المبحث الثالث: الموت والتكفين
أولاً: الموت في التصور الإسلامي
كان قضاء الله وقدره أن يعيش الإنسان عمراً زائلاً في الدنيا، ثم يعيش عمراً خالداً في الآخرة: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) (سورة الحجر: الآية 23)، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران: الآية 145).

واليوم الآخر ركن أساسي من الأركان الستة للإيمان، لذا اهتم به القرآن الكريم والسنة النبوية، واستفاضاً في الحديث عنه، بدءاً بالموت، وانتهاءً بالمآل الذي ينتهي إليه كل إنسان، إما إلى الجنة ونعيمها، أو إلى النار وعذابها، وكما أن للحياة حكمة، فإن للموت حكمة وغاية كذلك، وتكتمل الحكمتان في اختبار الإنسان، وامتحانه، ثم خلوده في حياة أخرى باقية، لذلك نزع الإسلام الخوف والوهن من الموت من صدور المسلمين، وأنزل السكينة بدلاً منها، بل إن الإسلام حبب الموت في سبيل الله إلى الناس، ورغبهم فيه.

عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2606)، كما يعتبر الموت بالنسبة إلى المؤمن ولادة جديدة.

يقول تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (سورة الملك: الآية 2).

ويؤمن المسلمون إيماناً جازماً أن ساعة الموت لكل حي، لا يعلمها إلا الله، وأن يوم القيامة استأثر الله وحده بعلمه، ضمن مفاتيح الغيب؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة لقمان: الآية 34).

1.          فضل ذكر الموت والاستعداد له
الموت عند المسلمين جسر بين حياتين: حياة الدنيا الفانية، وحياة الآخرة الباقية، والدنيا مزرعة للآخرة، فمن عمل صالحاً في دنياه، نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة، وكان من الخالدين في جنان الله.          

ومَنْ عمل سوءاً -غير الشرك بالله، والموت على ذلك- كان من المُعَذَّبِينَ في نار جهنم، إلا أن يعفو الله عنه.          

والموت انتقال من عالم لآخر، وليس فناء، وإنما هو مفارقة الروح للبدن.

ويُسْتَحَبُّ لكل مؤمن ذكر الموت والاستعداد له لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَازمِ اللَّذَّاتِ) (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2229)، والهاذم: القاطع، وبالمهملة (الدال) معناه المزيل للشيء من أصله، فَإِنَّهُ مَا كَانَ فِي كَثِيرٍ إِلّا قَلَّلَهُ, وَلا قَلِيلٍ إِلا جَزَلَهُ.

ويجب الاستعداد للموت: بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، والإقبال على الطاعات، لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (سورة الكهف: الآية 110).

وكذلك كتابة وصيته، عملاً بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2533).

فعلى المسلم أن يُعرِّف أهله بما له وبما عليه من ديون الناس، أو حقوق الله تعالى كالزكاة والحج والنذر وكفارة اليمين وفدية الصوم ونحوها، وأن يبادر بسدادها قبل موته.

وإلا فعلى أهله الإسراع بسدادها، وخاصة ديون العباد.

وإذا شعر الإنسان بدنو أجله يُسْتَحَبُّ أن يدعو ربه بأن يتوفاه مع الأبرار: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) (سورة آل عمران: الآية 193).

2.          التداوي
قال العز بن عبدالسلام: "الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام".

وقد عُلم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي، وأن حكمه في الأصل الجواز لمقاصد الشرع في حفظ النوع الإنساني، ولكن قيل: بل إن أحكام التكليف الخمسة تنسحب عليه.

فمنه ما هو واجب، وهو ما يعلم حصول بقاء النفس به لا بغيره.

ولذلك يختلف حكم التداوي باختلاف الغاية منه:

أ.          حفظ الصحة الموجودة.
ب.          إعادة الصحة المفقودة بقدر الإمكان.
ج.          إزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان.
د.          تحمل أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما.
هـ.          تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما.


ولقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتداوي في قوله: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3376).

