أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: شرح الحديث رقم (37) السبت 02 يوليو 2011, 2:11 am | |
| وَقَدْ رُوِيَ في حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ في رمضانَ، ولكنَّ إِسْنَادَهُمَا لا يَصِحُّ. وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. قالَ ابنُ عُمَرَ: الفُسُوقُ: (مَا أُصِيبَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ صَيْدًا كانَ أوْ غيرَهُ). وعنهُ قالَ: (الفسوقُ إِتْيَانُ مَعَاصِي اللَّهِ في الحَرَمِ). وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحجِّ: 25]. وكانَ جماعةٌ من الصحابةِ يَتَّقُونَ سُكْنَى الْحَرَمِ؛ خَشْيَةَ ارْتِكَابِ الذُّنوبِ فيهِ؛ مِنْهُم ابنُ عَبَّاسٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ. وكذلكَ كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يَفْعَلُ، وكانَ عبدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ يَقُولُ: الْخَطِيئَةُ فِيهِ أَعْظَمُ. وَرُوِيَ عنْ عمرَ بنِ الخَطَّابِ قالَ: (لأََنْ أُخْطِئَ سَبْعِينَ خَطِيئَةً -يَعْنِي بِغَيْرِ مَكَّةَ- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أُخْطِئَ خَطِيئَةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ). وعنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: (تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الحَسَنَاتُ). وقالَ ابنُ جُرَيْجٍ: (بَلَغَنِي أَنَّ الْخَطِيئَةَ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ خَطِيئَةٍ، وَالْحَسَنَةَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ). وقالَ إسحاقُ بنُ منصورٍ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: في شَيْءٍ من الحديثِ أنَّ السَّيِّئَةَ تُكْتَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قالَ: لا، ما سَمِعْنَا إِلا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ البَلَدِ، (َلَوْ أَنَّ رَجُلاً بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ) وقالَ إسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا قالَ أَحْمَدُ. وقولُهُ: ولوْ أنَّ رَجُلاً بِعَدَنِ أَبيَنَ هَمَّ، هوَ منْ قولِ ابنِ مَسْعُودٍ، وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بعدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقدْ تُضَاعَفُ السَّيِّئاتُ بِشَرَفِ فَاعِلِهَا، وَقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ باللَّهِ، وَقُرْبِهِ منهُ. فإنَّ مَنْ عَصَى السُلطانَ على بِسَاطِهِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ عصَاهُ عَلَى بُعْدٍ؛ ولهذا تَوَعَّدَ اللَّهُ خَاصَّةَ عِبَادِهِ على المعَصيَةِ بِمُضَاعَفَةِ الجزاءِ، وإنْ كانَ قدْ عَصَمَهُمْ مِنها؛ لِيُبَيِّنَ لهم فَضْلَهُ عَلَيْهِم بعِصْمَتِهم مِنْ ذلكَ، كما قالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإِسراء: 74 - 75]. وقالَ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30 - 31].
وكانَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ يَتَأَوَّلُ في آلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِثْلَ ذلكَ؛ لِقُرْبِهِمْ مِن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. النوعُ الثالثُ: الهَمُّ بالحَسَنَاتِ.
فَتُكْتَبُ حسنةً كَامِلَةً وإنْ لمْ يَعْمَلْهَا، كما في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِ، وفي حديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ كما تَقَدَّمَ: ((إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً)). والظَّاهِرُ أنَّ المرادَ بالتَّحَدُّثِ: حديثُ النفسِ، وهوَ الْهَمُّ.
وفي حديثِ خُرَيْمِ بنِ فَاتِكٍ: ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً)).
وهذا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالهَمِّ هنا: هوَ العَزْمُ المُصَمِّمُ الذي يُوجَدُ مَعَهُ الحِرْصُ على العملِ، لا مُجَرَّدُ الْخَطْرَةِ التي تَخْطرُ ثمَّ تَنْفَسِخُ منْ غيرِ عَزْمٍ ولا تَصْمِيمٍ. قالَ أبو الدَّرْدَاءِ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وهوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ مِن اللَّيلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لهُ ما نَوَى.
