أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: شرح الحديث رقم (46) الإثنين 30 مايو 2011, 2:11 pm | |
| زيادات ابن رجب: ح46 ----------------------- 46- عَنْ أبي بُردَةَ، عن أَبيه أبي مُوسى الأشعَريِّ، أنَّ النبَّيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ، فَسألَهُ عَن أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِها، فَقالَ: ((وَمَا هِيَ؟)). قالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ. فَقِيلَ لأَبي بُرْدَةَ: وَمَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ العَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعيرِ. فَقالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)). خَرَّجَه البُخاريُّ. ------------------------------------- جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ------------------------------------- (1) وخَرَّجَهُ مسلمٌ، ولفظُه: قالَ: (بَعَثَنِي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أَنَا وَمُعاذٌ إِلى اليَمَنِ، فَقُلْتُ: يا رسولَ اللَّه، إِنَّ شَرابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنا يُقالُ لَهُ: الْمِزْرُ، مِنَ الشَّعيرِ، وَشَرابٌ يُقالُ لَهُ: الْبِتْعُ، مِنَ العَسَلِ) فقالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
وفي روايةٍ لمسلِمٍ: فقالَ: ((كُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاَةِ فَهُوَ حَرَامٌ))، وفي روايةٍ له قالَ: (وكان رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قَدْ أُعْطِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ بِخَواتِمِهِ) فقالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاَةِ)).
هذا الحديثُ أصلٌ في تحريمِ تَناوُلِ جميعِ الْمُسكراتِ، الْمُغَطِّيَةِ للعقلِ، وقد ذَكَرَ اللَّهُ في كتابِه العلَّةَ الْمُقْتَضِيةَ لتحريمِ الْمُسكراتِ، وكان أوَّلَ ما حُرِّمتِ الخمرُ عندَ حضورِ وقتِ الصَّلاةِ لَمَّا صلَّى بعضُ المُهاجِرينَ، وقرأَ في صلاتِه، فخَلَطَ في قِراءتِه، فنَزَلَ قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فكان مُنادِي رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يُنادِي: لا يَقْرَبُ الصَّلاةَ سَكرانُ، ثم إنَّ اللَّهَ حَرَّمَها على الإطلاقِ بقولِه تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90،91].
فذَكَرَ سبحانَهُ عِلَّةَ تحريمِ الخمرِ والْمَيسرِ، وهو القِمارُ، وهو أنَّ الشَّيطانَ يُوقِعُ بهما العَداوةَ والبَغضاءَ، فإنَّ مَنْ سَكِرَ، اخْتَلَّ عقلُه، فرُبَّما تَسَلَّطَ على أَذَى النَّاسِ في أنفسِهم وأموالِهم، وربما بَلَغَ إلى القتلِ، وهي أمُّ الخبائثِ، فمَن شَرِبَها، قَتَلَ النَّفْسَ وزَنَى، وربما كَفَرَ.
وقد رُوِيَ هذا المعنى عن عُثمانَ وغيرِه، ورُوِيَ مَرفوعًا أيضًا.
ومَن قامَرَ، فربما قُهِرَ، وأُخِذَ مالُه منه قَهْرًا، فلم يَبْقَ له شيءٌ، فيَشتدُّ حِقْدُه على مَن أَخَذَ مالَه.
وكلُّ ما أَدَّى إلى إيقاعِ العَداوةِ والبَغضاءِ كان حَرامًا، وأَخْبَرَ سبحانَه أنَّ الشَّيطانَ يَصُدُّ بالخمرِ والْمَيْسِرِ عن ذِكْرِ اللَّهِ وعن الصَّلاةِ؛ فإنَّ السَّكرانَ يَزولُ عقلُه، أو يَختلُّ، فلا يَستطيعُ أن يَذْكُرَ اللَّهَ، ولا أنَ يُصلِّيَ، ولهذا قالَ طائفةٌ مِنَ السَّلفِ: إنَّ شاربَ الخمْرِ تَمُرُّ عليه ساعةٌ لا يَعْرِفُ فيها رَبَّه، واللَّهُ سبحانَه إنما خَلَقَ الخلْقَ ليَعرِفوهُ، ويَذكروهُ، ويَعبدوهُ، ويُطِيعوهُ، فما أدَّى إلى الامتناعِ مِن ذلك، وحالَ بينَ العبدِ وبينَ مَعرِفةِ ربِّه وذِكْرِه ومُناجاتِه، كان مُحَرَّمًا، وهو السَّكْرُ.