وقال كذلك: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ) (مسند أحمد، الحديث الرقم 4015).

والتداوي لا ينافي التوكل على الله؛ لأن التداوي من قدر الله، مثلما أن الداء من قدر الله، فهو رد القدر بالقدر.

ومن التداوي الرُقية الشرعية: قال ثابت لأنس بن مالك: يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس: أفلا أرقيك برقية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: بلى، قال أنس: (أَذْهِبْ الْبَأسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5302).

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2700).

3.          كراهية تمني الموت

يكره تمني الموت لضر نزل بالمرء في بدنه، أو ضيق في دنياه، أو نحو ذلك.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5239).

ولا يكره تمني الموت لضرر في الدين أو خوف فتنة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3157).

وتمني الشهادة في سبيل الله ليس من تمني الموت المنهي عنه.

لأنه تمني لنصرة دين الله ورفع كلمته، ودفع النفس في سبيل الله.

4.          الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى
ويجوز أن يخبر المريض بما أصابه من الوجع، ولو لغير طبيب، بلا شكوى، بعد أن يحمد الله؛ لما روي عن ابن مسعود: "إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك".

ويُسْتَحَبُّ أن يصبر المريض وكل مبتلى، للأمر به في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) (سورة النحل: الآية 127)، وقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة الزمر: الآية 10)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (والصَبْرُ ضياء) (صحيح مسلم، الحديث الرقم 328).

كما ينبغي أن يكون المريض حسن الظن بالله؛ لما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: (لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّن) (صحيح مسلم، الحديث الرقم 5124).

ومعناه أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك كرماً ورحمة ومسامحة؛ لأنه سبحانه أكرم الأكرمين يعفو عن السيئات، ويقبل العثرات، فعلى المريض أن يقدم الرجاء على الخوف لما جاء في الحديث القدسي: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2310).

وفي رواية: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ) (مسند أحمد، الحديث الرقم 8715).

5.          توبة اليأس، وإيمان اليأس
وإذا كان الإنسان في إدبار من الدنيا، وإقبال على الآخرة، وبدأ الموت يسري في عروقه، وكانت الغرغرة، ويأس من الحياة، فتاب إن كان فاسقاً، أو آمن إن كان كافراً، فما حكم هذه التوبة؟ وهل يصبح مؤمناً بإيمانه في هذه الحالة؟

قال بعض العلماء على أن إيمان اليأس من الحياة لا يُقبل، وذلك لقوله تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (سورة غافر: الآية 85)، واليأس معاينة أسباب الموت، بحيث يعلم قطعاً أن الموت يدركه لا محالة، كإيمان فرعون.

وقال البعض الآخر، وهو القول الرَّاجح، يُقبل الإيمان لحديث: (أَنَّ غُلامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2691).

أمَّا توبة اليأس.
فقال جمهور العلماء:
إن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس لعدم الاختيار، وعدم توافر ركن التوبة، وهو العزم بطريق التصميم على ألا يعود، في المستقبل، إلى ما ارتكب من المعاصي.

والمختار عند الحنفية:
إن توبة اليأس مقبولة، لا إيمان اليأس؛ لأن الكافر غير عارف بالله، ويبدأ إيماناً وعرفاناً جديداً، والفاسق عارف، والأصل بقاء الحال، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3460)، والغرغرة تكون قرب كون الروح في الحلقوم، وحينئذ فلا يمكن النطق.

والذي يوافق روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها هو ما ذهب إليه الأحناف لأن في ذلك إحسان الظن بالله تبارك وتعالى.

ثانياً: أحكام الموتى في الشريعة الإسلامية
1.          أحكام المُحْتَضِر
أ.          تعريف المُحْتَضِر
هو من حضره الموت وملائكته.

والمُراد من قرب موته، ظهور علامات الاحتضار، كما أوردها الفقهاء، أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان ويعوج أنفه، وينخسف صدغاه، ويمتد جلد خصيتيه لانشمار الخصيتين، وتمتد جلدة وجهه فلا يرى فيها تعطف.