وَرُوِيَ عنهُ مَرْفُوعًا، وَخَرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا. قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: المَحْفُوظُ الموقوفُ، وَرُوِيَ معناهُ منْ حديثِ عائشةَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
ورُوِيَ عنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ قالَ: (مَنْ هَمَّ بِصَلاةٍ، أوْ صِيَامٍ، أوْ حَجٍّ، أوْ عُمْرَةٍ، أوْ غَزْوٍ، فَحِيلَ بينَهُ وبينَ ذلكَ، بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى ما نَوَى) وقالَ أبو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: (يُنَادَى المَلَكُ: اكْتُبْ لِفُلانٍ كذا وكذا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ نَوَاهُ).
قالَ زيدُ بنُ أَسْلَمَ: كانَ رَجُلٌ يَطُوفُ على العُلَمَاءِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى عَمَلٍ لا أَزَالُ منهُ لِلَّهِ عَامِلاً؛ فَإِنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَأْتِيَ عَلَيَّ ساعةٌ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ إلا وَأَنَا عَامِلٌ للَّهِ تَعَالَى، فقيلَ لهُ: قدْ وَجَدْتَ حَاجَتَكَ، فَاعْمَلِ الخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ، فإذا فَتَرْتَ أوْ تَرَكْتَهُ فَهُمَّ بِعَمَلِهِ؛ فإنَّ الْهَامَّ بِعَمَلِ الخيرِ كَفَاعِلِهِ.
وَمَتَى اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ قَوْلٌ أوْ سَعْيٌ تَأَكَّدَ الْجَزَاءُ، وَالْتَحَقَ صَاحِبُهُ بالعاملِ، كما رَوَى أبو كَبْشَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَِرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ في مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بَأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وقدْ حُمِلَ قولُهُ: ((فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ))، على استوائِهِمَا في أصْلِ أجْرِ العملِ دُونَ مُضَاعَفَتِهِ، فَالمُضَاعَفَةُ يَخْتَصُّ بها مَنْ عَمِلَ العملَ دونَ مَنْ نَوَاهُ فَلَمْ يَعْمَلْهُ؛ فإنَّهُمَا لو اسْتَوَيَا مِنْ كلِّ وَجْهٍ لَكُتِبَ لِمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ ولمْ يَعْمَلْهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وهوَ خِلافُ النُّصوصِ كُلِّهَا. وَيَدُلُّ على ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95 - 96].
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُ: القَاعِدُونَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِم المُجَاهِدُونَ دَرَجَةً همُ القَاعِدُونَ منْ أهْلِ الأَعْذَارِ، والقاعدونَ المُفَضَّلُ عليهم المُجَاهِدُونَ دَرَجَاتٍ هم القَاعِدُونَ منْ غيرِ أهلِ الأَعْذَارِ.
النوعُ الرابعُ: الهَمُّ بالسَّيِّئَاتِ منْ غيرِ عَمَلٍ لَهَا.
فَفِي حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّها تُكْتَبُ لهُ حَسَنَةً كَامِلَةً.
وكذلكَ في حديثِ أبي هريرةَ وَأَنَسٍ وغيرِهِمَا: أنَّها تُكْتَبُ حَسَنَةً.
وفي حديثِ أبي هريرةَ قالَ: ((إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ))، يَعْنِي: مِنْ أَجْلِي. وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُرَادَ: مَنْ قَدَرَ على ما هَمَّ بهِ مِن المعصيَةِ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وهذا لا رَيْبَ في أنَّهُ يُكْتَبُ لهُ بذلكَ حَسَنَةٌ؛ لأنَّ تَرْكَهُ لِلْمَعْصِيَةِ بِهَذَا القَصْدِ عَمَلٌ صَالِحٌ. فأمَّا إنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَرَكَ عَمَلَهَا خَوْفًا مِن المَخْلُوقِينَ، أوْ مُرَاءَاةً لهم، فقدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعَاقَبُ على تَرْكِهَا بهذهِ النِّيَّةِ؛ لأنَّ تَقْدِيمَ خَوْفِ المَخْلُوقِينَ على خوفِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ. وكذلكَ قَصْدُ الرِّيَاءِ للمَخْلُوقِينَ مُحَرَّمٌ، فإذا اقْتَرَنَ بهِ تَرْكُ المَعْصِيَةِ لأِجله عُوقِبَ على هذا التَّرْكِ.
