فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
التمهيد:
لمحات من سيرة عثمان بن عفان من الولادة إلى الشهادة
هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب1ينتسب إلى بني أُميّة؛ إحدى القبائل القرشية.
ولد في مكة، بعد عام الفيل بستّ سنين على الصحيح2 ونشأ على الأخلاق الفاضلة الكريمة، والسيرة الحسنة الحميدة، وكان حيياً، شديد الحياء3 عفيف النفس، واللسان، أديب الطبع، هادئاً يتجنب إيذاء الناس، ويميل إلى الهدوء، ويكره الفوضى، والشجار، والصخب، وقد يضحّي في سبيل البعد عن ذلك ولو بحياته4.
ولحسن خلقه، ومعاملته؛ أحبته قريش حتى ضربت العرب المثل بحبها له.
وفي ذلك يقول الشعبي: "كان عثمان في قريش محبباً يوصون إليه، ويعظمونه، وإن كانت المرأة من العرب تُرقِّص صبيها وهي تقول:
أُحِبُّك والرحمن حبَّ ... قريش لعثمان5
نشأ عثمان -رضي الله عنه- وأطل على هذه الحياة، وهو بين مشركي
----------------------------
1 ابن سعد، الطبقات (3/ 53)، وابن حجر، الإصابة (2/ 462).
2 ابن حجر ، الإصابة (2/ 462).
3 ستأتي شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بأنه رجل حيي، وانظر الزهد للإمام أحمد بن حنبل (2/39)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (1/56).
4 كما سيأتي في تضحيته بنفسه وإيثاره ذلك على قتال الخارجين عليه.
5 رواه ابن الأعرابي في معجمه (ق88أ) ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان 245، من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي به.
----------------------------

قريش الذين يعبدون الأصنام، فنبذ في نفسه ما هم عليه من شرك ووثنية، وعادات قذرة.
فتجنب أرجاسهم الجاهلية، فلم يزن، ولم يقتل قط1ولما أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الله، ودخل أبوبكر الصديق في الإسلام، ذهب إلى عثمان -رضي الله عنهما- يدعوه إلى الإسلام، فتأمل عثمان في هذه الدعوة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد، وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة.
ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها2.
وإذا بالنبي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- صادق أمين، يعرف عنه كل خير، ولا يعرف عنه شر قط، فلم تُعهد عليه كذبة، ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم، وألا يعبد غير الله3.
----------------------------
1 ابن سعد الطبقات (3/ 67)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان بإسناد صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [130].
2 انظر في ذلك: وصف جعفر بن أبي طالب لما كان عليه المشركون وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في (السير والمغازي لابن إسحاق [214-215]، من رواية يونس بن بكير؛ بإسناد حسنه عادل عبد الغفور (مرويات العهد المكي من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/ 805.
3 ابن حجر، الإصابة (462.
----------------------------

فأسلم عثمان على يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام1.
فلم يدعه قومه، بل آذوه، وعذبوه مع إخوانه المؤمنين السابقين إلى الإسلام، وعدوا عليه، وفتنوهم في دينهم ليردوهم إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن يستحلوا من الخبائث، فلما ازداد عليهم الأذى والتعذيب، وقهروهم، وظلموهم وضيقوا عليهم، وحالوا بينهم وبين دينهم2خرجوا إلى الحبشة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ومعه زوجه رقية بنت النبي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنها3 فكان أول من هاجر بأهله من هذه الأمة4.
فرَّ بدينه تاركاً وطنه وأهله، في سبيل التمسك بدينه وعقيدته، مما يبين مدى إيمانه ويقينه وتعلقه بربه وآخرته.
تحمل الغربة، وفقد مركزه التجاري، ومكانته الاجتماعية، بين أهل مكة، وشخصيته المرموقة، وانتقل إلى بلاد غير بلاده لله، وفي الله لا لتجارة دنيوية، ولا لربح مادي، إنما لتجارة أخروية؛ للفوز بالجنة والنجاة
----------------------------
1 المصدر السابق.
2 السير والمغازي لابن إسحاق (214-215، من رواية يونس بن بكير؛ بإسناد حسنه عادل عبد الغفور في (مرويات العهد المكي من السيرة النبوية 2/ 805).
3 رواه البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (7/ 263).
4 ابن حجر، الإصابة (4/ 305).
----------------------------

