يُسَهـِّلُ له - إذا ابتغَى بهِ وجهَ اللهِ - الانتفاعَ بهِ والعملَ بمقتضاهُ، فيكونُ العلمُ سببًا لهدايتِهِ ولدخولِهِ الجنَّةَ، أو يسهِّلُ اللهُ له طريقَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ، مِن اجتيازِ الصِّراطِ، وما بعدَهُ مِن الأهوالِ، وما قبلَهُ، واللهُ أعلمُ.
فالعلمُ النَّافعُ هو طريقُ معرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والوصولِ إلَى رضوانِهِ والفوزِ بقربِهِ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
أفضلُ العلمِ:
قالَ الإِمامُ الشَّافعيُّ رحمهُ اللهُ:
كلـُّب العلومِ سوَى القرآنِ مَشْغَلـَةٌ
إلاَّ الحديثَ وعلمَ الفقهِ في الـدِّينِ
العلمُ ما كانَ فيهِ: قالَ حدَّثَنـَا
وما سوَى ذاكَ وَسواسُ الشَّياطينِ
وقالَ رحمَهُ اللهُ كذلك:
إذا رأيْتُ رجلاً مِن أصحابِ الحديثِ فكأنَّمَا رأيتُ رجلاً مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جزاهُمُ اللهُ خيرًا، حَفِظُوا لنا الأصلَ فلهُمْ علينا الفضلُ، قالَ تعالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فالواجبُ علَى طالبِ العلمِ تُجاهَ كتابِ اللهِ الآتي:
1 - أن يَجتهدَ علَى إتقانِ قراءتِهِ علَى أيدي العلماءِ حتَّى لا يقعَ في اللحنِ وحتَّى يُراعيَ قواعدَ التَّجويدِ أثناءَ قراءتِهِ.
2 - أن يحفظَ ما يستطيعُ منه، فإنَّ لحفظِ كتابِ اللهِ منزلةً عظيمةً عندَ اللهِ.
3 - أن يبذلَ ما في وسعِهِ لفهمِ معانيهِ وأن يهتديَ في ذلك بطريقِ سلفِ الأمَّةِ.
قالَ أبو عبدِ الرَّحمنِ السَّلميُّ: حدَّثنا الَّذينَ كانُوا يُقِرْئونَنَا القرآنَ: كعثمانَ بنِ عفَّانَ، وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وغيرِهِما، أنَّهُم كانوا إذا تعلَّمُوا مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرَ آياتٍ لم يجاوزُوهَا حتَّى يتعلَّمُوا ما فيها مِن العلمِ والعملِ، قالُوا: فتعلَّمْنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا.
4 - أن يراعيَ الأصولَ والضَّوابطَ الآتيَةَ أثناءَ دراستِهِ لفهمِ القرآنِ، هذه الضَّوابطُ والأصولُ بيَّنَها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في رسالتِهِ القيِّمةِ الَّتي أنصحُ كلَّ طالبِ علمٍ بدراسَتِها (مقدِّمةٌ في أصولِ التَّفسيرِ).
أ - تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ.
ب - تفسيرُ القرآنِ بالسُّنَّةِ.
ج - تفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ.
د - تفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التَّابعينَ.
وأن يَبتعدَ عن التَّفسيرِ بالرَّأي المجرَّدِ، فإنَّ جمهورَ العلماءِ ذهبُوا إلَى تحريمِ ذلك.
قالَ أبو بكرٍ: (أيُّ أرضٍ تقلُّنِي، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي، إذا قلْتُ في كتابِ اللهِ ما لم أعلمْ).
وقالَ عمرُ: (اتـَّبِعـُوا ما بَيـِّنَ لكم مِن هذا الكتابِ فاعملُوا عليهِ، وما لم تعرفُوهُ فكلُوهُ إلَى ربِّهِ) وما سببُ الضَّلالِ الَّذي غزا المسلمينَ في عقائدِهِم وأخلاقِهِم ومعاملاتِهِم وعبادتِهِم، وفرَّقَهُم إلَى شيعٍ وأحزابٍ إلاَّ لبعدِهِمْ عن الأصولِ السَّليمةِ لفهمِ القرآنِ، فيأتي بعضُ المتصوِّفَةِ علَى الآيَةِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فيَستدلُّ بها علَى سقوطِ التَّكاليفِ اتِّباعًا لرأيهِ الممسوخِ، ألا يعلمُ هذا بأنَّ الصَّحابةَ عبدُوا ربَّهُم وحافظُوا علَى الجُمَعِ والجماعاتِ حتَّى توفَّاهُمُ اللهُ.
ويأتي الرَّافضيُّ إلَى الآيَةِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، فيقولُ: المقصودُ بها عائشةُ رَضِي اللهُ عَنْهُا. الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ، المبرَّأةُ مِن السَّماءِ، حبيبةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتي بَشَّرهَا بالجنَّةِ!!!.
ويأتي المفْتُونُ بضلالاتِ علماءِ الكلامِ فبدلَ أن يقفَ أمامَ الذِّكرِ الحكيمِ فقيرًا ذليلا ضعيفًا يلتمسُ منه الهَدَى والرَّشادَ، يقفُ موقفَ الأستاذِ المعلِّمِ فيلوي أعناقَ الآياتِ كي توافقَ أصولَهُ وقواعدَهُ، الَّتي أصَّلَها أساتذتُهُ مِن علماءِ الكلامِ بناءً علَى عقولِهِمُ الضَّعيفةِ القاصرةِ، فيأتي علَى الآيَةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فيقولُ: استولَى ويُخَالِفُ بذلك ما عليهِ سلَفُ الأمَّةِ.
ممَّا يَجبُ علَى طالبِ العلمِ تُجاهَ السُّنَّةِ:
1 - أن يَجتهدَ لتحرِّي ما صحَّ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنْ كانَ ممَّنْ له باعٌ في علمِ الحديثِ، أو يتبعَ العلماءَ المشهودَ لهم في هذا الميدانِ، وألا يكونَ حاطبَ ليلٍ، يجمعُ ما هبَّ ودبَّ، فهذا داءٌ يُبتلَى به كثيرٌ مِن طلبةِ العلمِ، ويظنُّونَ أنَّ هذا الفعلَ هيِّنٌ، قالَ تعالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ}.
2 - أن يحفظَ ما يستطيعُ حفظَهُ مِن (الصَّحيحينِ) فإنَّهُما أصحُّ ما ثبتَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - أن يسعَى لفهمِ فقهِ الأحاديثِ، وأن يتتلمذَ علَى مَن سبقَهُ في هذا الميدانِ مِن العلماءِ الأعلامِ المشهودِ لهم بالاستقامةِ والفهمِ السَّليمِ، والمتَّبِعُونَ لما عليهِ سلفُ الأمَّةِ، وألاَّ يقدِّمَ فهمَهُ علَى أفهامِهِم، وألاَّ يقولَ بفهمٍ لم يسبقْ له دونَ بيِّنَةٍ.
4 - علَى طالبِ العلمِ أن يعملَ بما في السُّنَّةِ مِن واجباتٍ، وأن ينتهيَ عمَّا نهتْ عنه، فإنَّ اللهَ يمقُتُ الَّذِي لا يعملُ بما يعلمُ، وحتَّى لا تكونَ حجَّةً عليهِ يومَ الجزاءِ، وحتَّى يكونَ قدوةً طيِّبةً صالحةً لغيرِهِ، كما أنَّ عليهِ أن يعملَ بما فيها مِن مستحبَّاتٍ علَى قدرِ استطاعتِهِ، وأن يتنزَّهَ عن المكروهاتِ.
يتبع إن شاء الله...