وقدْ خَرَّجَ أبو نُعَيْمٍ بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، لا تَأْمَنَنَّ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِن الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ. وَذَكَرَ كَلامًا وقالَ: وَخَوْفُكَ من الريحِ إذا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وأنتَ على الذَّنْبِ، ولا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ، أَعْظَمُ مِن الذَّنْبِ إذا عَمِلْتَهُ. وقالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: (كانوا يَقُولُونَ: تَرْكُ العَمَلِ للناسِ رِيَاءٌ، والعملُ لَهُمْ شِرْك)ٌ. وأمَّا إنْ سَعَى في حُصُولِهَا بِمَا أَمْكَنَهُ، ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا القَدَرُ، فقدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا حينئذٍ؛ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأِمتي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ)).
ومَنْ سَعَى في حُصُولِ المَعْصِيَةِ جَهْدَهُ، ثمَّ عَجَزَ عنها، فقدْ عَمِلَ، وكذلكَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ))، قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، هذا القاتلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)). وقولُهُ: ((مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ))، يَدُلُّ على أنَّ الهَامَّ بالمعصيَةِ إذا تَكَلَّمَ بما هَمَّ بهِ بلسانِهِ أنَّهُ يُعَاقَبُ على الهَمِّ حينئذٍ؛ لأنَّهُ قدْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ مَعْصِيَةً، وهوَ التَّكلُّمُ باللِّسانِ. وَيَدُلُّ على ذلكَ حديثُ الذي قالَ: ((لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ مَا عَمِلَ فُلانٌ))، يَعْنِي: الذي يَعْصِي اللَّهَ في مالِه. قالَ: ((فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ)).
ومِن المُتَأَخِّرِينَ مَنْ قالَ: لا يُعَاقَبُ على التَّكَلُّمِ بما هَمَّ بهِ ما لمْ تكُن المَعْصِيَةُ التِي هَمَّ بها قَوْلاً مُحَرَّمًا، كالقَذْفِ والغِيبَةِ والكَذِبِ.
فأمَّا ما كانَ مُتَعَلَّقُهَا العَمَلَ بالجوارحِ، فلا يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بهِ. وهذا قدْ يُسْتَدَلُّ بهِ على حديثِ أبي هريرةَ المُتَقَدِّمِ: ((وَإِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا)). ولكنَّ المرادَ بالحديثِ هنا حديثُ النفسِ؛ جَمْعًا بَيْنَهُ وبينَ قولِهِ: ((مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ)). وحديثُ أبي كَبْشَةَ يَدُلُّ على ذلكَ صَرِيحًا؛ فإنَّ قولَ القائلِ بلسانِهِ: (لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِالْمَعَاصِي كَمَا عَمِلَ فُلانٌ)، ليسَ هوَ العملَ بالمعصيَةِ التي هَمَّ بها، وإنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا هَمَّ بهِ فقطْ ممَّا مُتَعَلَّقُهُ إِنْفَاقُ المالِ في المعاصِي، وليسَ لهُ مَالٌ بالكُلِّيَّةِ، وأيضًا فالكلامُ بذلكَ مُحَرَّمٌ، فكيفَ يكونُ مَعْفُوًّا عنهُ غيرَ مُعاقَبٍ عليهِ؟
وأمَّا إن انْفَسَخَتْ نِيَّتُهُ، وَفَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ منْ غيرِ سببٍ منهُ، فَهَلْ يُعَاقَبُ على ما هَمَّ بهِ مِن المعصيَةِ أمْ لا؟
هذا على قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ يَكُونَ الهَمُّ بالمَعْصِيَةِ خَاطِرًا خَطَرَ، ولمْ يُسَاكِنْهُ صَاحِبُهُ، ولم يَعْقِدْ قَلْبَهُ عليهِ، بلْ كَرِهَهُ وَنَفَرَ منهُ، فهذا مَعْفُوٌّ عنهُ، وهوَ كَالْوَسَاوِسِ الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عنها، فقالَ: ((ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ)).