وهذا بخِلافِ النَّوْمِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى جَبَلَ العِبَادَ عليه، واضْطَرَّهم إليه، ولا قِوامَ لأبدانِهم إلاَّ به؛ إذ هو راحةٌ لهم مِن السَّعيِ والنَّصَبِ، فهو مِن أَعظمِ نِعَمِ اللَّهِ على عِبادِه، فإذا نامَ المؤمِنُ بقَدْرِ الحاجةِ، ثم استيقظَ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ومُناجاتِه ودُعائِه، كان نومُه عَوْنًا له على الصَّلاةِ والذِّكْرِ، ولهذا قالَ مَن قالَ مِن الصَّحابةِ: إني أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كما أَحتسبُ قَوْمَتِي.
وكذلك الْمَيْسرُ يَصُدُّ عن ذِكرِ اللَّهِ وعنِ الصَّلاةِ، فإنَّ صاحبَه يَعْكُفُ بقلبِه عليه، ويَشتغلُ به عن جَميعِ مَصالِحِه ومَهَمَّاتِه، حتى لا يَكادَ يَذْكُرُها لاستغراقِه فيه، ولهذا قالَ عليٌّ لَمَّا مَرَّ على قومٍ يَلْعَبونَ بالشِّطْرِنْجِ: (ما هذه التَّماثيلُ الَّتي أنتم لها عاكِفون؟ فشَبَّهَهُم بالعاكِفينَ على التَّماثيلِ).
وجاءَ في الحديثِ: ((إِنَّ مُدْمِنَ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ)) فإنَّه يَتعلَّقُ قلبُه بها، فلا يَكادُ يُمْكِنُه أن يَدَعَها كما لا يَدَعُ عابدُ الْوَثَنِ عِبادتَهُ.
وهذا كلُّه مُضَادٌّ لِما خَلَقَ اللَّهُ العِبادَ لأجْلِه مِنْ تفريغِ قلوبِهم لِمَعرفتِه، ومَحبَّتِه، وخَشْيَتِهِ، وذِكْرِه، ومُناجاتِه، ودُعائهِ، والابتهالِ إليه، فما حالَ بينَ العبدِ وبينَ ذلك، ولم يكنْ بالعبدِ إليه ضرورةٌ، بل كان ضَررًا مَحْضًا عليه كان مُحَرَّمًا.
وقد رُوِيَ عن عليٍّ أنَّه قال لِمَن رآهُمْ يَلعبونَ بالشِّطرنجِ: (ما لهذا خُلِقْتُمْ).
ومِن هنا يُعْلَمُ أنَّ الْمَيْسِرَ مُحَرَّمٌ، سواءٌ كان بعِوَضٍ أو بغيرِ عِوَضٍ، وإنَّ الشِّطْرَنْجَ كالنَّرْدِ أو شرٌّ منه؛ لأنَّها تَشغلُ أصحَابَها عن ذِكْرِ اللَّهِ، وعن الصَّلاةِ أكثرَ مِنَ النَّرْدِ.
والمقصودُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ فَهُوَ حَرَامٌ)).
وقد تَواتَرَتِ الأحاديثُ بذلك عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: فخَرَّجَا في (الصَّحِيحَيْنِ) عن ابنِ عمرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)) ولفظُ مُسْلِمٍ: ((وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
وخَرَّجَا أيضًا مِن حديثِ عائشةَ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم سُئِلَ عن الْبِتْعِ، فقالَ: ((كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ)).
وفي روايةٍ لمسلِمٍ: ((كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) وقد صَحَّحَ هذا الحديثَ أحمدُ ويحيى بنُ مَعينٍ، واحتَجَّا به.
ونَقلَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ إجماعَ أهلِ العلمِ بالحديثِ على صِحَّتِهِ، وأنه أَثْبَتُ شيءٍ يُرْوَى عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم في تحريمِ الْمُسْكِرِ.
وأمَّا ما نَقَلَه بعضُ فُقهاءِ الحنفيَّةِ عن ابنِ مَعينٍ مِن طَعْنِهِ فيه، فلا يَثْبُتُ ذلك عنه.