ب.          توجيهه نحو القبلة
يضجع المُحْتَضِر على جنبه الأيمن إلى القبلة، إتباعاً للسُّنَّة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عن البيت الحرام: (قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) (رواه أبو داود، الحديث الرقم 2490).

ولقول حذيفة، -رضي الله عنه-: "وجِّهُونِي" يقصد إلى القبلة، وقول السيدة فاطمة الزهراء، -رضي الله عنها-، لأم رافع: (يَا أُمَّهْ اسْكُبِي لِي غُسْلًا فَسَكَبْتُ لَهَا غُسْلاً فَاغْتَسَلَتْ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُهَا تَغْتَسِلُ ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ أَعْطِينِي ثِيَابِيَ الْجُدُدَ فَأَعْطَيْتُهَا فَلَبِسَتْهَا ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ قَدِّمِي لِي فِرَاشِي وَسَطَ الْبَيْتِ فَفَعَلْتُ وَاضْطَجَعَتْ وَاسْتَقْبَلَتْ الْقِبْلَةَ وَجَعَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ خَدِّهَا ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ إِنِّي مَقْبُوضَةٌ الآنَ إِنِّي مَقْبُوضَةٌ الآنَ وَقَدْ تَطَهَّرْتُ فَلا يَكْشِفُنِي أَحَدٌ) (رواه الإمام أحمد، الحديث الرقم 26333).

فإن تعذَّر ذلك لضيق المكان ونحو ذلك، يوضع مستلقياً على قفاه، ووجهه وقدماه نحو القبلة؛ لأنه أيسر لخروج روحه.

وإن شق عليه تُرك على حاله.

ويُسَنُّ تجريع المُحْتَضِر بماءٍ بارد بملعقة، أو قطنة مثلاً.

ج.          تلقين الميت الشهادة
وهي أن يقول القريب من الميت: "لا إله إلا الله"، لحديث: (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) (صحيح مسلم، الحديث الرقم 1523).

وينبغي أن لا يُلِحَّ عليه في ذلك، وأن لا يقول له قل لا إله إلا الله؛ خشية أن يضجر فيقول: لا أقول، أو يتكلم بغير هذا من الكلام القبيح، ولكن يقولها للميت يُسْمِعُهُ إيَّاهَا، مُعرضاً له ليفطن فيقولها، وإذا أتى بالشهادة مَرَّةً لا يُعاود ما لم يتكلم بعدها بكلام آخر.

والأمر بهذا أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار على المُحْتَضِر؛ لئلا يضجر لضيق حاله وشِدَّةِ كربه.

ويأخذ من الحديث استحباب الحضور عند المُحْتَضِر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينه والقيام بحقوقه.

د.          قراءة يس
ويُسْتَحَبُّ أن يقرأ عند المُحْتَضِر سورة يس لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2714).

وإن كان بعض العلماء يُضعِّف هذا الحديث، ويرى أن العمل به بدعة.

2.          ما ينبغي فعله بعد الموت
أ.          ما ينبغي فعله بجسم الميت
اتفق الفقهاء على أنه إذا مات الميت شُد لحياه، وغمضت عيناه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على أبي سلمة، وقد شق بصره  فأغمضه وقال: (إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ) (مسند أحمد، الحديث الرقم 16513)، ويتولّى أرفق أهله به إغماضه، بأسهل ما يقدر عليه، ويشد لحياه بعصابة عريضة يشدها في لحيه الأسفل ويربطها فوق رأسه.

ويقول مُغَمِّضِه:
بسم الله وعلى ملة رسول الله.
اللهم يسر عليه أمره، وسهل عليه ما بعده.
وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج منه.


ويُليِّن مفاصله، ويرد ذراعيه إلى عضديه، ويرد أصابع كفيه، ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدها، وهو أيضاً مما اتفق عليه.

ويُسْتَحَبُّ أن ينزع عنه ثيابه التي مات فيها، ويسجى جميع بدنه بثوب، (فعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5367)، ويترك على شيء مرتفع من لوح أو سرير، لئلا تصيبه نداوة الأرض فيتغيَّر ريحه.