ولمَّا نَزَلَ قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]، شَقَّ ذلكَ على المُسْلِمِينَ، وظَنُّوا دُخولَ هذهِ الخواطرِ فيهِ، فَنَزَلَت الآيَةُ التي بَعْدَهَا، وفيها قولُهُ: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، فَبَيَّنَتْ أنَّ ما لا طاقةَ لهم بهِ فهوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بهِ، ولا مُكَلَّفٍ بهِ. وَقَدْ سَمَّى ابنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ذلكَ نَسْخًا، وَمُرَادُهُم أنَّ هذهِ الآيَةَ أَزَالَت الإِيهامَ الواقعَ في النُّفوسِ من الآيَةِ الأُولَى، وَبَيَّنَتْ أنَّ المُرَادَ بالآيَةِ الأُولَى العزائمُ المُصَمَّمُ عليها، ومثلُ هذا كانَ السلفُ يُسَمُّونَهُ نَسْخًا.
القسمُ الثاني: العزائمُ المُصَمَّمَةُ التي تَقَعُ في النفوسِ وَتَدُومُ، وَيُسَاكِنُهَا صَاحِبُهَا. فَهَذا أيضًا نَوْعَانِ:
أحدُهُمَا: ما كانَ عَمَلاً مُسْتَقِلاًّ بنفسِهِ منْ أعمالِ القلوبِ، كالشَّكِّ في الوَحْدَانيَّةِ، أو النُّبُوَّةِ، أو البَعْثِ، أوْ غيرِ ذلكَ مِن الكُفْرِ والنِّفَاقِ، أو اعْتِقَادِ تكذيبِ ذلكَ. فهذا كُلُّهُ يُعَاقَبُ عليهِ العَبْدُ، وَيَصِيرُ بذلكَ كافرًا وَمُنَافِقًا. وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ حَمَلَ قولهُ تَعَالَى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، على مِثْلِ هذا.
وَرُوِيَ عنهُ حَمْلُهَا على كِتْمَانِ الشَّهادةِ لِقوله ِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
وَيَلْحَقُ بهذا القسمِ سَائِرُ المَعَاصِي المُتَعَلِّقَةِ بالقلوبِ، كَمَحَبَّةِ ما يُبْغِضُهُ اللَّهُ، وبُغْضِ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ، والكِبْرِ، والعُجْبِ، والحَسَدِ، وسُوءِ الظَّنِّ بالمسلمِ منْ غيرِ مُوجِبٍ، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ عنْ سُفْيَانَ أنَّهُ قالَ في سُوءِ الظَّنِّ: إذا لمْ يَتَرَتَّبْ عليهِ قولٌ أوْ فعلٌ فهوَ مَعْفُوٌّ عنهُ. وكذلكَ رُوِيَ عن الحسنِ أنَّهُ قالَ في الحسدِ.
(ولَعَلَّ هذا محمولٌ منْ قَوْلِهِمَا على ما يَجِدُهُ الإنسانُ ولا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، فهوَ يَكْرَهُهُ وَيَدْفَعُهُ عنْ نفسِهِ، فلا يَنْدَفِعُ إلا على ما يُسَاكِنُهُ وَيَسْتَرْوِحُ إليهِ، ويُعِيدُ حَدِيثَ نَفْسِهِ بهِ وَيُبْدِيهِ). والنوعُ الثاني: ما لمْ يكُنْ مِنْ أعمالِ القلوبِ، بلْ كانَ منْ أعمالِ الجوارحِ؛ كالزِّنَى، والسرقةِ، وشُرْبِ الخمرِ، والقتلِ، والقذفِ، ونحوِ ذلكَ.
إذا أَصَرَّ العبدُ على إرادةِ ذلكَ، والعزمِ عليهِ، ولم يَظْهَرْ لهُ أَثَرٌ في الخارجِ أصلاً، فهذا في المؤاخذةِ بهِ قَوْلانِ مشهورانِ للعلماءِ: أحدُهُمَا: يُؤَاخَذُ بهِ. قالَ ابنُ المُبَارَكِ: سَأَلْتُ سفيانَ الثَّوْرِيَّ: أيُؤَاخَذُ العبدُ بِالهَمَّةِ؟ فقالَ: إذا كانَتْ عَزْمًا أُوخِذَ.