وقد خَرَّجَ مسلمٌ مِن حديثِ أبي الزُّبيرِ، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
وإلى هذا القولِ ذَهَبَ جُمهورُ عُلماءِ المسلمينَ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومَن بَعْدَهم مِن عُلماءِ الأمصارِ، وهو مَذهبُ مالكٍ، والشَّافعيِّ، واللَّيثِ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، ومُحَمَّدِ بنِ الحسنِ، وغيرِهم، وهو ممَّا اجْتَمَعَ على القولِ به أهلُ المدينةِ كلُّهم.
وخالَفَ فيه طوائفُ مِنْ عُلماءِ أهلِ الكوفةِ، وقالُوا: إنَّ الخَمْرَ إنَّما هي خَمْرُ العِنَبِ خاصَّةً، وما عداها، فإنما يَحْرُمُ منه الْقَدْرُ الذي يُسْكِرُ، ولا يَحْرُمُ ما دُونَه، وما زالَ عُلماءُ الأمصارِ يُنْكِرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مُجْتَهِدِينَ مَغفورًا لهم، وفيهم خَلْقٌ مِنْ أئمَّةِ العلْمِ والدِّينِ.
قالَ ابنُ المبارَكِ: (ما وَجَدْتُ في النَّبيذِ رُخصةً عن أَحَدٍ صحيحٍ إلا عن إبراهيمَ، يعني النَّخَعِيَّ، وكذلك أَنكرَ الإمامُ أحمدُ أن يكونَ فيه شيءٌ يَصِحُّ، وقد صَنَّفَ كتابَ (الأَشْرِبَةِ) ولم يَذكرْ فيه شيئًا مِن الرُّخْصَةِ، وصَنَّفَ كتابًا في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ، وذَكَرَ فيه عن بعضِ السَّلَفِ إنكارَه، فقيلَ له: كيف لم تَجعلْ في كتابِ الأَشربةِ الرُّخصةَ كما جَعَلْتَ في الْمَسْحِ؟ فقالَ: ليس في الرُّخصةِ في الْمُسْكِرِ حديثٌ صحيحٌ).
ومما يَدُلُّ على أنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خمرٌ أنَّ تحريمَ الخمْرِ إنما نَزَلَ بالمدينةِ بسَبَبِ سؤالِ أهلِ المدينةِ عمَّا عندَهم مِن الأَشربةِ، ولم يكنْ بها خَمْرُ العِنَبِ، فلو لم تَكنْ آيةُ تحريمِ الْخَمْرِ شاملةً لِما عِندَهم، لَمَا كان فيها بيانٌ لِمَا سَأَلُوا عنه، ولَكانَ مَحَلُّ السَّببِ خارجًا مِنْ عُمومِ الكلامِ، وهو مُمْتَنِعٌ، ولَمَّا نَزَلَ تحريمُ الخمْرِ أَراقُوا ما عندَهم مِن الأَشْرِبَةِ، فَدَلَّ على أنهم فَهِمُوا أنَّه مِنَ الخَمْرِ المأمورِ باجتنابِه.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن أَنَسٍ، قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَليلاً، وَعَامَّةُ خَمْرِنا البُسْرُ وَالتَّمْرُ).
وعنه أنه قالَ: (إِنِّي لأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا دُجانةَ، وسُهَيلَ بنَ بَيْضاءَ خليطَ بُسرٍ وتَمْرٍ إذْ حُرِّمَتِ الخمْرُ، فَقَذَفْتُها، وَأَنَا سَاقِيهم وَأَصْغَرُهُم، وَإِنَّا نَعُدُّها يَوْمئذٍ الخَمْرَ).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عنه قالَ: (ما كانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الفَضيخَ).
وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عنه قالَ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيها الخَمْرَ، وَمَا بِالمَدِينَةِ شَرابٌ يُشْرَبُ إِلاَّ مِنْ تَمْرٍ).
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن ابنِ عمرَ، قال: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَإِنَّ بِالمَدينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا مِنْهَا شَرابُ العِنَبِ).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن الشَّعْبِيِّ، عن ابنِ عمرَ، قالَ: (قامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسٍ: العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ).
والخمرُ: ما خامَرَ العقلَ.
وخَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرمذيُّ مِن حديثِ الشَّعْبِيِّ، عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم.