ويجعل على بطنه حديد أو طين يابس، لئلا ينتفخ، وهذا متفق عليه في الجملة.

ب.          الإعلام بالموت
يُسْتَحَبُّ أن يعلم جيران الميت وأصدقاؤه حتى يؤدوا حقه بالصلاة عليه والدعاء له، روى سعيد بن منصور عن النخعي: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه، إنما يكره أن يُقال في المجلس: أنعي (فلاناً)؛ لأن ذلك من فعل أهل الجاهلية، وروي نحوه باختصار عن ابن سيرين، وإليه ذهب الحنفية والشافعية.

وكره بعض الحنفية النداء في الأسواق، قال في النهاية: إن كان عالماً، أو زاهداً، فقد استحسن بعض المتأخرين النداء في الأسواق لجنازته، وهو الأصح، ولكن لا يكون على هيئة التفخيم، وينبغي أن يكون بنحو، مات الفقير إلى الله تعالى فلان بن فلان فاسعوا في جنازته، ويشهد له أن أبا هريرة كان يؤذن بالجنازة فيمر بالمسجد فيقول: عبدالله دُعِيَ فأجاب، أو أمَةُ الله دُعِيَتْ فأجابت.

وعند الحنابلة لا بأس بإعلام أقاربه وإخوانه من غير نداء.

وقال ابن العربي من المالكية:
يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سُنَّة.
والثانية: الدَّعوة للمُفاخرة بالكثرة فهذا مكروه.
والثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنّياحة ونحو ذلك فهذا مُحَرَّم.


فالنعي منهيٌ عنه اتفاقاً، وهو أن يركب رجلٌ دابة يصيح في الناس أنعي فلاناً، أو أن ينادى بموته، ويُشَادُ بمفاخره، وبه يقول الحنفية والشافعية.

ج.          قضاء الدين
يُسْتَحَبُّ أن يُسارع إلى قضاء دينه أو إبرائه منه، وبه قال أحمد لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: (نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) (سنن الترمذي، الحديث الرقم 998)، وفي الحديث الحَثُّ للورثة على قضاء دين الميت، سواءً كان الدَّيْنُ للعباد، أو لله تعالى من نحو زكاة، أو حج، أو نذر، أو كَفَّارَةٍ، أو غيرها.

وقال الحنابلة: إن تعذر الوفاء استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، والكفالة بدين الميت قال بصحتها أكثر الأئمة، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه لا تصح عنده الكفالة بدين على ميت، مفلس، وإن وعد أحد بأداء دين الميت صح عنده.

وهذا الحديث مقيد بمن له مال يقضي منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء؛ فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من دان بدين في نفسه وفاؤه تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء) (أخرجه الطبراني).

د.          تجهيز الميت
اتفق الفقهاء على أنه إن تيقن الموت يبادر إلى التجهيز ولا يؤخر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2747)، وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة، وينتظر من مات فجأة بنحو صعقة، أو من شك في موته، حتى يعلم بانخساف صدغيه... إلخ.

وبه يقول المالكية ففي مقدمات ابن رشد: يُسْتَحَبُّ أن يؤخر دفن الغريق مخافة أن يكون الماء غمره وهو لا يزال حياً.

هـ.          ما لا ينبغي فعله بعد الموت
تُكْرَهُ عند الحنفية قراءة القرآن عند الميت حتى يغسل، وأمَّا حديث معقل بن يسار مرفوعاً: (اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ) (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2714)، فقال ابن حبان: المُرَادُ به مَنْ حضره الموت.

كما يَحْرُمُ فعل من أفعال الجاهلية، كلطم الخُدُود، وشق الثياب، والدُّعاء بدعوى الجاهلية، ويُكْرَهُ وضع المصحف عند رأسه.

و.          تغسيل الميت
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تغسيل الميت فرض كفاية؛ بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين، والدليل حديث أم عطية عند موت زينب، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1175), وفي رواية: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا) (صحيح البخاري، الحديث الرقم 162).