سورة فصلت
تفسير السورة خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(نـال شــرف تنسيــق هـــذه الســورة الكريمــة: أحمد محمد لبن)
سورة فصلت
http://ar.assabile.com/read-quran/surat-fussilat-41
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قلنا: (حم) من الحروف المقطعة، وقد حام العلماء حول معاني هذه الحروف وهذه المحاولات إرضاءً لشهوة البحث في العقل، ولكن الإيمان غير ذلك، فالإيمان يأخذ القضية مُسلَّمة، وما دام الله قد قالها فقد انتهت المسألة.
ولذلك سيدنا أبو بكر الصديق ساعةَ قالوا له: إن صاحبك يدَّعي أنه فعل كذا وكذا قال: أَو قَاله رسول الله؟
قالوا: نعم، قال: فقد صدق يعني: هذه مسألة فوق البحث، ولا مجالَ لإعمال العقل فيها لأن لها رصيداً من الصدق يجعلها فوق البحث.
ولقد ذكرنا سابقاً خلاصة القول في هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي يذكر الله فيها اسم الحرف، لأن كلَّ حرف له اسم وله مُسمَّى، فالألف مثلاً اسمه الألف ومُسمَّاه أَ - أُ - إِ.
الاسم لا يَنطق به إلا المتعلم، فالأمي لا يَعْرف الباء والتاء والثاء، لكنه ينطق بها حين يتكلم.
إذن: ينطق الأُميّ مُسمَّى الحرف، ولا يعرف اسمه بدليل أننا حينما نُعلِّم الأولاد نقول لهم: تهجّ هذه الكلمة، فيقول: ك ت ب.
أما الأمي فينطقها كتب دون أنْ يعرفَ حروفها ولا هجاءها.
اتفقنا على هذه المسألة.
اذكروا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أُمياً، فما الذي أفهمه أن (ح) اسمها حاء، و (م) اسمها ميم، بدليل أنك تقرأ في أول سورة البقرة (الم) ألف لام ميم.
أما في أول الشرح فتقول: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح: 1) فلماذا قرأتها في البقرة هكذا، وفي الشرح هكذا؟
أنت قرأت في البقرة اسم الحرف، أما في الشرح فقرأتَ مُسمَّى الحرف، وهذه لا يفرق بينها إلا متعلم، فمَنْ علَّم محمداً هذه المسألة، والحروف هي نفس الحروف بنفس الترتيب؟
شيء آخر: أن الحروف المقطعة في القرآن أخذت نصف حروف الهجاء، حروف الهجاء معروف أنها ثمانية وعشرون حرفاً، أخذتْ منها الحروفُ المقطعة أربعة عشر حرفاً موزَّعة توزيعاً عجيباً، وما زال العلماء حائرين في فهم معانيها.
ففي الحروف التسعة الأولى لم يذكر منها إلا حرفين: الألف والحاء.
وفي الحروف التسعة الأخيرة جاء منها سبعة فقط، ولم يأتِ حرفان على عكس الأولى، أما العشرة في الوسط فقد أخذ منها غير المنقوط وترك المنقوط، فأخذ السين وترك الشين، وأخذ الصاد وترك الضاد، وأخذ الطاء وترك الظاء، وأخذ العين وترك الغين، إذن: هي مسألة مدروسة ليست رتابة، إنما هي بنظام وحكمة مثل أسنان المفتاح، فهي دقة مقصودة.
ثم ترى أنه سبحانه مرة يأتي في أول السورة بحرف واحد مثل: ص، ق.
ومرة حرفين مثل: حم، ومرة ثلاثة مثل: الم، ومرة أربعة مثل: المر، وخمسة مثل حمعسق، كهيعص.
إذن: المسألة حكمة مقصودة ليستْ هكذا دون نظام، لها مقصد، مقصد يضع الله فيه حَدَّ الخلاف بين الحروف وباقي الكلام، كيف؟
قالوا: الحروف المقطعة تنطقها أسماء، ولا بدَّ أنْ تقف فيها فلا تقول مثلاً: ألفٌ لامٌ ميمٌ هكذا بالوصل.
إنما تقول: ألف وتسكت.
لام وتسكت.
ميم وتسكت.
مع أن القرآن كله في مُجْمله مَبنيٌّ على الوصل لا على الوقف، تقول في سورة (الرحمن): (مُدْهَآمَّتَانِ) (الرحمن: 64) هكذا بالكسر ليتم الوصل بما بعدها: (فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 13).