من النار.
ثم لما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة، أقبلوا حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية -رضي الله عنهما-1.
وبقي عثمان في مكة، يلقى الأذى والقهر من أهل مكة، ولم يرده ذلك عن دينه حتى هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة النبوية ومعه الصحابة -رضي الله عنهم- فهاجر معهم عثمان، فكان ممن هاجر الهجرتين2.
وثبت -رضي الله عنه- على إيمانه، بل كان إيمانه يزداد يوماً بعد يوم، ومكث في المدينة، لا يفارقها إلا ويسارع إلى العودة إليها، فقد صحح الحافظ ابن حجر عنه أنه كان لا يودع النساء -أي: وهو خارج من مكة- إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته3.
وكان له في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانة عالية، يعرفها الصحابة - رضوان الله عليهم - وينزلونه إياها، وفي ذلك يقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان
----------------------------
1 ابن هشام (1/ 364-365).
2 رواه البخاري في صحيحه (فتح الباري 7/ 363).
3 ابن حجر، فتح الباري (2/ 571).
----------------------------

ثم نترك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نفاضل بينهم "1.
ومما يبين مكانة عثمان -رضي الله عنه- عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ذات يوم قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه (أو ركبته) فلما دخل عثمان غطاها2.
وكان ذات يوم مضطجعاً في بيت عائشة --رضي الله عنه-ا- كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبوبكر، ثم عمر، وأذن لهما، وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسوى ثيابه، فقالت له عائشة -رضي الله عنه-ا في ذلك، فقال: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة " 3.
----------------------------
1 رواه البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (7/ 53-54)؛ قال الحافظ ابن حجر: " قال الخطابي: إنما لم يذكر ابن عمر علياً لأنه أراد الشيخ وذوي الأسنان، الذين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر شاورهم، وكان علي في زمانه -صلى الله عليه وسلم- حديث السن، قال: "ولم يرد ابن عمر الازدراء به، ولا تأخيره عن الفضيلة بعد عثمان". أ.هـ ، وما اعتذر به من جهة السن بعيد لا أثر له في التفضيل المذكور، وقد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان، ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها، وغير ذلك، فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل، فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به، ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص..." (فتح الباري 7/ 58).
2 رواه البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (7/ 53).
3 رواه مسلم (4/ 1866)، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
----------------------------

وكان يقول أيضاً: "إنه رجل حيي" 1.
ولم يكتف عثمان -رضي الله عنه- بالقيام بفرائض الإسلام من صلاة وصيام ودفع الزكاة بل قدم الغالي والرخيص في سبيل نشر الإسلام، ونصرة المسلمين؛ فقد بذل في عهد رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- الكثير من ماله، نصرة للإسلام وعوناً للمسلمين.
فمن ذلك أنه لما قدم المهاجرون إلى المدينة، لم يكن بها ماء يستعذب غير بئر تُسَمَّى (رومة)2ولم يكن يومئذ مال للمسلمين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنة" ، فاشتراها عثمان -رضي الله عنه- من صلب ماله"3.
ومن ذلك ما كان منه في غزوة تبوك، فلما تهيأ النبي -صلى الله عليه وسلم- للغزوة نقصت المؤن فقال: "مَنْ جهَّز جيش العُسرة فله الجنة"، فلما سمع عثمان ذلك، وكان رجلاً موسراً جهزه.
فجاء وهو يحمل ألف دينار، فصبَّها في حِجْر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل -عليه
----------------------------
1 رواه مسلم (4/ 1867).
2 رومة: بضم الراء، وسكون الواو: أرض بالمدينة بين الجرف وزغابه، نزلها المشركون عام الخندق، وفيها بئر رومة ابتاعها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وتصدق بها. (ياقوت، معجم البلدان: 1043).
3 رواه أحمد، المسند (1/ 74-75 وبتحقيق أحمد شاكر (2/ 13-14)، وصحح إسناده، والترمذي في السنن (5/ 627-628)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 209)، وانظر: الملحق، الروايات رقم: [66] و[76] و[164].
----------------------------