ورجَّحَ هذا القولَ كَثِيرٌ من الفُقهاءِ والمُحَدِّثِينَ والمُتَكَلِّمِينَ منْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا لهُ بِنَحْوِ قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
وقولِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]. وبنَحْوِ قولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).
وَحَمَلُوا قولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأِمتي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ))، على الخَطَرَاتِ، وَقَالُوا: ما سَاكَنَهُ العَبْدُ، وعَقَدَ قَلْبَهُ عليهِ، فهوَ مِنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، فَلا يَكُونُ مَعْفُوًّا عنهُ.
ومِنْ هؤلاءِ مَنْ قالَ: إنَّهُ يُعَاقَبُ عليهِ في الدُّنيا بالهمومِ والغمومِ.
رُوِيَ ذلكَ عنْ عائشةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وفي صِحَّتِهِ نَظَرٌ.
وقِيلَ: بَلْ يُحَاسَبُ الْعَبْدُ بِهِ يومَ القيامةِ، فَيَقِفُهُ اللَّهُ عليهِ، ثمَّ يَعْفُو عنهُ ولا يُعَاقِبُهُ بهِ، فَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ المُحَاسَبَةَ. وهذا مَرْوِيٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ والربيعِ بنِ أَنَسٍ.
وهوَ اخْتِيَارُ ابنِ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ لهُ بحديثِ ابنِ عُمَرَ في النَّجْوَى، وذاكَ ليسَ فيهِ عُمُومٌ، وأيضًا فَإِنَّهُ وَارِدٌ في الذنوبِ المَسْتُورَةِ في الدُّنيا، لا في وَسَاوِسِ الصُّدورِ.
والقولُ الثاني: لا يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا. ونُسِبَ ذلكَ إلى نَصِّ الشافعيِّ، وهوَ قولُ ابنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَمَلاً بالعُمُومَاتِ.
وَرَوَى العَوْفِيُّ عن ابنِ عَبَّاسٍ ما يَدُلُّ على مثلِ هذا القولِ.
وفيهِ قولٌ ثالثٌ: أنَّهُ لا يُؤَاخَذُ بالهَمِّ بالمَعْصِيَةِ إلا بأنْ يَهِمَّ بارْتِكَابِهَا في الحَرَمِ. كما رَوَى السُّدِّيُّ، عنْ مُرَّةَ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ قالَ: ما مِنْ عَبْدٍ يَهِمُّ بخطيئةٍ فلم يَعْمَلْهَا فَتُكْتَبَ عليهِ، ولوْ هَمَّ بقَتْلِ إنسانٍ عندَ البيتِ وهوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ أَذَاقَهُ اللَّهُ منْ عذابٍ أليمٍ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحجِّ: 25]. خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ وَغَيْرُهُ. وقدْ رَوَاهُ عن السُّدِّيِّ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ، فَرَفَعَهُ شُعْبَةُ وَوَقَفَهُ سُفْيَانُ، والقولُ قولُ سُفْيَانَ في وَقْفِهِ. وقالَ الضَّحَّاكُ: إنَّ الرجلَ لَيَهِمُّ بالخطيئةِ بِمَكَّةَ، وهوَ بأرضٍ أُخْرَى، فَتُكْتَبُ عليهِ ولم يَعْمَلْهَا. وقدْ تَقَدَّمَ عنْ أحمدَ وإسحاقَ ما يَدُلُّ على مثلِ هذا القولِ، وكذا حَكَاهُ القاضِي أبو يَعْلَى عنْ أحمدَ. وَرَوَى أحمدُ في روايَةِ المَرَّوذِيِّ حَدِيثَ ابنِ مسعودٍ هذا، ثُمَّ قالَ أحمدُ: يقُولُ: مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، قالَ أحمدُ: لوَ أنَّ رَجُلاً بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ بقَتْلِ رَجُلٍ في الحَرَمِ، هذا قولُ اللَّهِ سبحانَهُ: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
هكذا قالَ ابنُ مسعودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا إلى ما تَقَدَّمَ مِن المعاصِي التي مُتَعَلَّقُهَا القلبُ، وقالَ: الحَرَمُ يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ بالقلوبِ، فالعقوبةُ على تَرْكِ هذا الواجبِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ فإنَّ حُرْمَةَ الحَرَمِ لَيْسَتْ بِأَعْظَمَ منْ حُرْمَةِ مُحَرِّمِهِ سُبْحَانَهُ، والعَزْمُ على معصيَةِ اللَّهِ عَزْمٌ على انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، ولكنْ لوْ عَزَمَ على ذلكَ قَصْدًا لانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الحَرَمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِحُرْمَتِهِ، فهذا كما لوْ عَزَمَ على فعلِ معصيَةٍ لقصدِ الاستخفافِ بحُرْمَةِ الخالقِ عزَّ وجلَّ، فَيَكْفُرُ بذلكَ، وإنَّما يَنْتَفِي الكفرُ عنهُ إذا كانَ هَمُّهُ بالمعصيَةِ لِمُجَرَّدِ نَيْلِ شَهْوَتِهِ وغَرَضِ نفسِهِ، معَ ذُهُولِهِ عنْ قَصْدِ مُخَالَفَةِ اللَّهِ، والاستخفافِ بِهَيْبَتِهِ وَبِنَظَرِهِ.