وذَكَرَ التِّرمذيُّ أنَّ قولَ مَن قالَ: عن الشَّعبيِّ، عن ابنِ عمرَ، عن عمرَ أَصَحُّ، وكذا قالَ ابنُ الْمَدِينِيِّ.
ورَوَى أبو إسحاقَ عن أبي بُرْدَةَ، قالَ: (قالَ عُمَرُ: ما خَمَّرْتَه فعَتَّقْتَه، فهو خَمْرٌ، وأنَّى كانتْ لنا الخمْرُ خَمْرَ العِنَبِ).
وفي (مسنَدِ الإِمامِ أحمدَ) عن المختارِ بنِ فُلفلٍ قالَ: (سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ عن الشُّربِ في الأوْعِيَةِ فقالَ: نَهَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم عَن الْمُزَفَّتَةِ وقالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) قلتُ له: صَدَقْتَ السُّكْرُ حرامٌ، فالشَّرْبةُ والشَّربتانِ على طَعامِنا، قال: الْمُسْكِرُ قليلُه وكثيرُه حرامٌ وقالَ: الخمرُ مِن العنبِ والتمرِ والعسلِ والْحِنطةِ والشعيرِ والذُّرَةِ، فما خَمَّرْتَ مِن ذلك فهو الخمرُ).
خَرَّجَهُ أحمدُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ إدريسَ: سَمِعْتُ المختارَ بنَ فُلفلٍ يقولُ، فذَكَرَه، وهذا إسنادٌ على شرطِ مسلِمٍ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ) عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ)) وهذا صريحٌ في أنَّ نبيذَ التَّمرِ خَمْرٌ وجاءَ التَّصريحُ بالنَّهيِ عن قليلِ ما أَسْكَرَ كثيرُه.
كما خَرَّجَهُ أبو داوُدَ، وابنُ ماجةَ، والتِّرمذيُّ، وحسَّنَهُ مِن حديثِ جابرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَليلُهُ حَرَامٌ)).
وخَرَّجَ أبو دَاوُدَ، والتِّرمذيُّ، وحَسَّنَه مِن حديثِ عائشةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ)).
وفي روايةٍ: ((الْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ)) وقد احْتَجَّ به أحمدُ، وذَهَبَ إليه. وسُئِلَ عمن قالَ: إنَّه لاَ يَصحُّ؟ فقال: هذا رجلٌ مُغْلٍ، يعني أنه قد غَلا في مَقالَتِه.
وقد خَرَّجَ النَّسائيُّ هذا الحديثَ مِن روايةِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم مِن وُجوهٍ كثيرةٍ يَطولُ ذِكْرُها.
وروى ابنُ عَجلانَ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، حَدَّثَنِي أبو وَهبٍ الجيشانيُّ (عن وَفْدِ أهلِ اليمنِ أنهم قَدِموا على النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فسَأَلُوه عن أَشربةٍ تكونُ باليَمنِ، قال: فسَمَّوْا له الْبِتْعَ مِنَ الْعَسَلِ، والْمِزْرَ مِنَ الشَّعِيرِ، قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((هَلْ تَسْكَرُونَ مِنْهَا؟)) قالُوا: إِنْ أَكْثَرْنَا سَكِرْنَا، قالَ: ((فَحَرَامٌ قَلِيلُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ))) خَرَّجَهُ القاضي إسماعيلُ.
وقد كانتِ الصَّحابةُ تَحْتَجُّ بقولِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) على تحريمِ جميعِ أنواعِ الْمُسكراتِ، ما كان مَوجودًا منها على عهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم وما حَدَثَ بعدَه، كما سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ عن البَاذِقِ، فقالَ: سَبَقَ محمَّدٌ البَاذِقَ، فما أَسْكَرَ فهو حرامٌ.
خَرَّجَهُ البخاريُّ، يُشيرُ إلى أنَّه إن كان مُسْكِرًا، فقد دَخلَ في هذه الكلمةِ الجامعةِ العامَّةِ.
واعلَمْ أنَّ الْمُسْكِرَ الْمُزيلَ للعقلِ نوعانِ:
أحدُهما: ما كان فيه لَذَّةٌ وطَرَبٌ، فهذا هو الخَمرُ المُحَرَّمُ شُرْبُه.