الصلاة والسلام- يقلبها بيده ويقول: "ما ضَرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يُرَدِّدُهَا مِرَاراً" 1.
وشهد -رضي الله عنه- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- المواقع كلها، فلم يتخلَّف عن غزواته إلا بأمر منه في غزوة بدر.
فقد أمره بالبقاء في المدينة، لتمريض2 زوجه رقية بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وضرب له بسهم في الغنيمة والأجر، فامتثل الأمر وبقي في المدينة يمرضها، فلما توفيت3وخرج لدفنها، جاء البشير بانتصار المسلمين في بدر، فلما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجه بأختها أم كلثوم -رضي الله عنه-ا فلذلك كان يلقب بذي النورين4.
واستمر عثمان -رضي الله عنه- على ذلك طوال العهد النبوي، وكان عليه الصلاة والسلام يخبره ويخبر غيره من الصحابة رضوان الله عليهم المرة تلو الأخرى، بأن فتنة ستقع يكون فيها عثمان وأصحابه على الحق، ويشير عليهم باتباعه عند وقوعها.
----------------------------
1 رواه أحمد، المسند (4/ 75)، 5/ 63)، والحاكم في المستدرك، وقال الذهبي في التلخيص: "صحيح" (3/ 102)، ورواه الترمذي (تحفة الأحوذي 10/ 191-193) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 85)، وحسنه عبد القادر حبيب السندي في كتابه مرويات غزوة تبوك (ص: 202، 203).
2 ابن حجر، الإصابة (2/ 462).
3 ذكر ابن حجر أن مرضها هو الحصبة (الإصابة: 4/ 305).
4 ابن حجر، الإصابة (2/ 462).
----------------------------

وإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوع هذه الفتنة التي يقتل فيها عثمان -رضي الله عنه-، يُعدّ ضمن قائمة كبيرة من الحوادث التي أخبر -عليه الصلاة والسلام- في حياته بأنها ستقع بعد وفاته1 ووقع عدد منها، وما بقي منها سيقع حتماً ولو بعد حين.
ولا يدل ذلك على علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغيب فإن علم الغيب صفة من صفات الله جل وعلا، ليست لأحد من خلقه، وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينه للناس، كما أمره أن يبين للناس أنه لا يعلم الغيب المستقبل، وأنه لا اطلاع له على شيء من الغيب إلا ما أطلعه هو عليه2.
وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3.
وهذه المشيئة منه سبحانه وتعالى تعمُّ الرسول الملكي والبشري. وبذلك يفهم قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا
----------------------------
1 ذكر جملة من ذلك البيهقي في دلائل النبوة (2/ 688-713).
2 انظر في ذلك تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/ 273) و(4/ 433).
3 سورة الأعراف، الآية: (188).
----------------------------

شَاءَ} 1.
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 2.
فمما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقوع فتنة يقتل فيها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنة، فمر رجل فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ، قال: فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان"3.
ويروي كعب بن مرة4 البهزي -رضي الله عنه- قصة مشابهة لهذه القصة، فقد سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر فتنة فقرَّبها: فمرّ عثمان مقنَّعاً فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يشير إلى عثمان: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى" .
وسواء أكانت هاتان الروايتان لقصتين اثنتين أم لواحدة، فإنَّ إخبار
----------------------------
1 سورة البقرة، الآية: (255).
2 سورة الجن، الآية: (27).
3 رواه أحمد، المسند (2/ 115)، وبتحقيق أحمد شاكر (8/ 171)، والترمذي، تحفة الأحوذي (10/ 203) وصححه الحافظ ابن حجر، وأحمد شاكر، وتصحيح الحافظ له نقله المباركفوري في الموضع السابق من التحفة، انظر الملحق، الرواية رقم: [5].
4 كعب بن مرة، ويقال: مرة بن كعب السلمي، صحابي، سكن البصرة، ثم الأردن، مات سنة بضع وخمسين 4 (التقريب/ 5650).
----------------------------

النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل عثمان -رضي الله عنه- في هذه الفتنة ثابت في كلتا القصتين، وتضيف رواية كعب بأنه وأصحابه على الحق في هذه الفتنة.
مما دفع كعباً إلى زيادة التحري من الشخص المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام إلى هذا الرجل، وأخذ بضبعيه، فإذا هو عثمان بن عفان، فاستقبل به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: هذا؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هذا1.
وقد تأخرت وفاة كعب -رضي الله عنه- إلى ما بعد الخمسين من الهجرة، ولم يرد أنه حضر يوم الدار ليخبر بهذا الحديث الناس ليرجع المغرر به منهم، فلعله كان في الشام حيث إنَّ وفاته كانت فيها.
ويبدو أنَّ تحديث كعب للناس بهذا الحديث، لم يكن إلا بعد الفتنة بسنوات، نستشف ذلك من خلال رواته عنه، فقد رواه عنه كل من: محمد بن سيرين2 وعبد الله بن شقيق3 وأبو الأشعث الصنعاني4
ومحمد بن سيرين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان -رضي الله عنه-، فإذا قدرنا سماعه منه وهو في الرابعة عشرة، فإنه يكون قد حدثه به بعد الفتنة باثنتي عشرة سنة.
----------------------------
1 رواه أحمد، المسند (4/ 109)، 235-236، 242) و5/ 33، 35) وفضائل الصحابة 1/ 448-450، والترمذي في السنن، تحفة الأحوذي (10/ 198-199)، وابن ماجه، السنن (1/ 41)، وفي صحيح سنن ابن ماجه (1/ 24)، وابن الأثير، أسد الغابة (3/ 485-486)، وصححه الألباني، انظر الملحق، الروايات رقم: [6-8].
2 انظر الملحق الرواية رقم: [6].
3 انظر الملحق الرواية رقم: [7].
4 انظر الملحق الرواية رقم: [8].
----------------------------

أما رواية أبي الأشعث فجزماً بأنها كانت، بعد الفتنة، فإن مضمون الرواية ينص على أنها كانت في خلافة معاوية -رضي الله عنه-، وعبد الله بن شقيق من طبقتهما.
ومنها ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- وذلك عندما استأذن عثمان يوم الدار للحديث، فلما أذن له قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافاً، فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟، فقال: عليكم بالأمين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك" 1.
ومن هذه الروايات ما يحدد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- تاريخ وقوع هذه الفتنة وذلك فيما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تدور رحى 2 الإسلام على رأس خمس وثلاثين أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين..." 3.
----------------------------
1 رواه أحمد، المسند (4/ 105، 109ـ110، 5/ 33) بإسناد صحيح، ورواه أيضاً ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، 289، انظر الملحق الرواية رقم: [4].
2 الرحى هي: التي يطحن بها. ابن منظور، لسان العرب (14/ 312).
3 رواه أحمد، المسند (1/ 390، 393-394) وبتحقيق أحمد شاكر (5/ 263-264، 5/ 276)، وأبوداود، السنن (4/ 98)، وفي عون المعبود (11/ 327-328)، ويعقوب بن سفيان، المعرفة والتاريخ (1/ 355)، والبغوي، شرح السنة (15/ 18)، والحاكم، المستدرك (3/ 114، 4/ 521)، وابن عدي، الكامل (2/ 742)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا، وصححه أيضاً أبو الطيب آبادي، وأحمد شاكر، (عون المعبود 11/ 327-328)، والسلسلة الصحيحة (2/ 703)، وانظر الملحق الرواية رقم: [9].
----------------------------