وَمَتَى اقْتَرَنَ العملُ بالهَمِّ فإنَّهُ يُعَاقَبُ عليهِ، سَوَاءٌ كانَ الفِعْلُ مُتَأَخِّرًا أوْ مُتَقَدِّمًا، فمَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا مَرَّةً ثمَّ عَزَمَ على فِعْلِهِ متَى قَدَرَ عليهِ، فهوَ مُصِرٌّ على المعصيَةِ، وَمُعَاقَبٌ على هذهِ النِّيَّةِ، وإنْ لمْ يَعُدْ إلى عَمَلِهِ إِلا بَعْدَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ.
وبذلكَ فَسَّرَ ابنُ المُبَارَكِ وَغَيْرُهُ الإِصرارَ على المعصيَةِ. وبِكُلِّ حَالٍ، فالمعصيَةُ إنَّما تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا منْ غيرِ مُضَاعفةٍ، فتكونُ العقوبةُ على المعصيَةِ، ولا يَنْضَمُّ إليها الهَمُّ بها، إذْ لوْ ضُمَّ إلى المعصيَةِ الهَمُّ بها لَعُوقِبَ على عملِ المعصيَةِ عُقُوبَتَيْنِ، ولا يُقَالُ: فهذا يَلْزَمُ مِثْلُهُ في عملِ الحسنةِ؛ فإنَّهُ إذا عَمِلَهَا بَعْدَ الهَمِّ بها أُثِيبَ على الحسنةِ دُونَ الهَمِّ بها؛ لأَِنَّا نقولُ: هذا مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ مَنْ عَمِلَ حسنةً كُتِبَتْ لهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَيَجُوزُ أنْ يكونَ بَعْضُ هذهِ الأمثالِ جزاءً لِلْهَمِّ بالحسنةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وقولُهُ في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ في روايَةِ مُسْلِمٍ: ((أَوْ مَحَاهَا اللَّهُ))، يَعْنِي: أنَّ عَمَلَ السَّيِّئَةِ إمَّا أنْ تُكْتَبَ لِعَامِلِهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً، أوْ يَمْحُوَهَا اللَّهُ بما شَاءَ مِن الأسبابِ، كالتَّوْبَةِ والاستغفارِ وعملِ الحسناتِ.
وقدْ سَبَقَ الكلامُ على ما تُمْحَى بِهِ السَّيِّئاتُ في شرحِ حديثِ أبي ذرٍّ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا)).
وقولُهُ بعدَ ذلكَ: ((وَلا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلا هَالِكٌ))، يَعْنِي: بعدَ هذا الفضلِ العظيمِ من اللَّهِ، والرحمةِ الواسعةِ منهُ بِمُضَاعَفَةِ الحسناتِ والتَّجَاوُزِ عن السَّيِّئاتِ، لا يَهْلِكُ على اللَّهِ إلا مَنْ هَلَكَ وأَلْقَى بِيَدَيْهِ إلى التَّهْلُكَةِ، وَتَجَرَّأَ على السَّيِّئَاتِ، وَرَغِبَ عن الحسناتِ وَأَعْرَضَ عنها. ولهذا قالَ ابنُ مسعودٍ: وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَ وُحْدَانُهُ عَشَرَاتِهِ.