حتى آخر كلمة في القرآن في سورة (الناس) تقول: (مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ) (الناس: 6) لتبدأ بعدها وتُوصلها بـ: (بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 1-2).
أما الحروف المقطَّعة فجاءت مبنية على الوقف، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف, ولام حرف، وميم حرف“.
إذن: في الحروف المقطَّعة مقاصد وحِكَم ما يزال العلماء يحاولون التوصل إلى شيء منها، كلٌّ حسب ما فتح الله عليه منها، أما هي فكنز باقٍ لا ينفد يعطينا منه الحق سبحانه على قدرنا.
يقولون: القرآن جاء معجزةً أسلوبية بلاغية، وأمة العرب مشهورة بالفصاحة والبلاغة، ومع ذلك ما استطاعوا محاكاة القرآن ولا الإتيان بمثله، مع أن الله جاء به بلغتهم وبنفس حروفهم وتعبيراتهم، وتحدَّاهم بهذا كله، فلم يستطيعوا الإتيان ولو بآية واحدة من مثله.
وكأن الله يقول لهم: معكم نفس الحروف ونفس الكلمات، فلماذا لم تنسجوا منها مثل نسجي؟
إذن: وجه الإعجاز هنا أنه سبحانه وتعالى هو المتكلم بالقرآن، هو الذي صاغه وتكلم به.
وأيضاً، والمعنى الذي يجب أنْ يسودَ في هذا كله، أن الحق سبحانه أنزل لنا عقائد وأحكاماً صدرتْ ممن اعتقدته وآمنتَ به، وقرآن يدل على ذلك، هذه ثلاثة: العقائد وهي الإيمان بالوجود الأعلى وواجب الوجود، وأن له صفات الكمال المطلقة: الأول والآخر والظاهر والباطن.. إلخ.
لأن هذه يُقام عليها دليل عقلي.
فهذا الكون البديع المحكم لا بدَّ له من خالق قادر حكيم عليم.. إلخ...
فالعقل يؤيد هذه العقيدة ويثبتها، لكن ليست هذه كل العقائد، بل هناك سمعيات لا يقوم عليها دليل عقلي لأنها غيبيات كما نقول مثلاً: في الجنة كذا وكذا، وصفتها كذا وكذا.
ومثلها كذلك عذاب القبر، هذه غيبيات، نعم لا يقوم عليها دليل من العقل، إنما هي محمية فيما له دليل عقلي، فما دُمتَ قد آمنتَ بهذا الإله، ودلَّكَ العقل عليه، فخذ ما أخبرك به دون أنْ تناقشها، فقط تقف عند سماعها.
كذلك الأحكام مثل الصلاة، وأنها إدامة الولاء لله تعالى، والزكاة للاستطراق المالي والاقتصادي في المجتمع، كذلك الحج لبيت الله الحرام.
وهكذا.
فالأحكام أيضاً فيها جانب عقلي وجانب سمعي، فالصلاة كعبادة لله ودليل ولاء للمعبود سبحانه هذا أمر عقليٌّ، أما كيفيتها وعدد ركعاتها فهذا أمر سمعي نأخذه كما هو ولا نناقشه، كذلك كل العبادات.
والأحكام فيها أمر عقلي يُفهم، وأمر سمعي يُؤخذ مُسلَّماً به، فإنْ قلت: كيف نقف عند أمور في الدين لا تُناقش.
نقول: نعم لأن هذا الوقوف في أمور الغيبيات هو دليلُ إيمانك بالله، لأن الأمور العقلية يستوي فيها كل الناس.
قلنا: لو عندك مبلغ تخاف عليه السرقة مثلاً، ووضعتَه تحت حجر في الحديقة، وجاء آخر الشهر وأردتَ مثلاً أن تعطي خادمك راتبه من هذا المال.
تقول له: يا فلان ارفع هذا الحجر وهاتِ ما تحته، فيقول لك: لا أقدر على رفعه وحدي، وسأنتظر فلاناً يرفعه معي، تقول له: اعلم أن تحته الكيس الذي به النقود التي ستأخذ منها راتبك، عندها يذهب ويرفع الحجر وحده.
أما إنْ قلتَ لشخص آخر: ارفع هذا الحجر فرفعه دون علة.
فهل يستوي في طاعتك هذا وهذا؟
كذلك أمر العقائد، فَرْق بين مَنْ يؤمن بالأمور العقلية الحسية، ومَنْ يؤمن ويصدق حتى بالأمر الغيبي الذي تخبر به.