فهذا الحديث، يدل دلالة واضحة على أن الفتنة ستقع في سنة من هذه السنوات الثلاث.
ويحتمل أن الشك إنما أتى من قبل أحد رواة الحديث، وعلى فرض صحة نسبة الشك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فالمعنى: أن ذلك يكون فيما يشاء الله عز وجل من تلك السنين.
ويحتمل أن يكون في الحديث تصحيف، وذلك بزيادة الهمزة قبل الواو، وأن الواو للعطف، فتكون هذه السنوات الثلاث كلها سني فتنة، والتاريخ يشهد لذلك فقد وقعت في هذه السنوات الثلاث، فتنة قتل عثمان -رضي الله عنه-، والفتن التي قامت في عهد علي -رضي الله عنه- وموقعة الجمل، وصفين.
وشاء الله ذلك في السنة الخامسة والثلاثين، باشتعال الفتنة التي انتهت بقتل عثمان -رضي الله عنه-1.
ومن هذه الأحاديث ما يقرن فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الفتنة بفتنة الدجال من حيث قوة اجتذابها للناس، وافتتانهم بها، وأن من ينجو منها فقد نجا.
وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة2 -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
----------------------------
1 الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 705).
2 عبد الله بن حوالة الأزدي، أبو حَوالة، صحابي نزل الشام، ومات بها سنة ثمان وخمسين هـ ، وله 72 سنة، ويقال مات سنة 80هـ، د (التقريب/ 3287)
----------------------------

قال: "من نجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات- موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه" 1.
ومعلوم أن الخليفة الذي قُتل مصطبراً بالحق، معطياً القتل، أو الحق إنما هو عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث، هو عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
وفي الحديث -والله أعلم- لفتة عظيمة، إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسياً ومعنوياً، أما حسياً فذلك يكون في زمن الفتنة، من تحريض وتأليب، وقتل وغير ذلك.
وأما معنوياً فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحدث عاماً للأمة، وليس خاصاً بمن أدرك الفتنة والله أعلم.
ومن الأحاديث التي أخبر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وقوع استشهاد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن
----------------------------
1 رواه أحمد، المسند (4/ 105، 109-110، 5/ 33، 288)، وإسناده حسن أو صحيح، ورواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، 289، انظر الملحق الرواية رقم: [4].
----------------------------

النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يبشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه1.
وما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ذات يوم على أحد2 ومعه أبوبكر، وعمر، وعثمان، فرجف الجبل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" 3.
فالنبي والصديق معروفان، ولم يبق لعمر وعثمان -رضي الله عنهما- إلا الصفة الثالثة، وهي الشهادة. فهذه شهادة من النبي -صلى الله عليه وسلم- صريحة لعثمان -رضي الله عنه- بالاستشهاد في سبيل الله، وقد تكررت هذه الشهادة في قصة أخرى مرة ثانية، وعلى جبل آخر، وهو حراء4.
----------------------------
1 رواه البخاري في صحيحه، فتح الباري (7/ 21-22، 43)، 52-53)، 10/597، 13)، 43، 220)، ومسلم في صحيحه، (ص: 1867-1869)، وأحمد، المسند (4/ 393، 407) والترمذي، السنن (5/ 631)، وأبو نعيم، حلية الأولياء (1/57-58)، والبغوي، شرح السنة (10/ 108)، وابن الأثير، أسد الغابة (3/482)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، 12، 122، 129، 133، 137-138، 140، 144، والذهبي، سير أعلام النبلاء (15/ 415)، انظر الملحق الرواية رقم: [1].
2 اسم لجبل بينه وبين المدينة النبوية قرابة ميل في شماليها، وهو أحمر اللون، وبه سميت وقعة أحد، ياقوت، معجم البلدان (1/ 109).
3 رواه البخاري في صحيحه، فتح الباري (7/ 22، 42، 53)، وأحمد، المسند (3/112)، والترمذي، السنن (5/ 624)، وأبو داود، السنن (4/ 212)، والنسائي، السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (1/ 307)، والبغوي، شرح السنة (14/ 106)، وابن الأثير، أسد الغابة (3/ 484)، انظر الملحق الرواية رقم: [2].
4 جبل من جبال مكة، يقع على ثلاثة أميال من منى، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعبد فيه قبل نزول الوحي عليه، وفيه أتاه جبريل عليه السلام، ذكره ياقوت في معجم البلدان ثم ذكر هذا الحديث وزاد أن ذلك كان في ذروة الجبل (2/ 233-234).
----------------------------

فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ذات يوم على حراء ومعه أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اهدأ فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" 1.
وتحقَّق ما قاله -صلى الله عليه وسلم- فقد استشهد كل من عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.
ولعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوع هذه الفتنة -بإخبار الله له-، ولشدة محبته لعثمان -رضي الله عنه-، وحرصه على مصالح الأمة بعده، دعاه -ذات يوم- وأخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سرِّيتها، حتى إنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان -رضي الله عنه- أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليّ عهداً، وإني صابر نفسي عليه2.
----------------------------
1 رواه مسلم في صحيحه (ص: 1880، وأحمد، المسند (2/ 419)، والترمذي في سننه، تحفة الأحوذي (10/ 186-187)، والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (9/ 411). انظر الملحق الرواية رقم: [3].
2 رواه أحمد، المسند (1/ 57-58، 69)، وبتحقيق أحمد شاكر (1/ 334، 377 )والترمذي، في سننه، تحفة الأحوذي (5/ 631، 10/ 209)، وابن ماجه، السنن (1/42)، وفي مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/ 19) وابن سعد، الطبقات (3/66-67)، وابن أبي شيبة، المصنف (15/202)، والحميدي، المسند (1/ 130)، وابن حبان في صحيحه (الاحسان في ترتيب صحيح ابن حبان9/35)، وأبو نعيم، حلية الأولياء (1/ 58)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (283- 285)، وذكره المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 59), كلهم من طريق عائشة -رضي الله عنه-ا، وصححه الكتاني وأحمد شاكر والألباني. انظر الملحق الرواية رقم: [11].
----------------------------

ويظهر من قوله هذا، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرشده إلى الموقف الصحيح، عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذاً منه -صلى الله عليه وسلم- بحجز الفتنة أن تنطلق.
وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل " 1.
ولا يدل ذلك على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عهد إلى عثمان -رضي الله عنه- بعهد فيه خلافة، أو نحوها، كما يعتقد الروافض في علي -رضي الله عنه-، بل مضمون هذا العهد الذي ذكره عثمان -رضي الله عنه- يتعلق بالفتنة، والوصية بالصبر فيها وعدم الخلع كما تقدم.
وإن كان يفهم من هذه الأحاديث بأنه سيكون خليفة يوماً ما.
ويبدو أن هناك وصايا، وإرشادات تتعلق بهذه الفتنة، انفرد بمعرفتها عثمان -رضي الله عنه-، وذلك محافظة من النبي -صلى الله عليه وسلم- على السرِّية فيها، ومما
----------------------------
1 جاء ذلك في رواية الحميدي، والترمذي، وابن ماجه؛ المتقدمة في الحاشية السابقة، وهي زيادة صحيحة، فإن راويها عند الحميدي هو: سفيان بن عيينة.
----------------------------

يبين ذلك أنه أمر عائشة -رضي الله عنه-ا بالانصراف1 عندما أراد الإسرار بها لعثمان -رضي الله عنه-.
كما أنه أسرَّ إليه إسراراً، رغم خلو المكان من غيرهما، حتى تغير لونه، مما يدل على عظم المسرِّ به، وربط عائشة -رضي الله عنه-ا هذا الإسرار بالفتنة دليل واضح على أن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها.
فإنها -رضي الله عنه-ا كانت تسمع بعضاً منها، وفي ذلك تقول: فلم أحفظ من قوله إلا أنه قال: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل"2.
وهذا دليل على أن الإسرار تضمن توجيهات منه -صلى الله عليه وسلم-، إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع عليه.
وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتصر فيه على الإخبار بوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك علانية - كما تقدم - فإسراره يدل على أن هذا الإسرار، تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظة على سريتها لحكمة اقتضت ذلك الله أعلم بها.
وهذا الحديث يفسر لنا جلياً سبب إصرار عثمان على رفض القتال
----------------------------
1 فقد قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تنحي"، ومعنى التنحي الانصراف. الفيروز آبادي، القاموس المحيط (4/ 396)، وابن منظور، لسان العرب (15/ 311).
2 انظر الملحق الرواية رقم: [11].
----------------------------