وَرَوَى الكَلْبِيُّ عنْ أبي صالحٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدُهُ عَشْرًا)).
وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنَّسَائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((خَلَّتَانِ لا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: تُسَبِّحُ اللَّهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُهُ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُهُ عَشْرًا، قَالَ: فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ. وَإِذا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ تُسَبِّحُهُ وَتُكَبِّرُهُ وَتَحْمَدُهُ مِائَةً، فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ. فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟!)).
وفي (المُسْنَدِ): عنْ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَدَعْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَعْمَلَ لِلَّهِ أَلْفَ حَسَنَةٍ، حِينَ يُصْبِحُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْفُ حَسَنَةٍ، فَإِنَّهُ لَنْ يَعْمَلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَكُونُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ سِوَى ذَلِكَ وَافِرًا)). ------------------------ شرح معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (مفرغ) ------------------------ القارئ:
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إنّ الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) رواه البخاري ومسلم بهذه الحروف.
الشيخ:
قوله هنا: ((فيما يرويه عن ربه تبارك تعالى))يعني: أنَّ هذا حديث قُدسي. قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات؛ ثم بيَّن ذلك)): يعني كتبها عنده، فبيَّنها في القرآن، بيَّن العمل الذي يُكْتبُ للمرء به حسنة، وبيَّن العمل الذي يُكتبُ للمرْء به سيئة.
قال: ((فمن همَّ بحسنة فلم يعملها..)) إلخ، استُدِل به على أنَّ المَلكين اللذين يكتبان ما يصدرُ عن العبد يعلمان ما يجولُ في قلبه فالهمُّ معلومٌ للمَلك وهذا بإقدارِ الله جل وعلا لهم وإطلاعهِ إيّاهُم وإذنه بذلك، وقد كان بعض الأنبياء يعلمُ ما في نفس الذي أمامه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر رجلاً بما في نفسه، وهكذا حَصل من عدَدٍ من الأنبياء فهذا من أنواع الغيب الذي يُطلعُ الله جل وعلا إياهُ من شاء من عباده، فالملائكة أطلعهم الله جل وعلا على ذلك كما قال سبحانه: {عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} والرسول هنا يدخل فيه الرسول الملكي والرسول البشري.
قال: ((فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة..))؛ لأنَّ الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتُبُها الله جل وعلا له من رحمته ومنّه وكرمه يكتبها له حسنة.
(3) قال: ((فإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف)) يعني: أنّه إنْ همَّ بالحسنة فعمل، فأقَلُّ ما يُكتب له عشر حسنات، وقد يَصلُ ذلك إلى سبعمائة ضِعْف بحسب الحال. -وقد ذكرنا لكم تفاصيل ذلك في أوائل هذا الشرح- فإنّ المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة:
منهم: من إذا عملها كُتبت له عشر أضعاف. ومنهم: من إذا عملها كُتِبت له مائة ضعف. ومنهم: مائتا ضِعْف.
ومنهم: من تُكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضِعف، بل إلى أضعافٍ كثيرة، وهذا يختلف -كما ذكرنا- باختلاف العلم وتوقير الله جل وعلا والرَّغَب في الآخرة ولهذا كان الصحابةُ -رضوان الله عليهم- أَعظَمَ هذه الأمة أجوراً، وكانوا أعظمَ هذه الأمة منزلة. وقد ثبت عنه-عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)) يعني: أنهم مع قلة ما ينفقون وما عملوا فإنهم أعظم مما لو أنفق أحدكم، وهؤلاء في متأخري الإسلام؛ فكيف فيمن بعدهم لو أنفقوا مثل أحد ذهباً! وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين...
قال: ((وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)): (إن همّ بسيئة) يعني: أراد سيئةً فلم يعملها، فهذا فيه تفصيل:
إن تركها من جرّاء الله -جل وعلا- يعني: خشيةً لله ورغباً في ما عنده؛ فإنه تكتب له حسنة، كما ذُكر في هذا الحديث، وقد جاء في حديث آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((فإنّما تركها من جَرَّائي))، فإذا ترك السيئة -همّ بها فتركها- يعني: فلم لأنَّ إخلاصه قَلَبَ تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب له به حسنة.