كذلك الحال في العقائد وفي الأحكام وفي القرآن كُلٌّ فيه الأمر العقلي والأمر الغيبي، وعليك أن تحمل الأمور الغيبية على الأمور العقلية.
والقرآن الكريم -وهذا هو موضوعنا- فيه كلام عقلي يُفهم بالعقل، وحروف لا يُفهم معناها إلا أن الله قالها، ولذلك نقول فيها: والله أعلم بمراده.
وقوله: (حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) (فصلت: 1-2) أنا أقول أن (حم) هذه هي التي يقول الله عنها (تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) (فصلت: 2) وما دامتْ تنزيلاً من الرحمن الرحيم، فإياك أنْ تخوض فيها وتقول: ماذا تعني، أو أنها مبهمة.. إلخ.
لا بل قف عندها وخُذْها على أن لله فيها مراداً وهو أعلم به.
واعلم أنه سبحانه يقول بعدها: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ..) (فصلت: 3) ففي القرآن إذن الأمران: الأمر الغيبي الذي ينبغي الوقوف عنده مثل (حم)، وهذه الغيبيات هي مجالُ اختبار الإيمان، ثم يعطيك أيضاً الأمر العقلي المفهوم يُفصِّله لك تفصيلاً.
كلمة (تَنزِيلٌ..) (فصلت: 2) من نزول الشيء، والنزول يكون من مكان عالٍ إلى مكان منخفض عنه، أو من مكانة عليا إلى مكانة أدنى، وهذه المادة جاءت كثيراً تدل على نزول القرآن والمنهج من أعلى، وجاءت بكل الاشتقاقات: تنزيل، نزل، ننزل، نزَّلناه، أنزلنا: (وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ..) (الإسراء: 105) وقال: (تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (القدر: 4).
لذلك ساعة تسمع كلمة (تَنزِيلٌ..) (فصلت: 2) تعلم أن الذي جاءك من أعلى منك منزلة حتى لو كانت مكانته عندك، وتحت رجليك كما قال في الحديد: (وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ..) (الحديد: 25) فالحديد معلوم أنه من الأرض من حيث نشأته وتكوينه، لكنه مُنزَّل من أعلى من حيث خالقه وواهبه لك.
إذن: فكل هذه الاشتقاقات من (نزل) تدل على علو الشيء المنزَّل، ومُنزَّل مِنْ مَنْ؟
(مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) (فصلت: 2) فيجب أن تتلقى هذا المنزَّل إليك بالتسليم المطلق والقبول، لذلك سيدنا أبو بكر لما قالوا له: إن صاحبك يدَّعي أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء لم يناقش هذه المسألة عقلياً.
إنما قال لهم: إنْ كان قال فقد صدق.
فجعل قَوْل الله هو الأساس، فإنْ حدث منه القول فهو صادق، لذلك منذ هذا اليوم لُقِّب بالصدِّيق.
مع أن الإسراء آية أرضية وفيه جانب عقلي، لأن المسافة معلومة لهم، وكيفية السفر إلى بيت المقدس معلومة زماناً ومكاناً، ومع ذلك لم يناقش فيها.
أما المعراج فهو أمر غيبيٌّ، فكأنه جعل تصديق محمد فيما يعلمون في الأرض وسيلة لتصديقه فيما لا يعلمونه في السماء.
ونفهم أيضاً من قوله تعالى: (تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) (فصلت: 2) أن التكليف الذي نزَّله الله لك لم يأتِ ليشقَّ عليك، إنما هو من رحمن بك واسع الرحمة، رحمته وَسِعَتْ كل شيء المؤمن والكافر.
و (الرحيم) يعني: دائمَ الرحمة لأن رحمته تعالى تنسحب وتدوم حتى في الآخرة، فإنْ رأيتَ في التنزيل تكليفاً تظنه يشق عليك، فلا تفهم أنه من قاسٍ عليك، إنما هو من رحمن رحيم.
رحمن بك، لأنه يدلُّك على ما يسعد دنياك ويسعد آخرتك، بدليل أنه سبحانه حين يكلفنا بأمور قد تشقّ على النفس العادية لا يستفيد من هذا التكليف، فسواء أن تكفر أو أن تؤمن، تصلي أو لا تصلي، لأنه سبحانه بصفة القدرة موجود، وإنْ لم تؤمن به وإنْ لم تُصَلِّ.
فعملك إذن لا علاقة له بالله من حيث النفع، العملية لصالحك أنت كما تقول لولدك مثلاً: إذا نجحت هذا العام سأشتري لك كذا وكذا.