أثناء الحصار كما يفسر أيضاً سبب رفضه للتنازل عن الخلافة، وخلعها، عندما عرض القوم عليه ذلك.
وهما موقفان طالما تساءل الباحثون عن السبب الذي أدى عثمان إليهما واستشكلوهما.
وهذا كله يفرض علينا زيادة في الاحتياط، والتحفظ عند الحديث عن مواقف عثمان -رضي الله عنه- يوم الدار، إذ قد تكون تلك المواقف عملاً بنصائح وإرشادات النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل إن بعضها يُجزم بأنه كذلك، كما في رفض الخلع.
هذا ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تتعلق بفتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وقد رُويت أحاديث أخرى، تَبَيّن لي بعد تحقيقها أنها ساقطة الأسانيد لا تصلح للاستدلال بها1.
ولا شك أن عثمان -رضي الله عنه- بعد سماعه لهذه الأحاديث، أيقن بتحقق ذلك يوماً ما، وإن طال الزمان، فكان ينتظر وقوعه بين حين وآخر.
أنّه سيقتل ظلماً في فتنة تشتعل في خلافته، ويكون فيها على الحق هو وأصحابه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى باتباعه عند وقوع هذه الفتنة، إنها أخبار تخص عثمان -رضي الله عنه- تفرحه فرحة مشوبة بالقلق، فمتى وكيف
----------------------------
1 وقد خصصت لها موضعاً خاصاً في الملحق، لدراستها وكشف عللها، وذلك من الرواية رقم: [12] إلى الرواية رقم: [21].
----------------------------

سيكون ذلك؟
عثمان -رضي الله عنه- رجل عاقل، حيي -بل شديد الحياء-، لم ينازع في الإمارة لا في جاهلية وفي إسلام، فلم ينازع أشراف مكة الرئاسة، ولم يطمع فيها، فإن خلقه، وسمته يأبيان عليه ذلك، ورغم ذلك فإنه سيكون أميراً، -وإن كره- لم تدفعه تلك الأخبار إلى التتوق، والتطلع إلى الخلافة، فلم يناقش، ولم ينازع عندما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتقدم بما معه من أدلة على أنه سيكون خليفة –يوما ما- بإخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل بايع مع باقي المسلمين أبا بكر الصديق، ثم عمر -رضي الله عنه-ا؛ فإنه يعلم فضلهما عليه وأحقيتهما بالخلافة قبله، وأنه لم يحن وقته.
وقضى أيام خلافتيهما، وهو على أحسن سيرة، حتى استشهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، على يد مجوسي حاقد1.
وفي تلك الآونة بدأ المجتمع الإسلامي يصيبه بعض التغيير، فالإسلام انتشر وغزا بلاد الفرس، والروم، وفتحت بلادهم، وتظاهر بعض منهم بالإسلام، وأبطنوا الكفر، وكانوا يخططون لهدم الإسلام، والوقيعة بأهله، فكان من ذلك استشهاد عمر -رضي الله عنه- على يد أحدهم.
وفي أثناء مرض عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على إثر طعنة ذلك العلج المجوسي، دخل عليه عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- فقالوا له:
----------------------------
1 وهو: أبو لؤلؤة المجوسي، انظر تاريخ الإسلام للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين (ص: 281).
----------------------------