والحال الثانية: أن يَهمَّ بالسيئة فلا يعملها؛ لأجْل عدمِ تمكنِه مِنْها، والنفس باقية في رغبتها بِعَملِ السيئة، فهذا وإن لم يَعمل فإنه لا تُكتبُ له حسنة بذلك، بل إن سعى في أسباب المعصية فإنه تُكتبُ عليه سيئة، كما جاء في الحديث: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا سول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنهُ كان حريصاً على قتل صاحبه)).
قال العلماء: إذا تمكن المرءُ من أسباب المعصية وصرفه صارفٌ عنها خارجٌ عن إرادته؛ فإنَّهُ يُجزى على همِّه بالسيئة سيئةً، ويكون مؤاخذاً بها بدلالة حديث القاتل والمقتول في النار.
(4) قال: ((وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)): وهذا من عظيم رحمة الله -جل وعلا- بعباده المؤمنين؛ أنهم إذا عملوا سيئة لا تُضاعَفُ عليهم، بل إنمَّا يَكتُبُها الله -جل وعلا- عليهم سيئة واحدة.
وأمّا الحسنات فتضاعَفُ عليهم، ولهذا: لا يَهْلكُ على الله يوم القيامة إلا هالك؛ لا ترجُحُ سيئات أحد على حسناته إلا هالك؛ لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، وحتى الهم بالسيئة إذا تركه تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فلا يظهر بذلك أن يزيد ميزان السيئات لعبد على ميزان الحسنات إلا وهو خاسر، وقد سعى في كثيرٍ من السيئات، وابتعد عن الحسنات، لهذا نشكر الله جل وعلا، ونحمدك ربي على إحسانك وفضلك ونعمتك على هذا الكرم وعلى هذه النعمة العظيمة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. --------------------------- العناصر ---------------------------- حديث ابن عباس رضي الله عنهما -مرفوعاً-: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) تخريج حديث ابن عباس موضوع الحديث منزلة حديث ابن عباس المعنى الإجمالي لحديث ابن عباس ذكر بعض الأحاديث في معنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما معنى قوله: (فيما يرويه عن ربه) شرح قوله: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) معنى قوله: (كتب) المراد بالحسنات في الحديث المراد بالسيئات في الحديث أنواع الكتابات التي تضمنها الحديث: النوع الأول: كتابة الحسنات المعمولة النوع الثاني: كتابة السيئات المقترفة النوع الثالث: كتابة الهم بالحسنات المرادُ بالهَمِّ هنا: العَزْمُ المُصَمِّمُ الذي يُوجَدُ مَعَهُ الحِرْصُ على العملِ فضل الهم بالحسنات شرح حديث: (...فهما في الأجر سواء) النوع الرابع: كتابة الهم بالسيئات حكم من هم بسيئة فتركها خوفاً من المخلوقين حكم مَنْ سَعَى في المَعْصِيَةِ ثمَّ عَجَزَ عنها من هم بمعصية ففترت عزيمته وانْفَسَخَتْ نِيَّتُهُ منْ غيرِ سببٍ منهُ ذكر بعض اللطائف في قوله: (وإن هَمَّ بِحَسَنةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) أَسْبَابُ مُضَاعَفَةِ الأجرِ مسألة: الهم بالمعصية في مكة الترغيب في الاستكثار من الحسنات من فوائد حديث ابن عباس رضي الله عنهما -------------------------------------- الأسئلة س1: اذكر بعض الأحاديث الواردة في معنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما. س2: ما معنى (فيما يرويه عنه ربه) وما فائدتها؟ س3: ما المراد بالحسنات والسيئات في الحديث؟ س4: تضمن الحديث أربعة أنواع من الكتابة فما هي. س5: متى تضاعف السيئة ومتى تَعْظُم؟ س6: ما المراد بالهم الذي يحاسب عليه المرء؟ س7: اشرح باختصار قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر....) الحديث. س8: من الذي يؤجر على ترك السيئة؟ س9: من ترك المعصية خوفاً من المخلوقين هل يعاقب على نية الرياء؟ س10: اذكر ستّاً من أحوال وأسباب مضاعفة الحسنة. س11: عدد بإيجاز بعض الفوائد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؟ |
|