أوص يا أمير المؤمنين: استخلف.
قال: "ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر -أو الرهط- الذين توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض" فسمَّى عثمان وعلياً والزبير، وطلحة، وسعداً، وعبد الرحمن.
وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة.
وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم.
وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يَقبل من محسنهم، وأن يُعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم.
وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويُرد على فقرائهم.
وأوصيه بذمة الله، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفون إلا طاقتهم.
فلما قبض، خرج الصحابة -رضي الله عنهم- به فانطلقوا يمشون، فسلم عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: يستأذن عمر بن الخطاب.
قالت: أدخلوه1 فأُدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه. فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط.
فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف.
فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان2فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم.
فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن.
ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق. قال: ارفع يدك يا

----------------------------

1 وذلك أن عمر -رضي الله عنه- في أثناء اشتداد المرض عليه أرسل ابنه عبد الله إلى عائشة أم المؤمنين --رضي الله عنه-ا - ليقول لها: يقرأ عليك عمر السلام... ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي. (صحيح البخاري مع فتح الباري 7/ 60-61.
2 لعل عثمان -رضي الله عنه- خشي إن تبرأ من هذا الأمر أن يكون بذلك قد عصى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال له فيه: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عزوجل فلا تفعل" كما سيأتي.
----------------------------

عثمان، فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه1.
وفي رواية أخرى للبخاري -أيضاً- أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال لأهل الشورى:
لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم. فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن، حتى لم ير أن أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحوا منها، بايعوا عثمان -رضي الله عنه-.
وفي هذه الرواية يقول المسور بن مخرمة -رضي الله عنه-: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث2بكثير نوم. انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني، فقال: ادع علياً، فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ الليل3.
ثم قام علي من عنده، وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً. ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند
----------------------------
1 رواه البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (7/ 60-62).
2 أي الليال الثلاث؛ منذ اجتماع أهل الشورى الأول إلى ليلة بيعة عثمان بالخلافة.
3 أي: انتصف (ابن منظور، لسان العرب 4/ 81).
----------------------------

المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد -وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر- فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أمَّا بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً. فقال: أبايعك على سنة الله، وسنة رسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن بن عوف، وبايعه المهاجرون، والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون1.
اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على بيعة عثمان بن عفان بالخلافة، وفي ذلك يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "استخلفنا خير من بقي ولم نأله"2.
تولى الخلافة -رضي الله عنه-، وكان على خير حال، وعلى درجة قوية من الإيمان، فقد كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة فلا تبكي! وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه"3
----------------------------
1 رواه البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (13/ 193-194).
2 ابن سعد، الطبقات (3/ 63)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (207) وإسناده صحيح.
3 رواه أحمد، الزهد (ص: 42، والترمذي، السنن (4/ 553)، وابن ماجه، السنن (2/ 1426)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2/ 421)، وفي صحيح الترمذي (2/ 267).
----------------------------

وكان يطيل التهجد1.
ولعله توقع قرب تحقق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، مما دفعه إلى أن يلين في سياسته مع الناس، ويتخذ من المسامحة منهجاً في التعامل مع الرعية، تجنباً للفتن، وتخفيفاً من وطأتها إن وقعت، لأنها ستقع حتماً، لإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعها.
سار -رضي الله عنه- على هذه السياسة طوال فترة خلافته، ومع ذلك تحقق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ووقعت الفتنة المنتظرة.
وذلك في آخر عام من خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
أترى كيف وقعت، وما موقف عثمان فيها؟ وما مواقف الصحابة -رضي الله عنهم- عند اشتعالها؟ فيما يلي تفصيل لأحداث هذه الفتنة؛ مبنية على الروايات الصحيحة والحسنة الواردة فيها.
----------------------------
1 ابن سعد، الطبقات ( 3/ 75-76)، والزهد للإمام أحمد بن حنبل (ص: 40)، وغيرهما، وإسناده حسن، انظر الملحق الروايات رقم: [90-92].
----------------------------