وفي (المسنَدِ) عن طَلْقٍ الحَنَفيِّ (أنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي شَرَابٍ نَصْنَعُهُ بِأَرْضِنَا مِنْ ثِمَارِنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم): ((مَنْ سَائِلٌ عَنِ الْمُسْكِرِ؟ فَلا تَشْرَبْهُ، وَلا تَسْقِهِ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ بالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ- لا يَشْرَبُهُ رَجُلٌ ابْتِغَاءَ لَذَّةِ سُكْرِهِ، فَيَسْقِيهِ اللَّهُ الْخَمْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
قالَ طائفةٌ مِن العُلماءِ: وسواءٌ كان هذا الْمُسكِرُ جامدًا أو مائعًا، وسواءٌ كان مَطْعومًا أو مَشروبًا، وسواءٌ كان مِن حَبٍّ أو ثَمَرٍ أو لَبَنٍ، أو غيرِ ذلك، وأَدْخَلوا في ذلك الحَشِيشةَ التي تُعمَلُ من وَرَقِ القِنَّبِ، وغيرِها ممَّا يُؤْكَلُ لأَجْلِ لَذَّتِه وسُكْرِه.
وفي (سُننِ أبي دَاوُدَ) من حديثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أمِّ سَلمةَ، قالتْ: ((نَهَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ))
والْمُفَتِّرِ: هو الْمُخَدِّرُ للجسدِ، إن لم يَنْتَهِ إلى حدِّ الإسكارِ. والثَّاني: ما يُزيلُ العقلَ ويُسْكِرُ، ولا لَذَّةَ فيه ولا طَرَبَ، كالبَنْجِ ونحوِه، فقالَ أصحابُنا: إنْ تناوَلَهُ لحاجةِ التَّداوِي به، وكان الغالبُ منه السَّلامةَ جازَ.
وقد رُوِيَ عن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ (أنَّه لَمَّا وَقَعت الآكِلَةُ في رِجْلِه، وأَرادوا قَطْعَها، قالَ له الأطباءُ: نَسقيكَ دواءً حتَّى يَغيبَ عقلُك، ولا تُحِسَّ بألمِ القَطْعِ، فأبى، وقالَ: ما ظَننتُ أنَّ خَلْقًا يَشْرَبُ شرابًا يَزولُ منه عقلُه حتَّى لا يَعرِفَ ربَّهُ).
ورُوِيَ عنه أنه قالَ: (لا أَشربُ شيئًا يَحولُ بيني وبينَ ذِكْرِ رَبِّي عزَّ وجلَّ).
وإن تَناوَلَ ذلك لغيرِ حاجةِ التَّداوِي، فقالَ أكثرُ أصحابِنا كالقاضي، وابنِ عَقيلٍ، وصاحبِ (الْمُغْنِي): (إنَّه مُحَرَّمٌ؛ لأنَّه تَسَبُّبٌ إلى إزالةِ العقلِ لغيرِ حاجةٍ، فحُرِّمَ كشُرْبِ الْمُسْكِرِ).
وروى حَنَشٌ الرَّحبيُّ -وفيه ضَعفٌ- عن عِكرمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا: ((مَنْ شَرِبَ شَرَابًا يَذْهَبُ بِعَقْلِهِ، فَقَدْ أَتى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ)).
وقالتْ طائفةٌ، منهم ابنُ عَقيلٍ في (فنونِه): (لا يَحرُمُ ذلك؛ لأنَّه لا لَذَّةَ فيه، والخمرُ إنَّما حُرِّمتْ لِما فيها مِنَ الشِّدَّةِ الْمُطرِبَةِ، ولا إطرابَ في البَنْجِ ونحوِه ولا شِدَّةَ).
فعلى قولِ الأكثرينَ: لو تَناوَلَ ذلك لِغيرِ حاجةٍ، وسَكِرَ به، فطَلَّقَ، فحُكْمُ طلاقِه حُكْمُ طلاقِ السَّكرانِ، قاله أكثرُ أصحابِنا كابنِ حامدٍ والقاضي، وأصحابِ الشَّافعيِّ.
وقالتِ الحنفيَّةُ: لا يَقعُ طلاقُه، وعَلَّلُوا بأنَّه ليس فيه لَذَّةٌ، وهذا يَدُلُّ على أنَّهم لم يُحرِّمُوه.
وقالتِ الشَّافعيَّةُ: هو مُحرَّمٌ، وفي وُقوعِ الطَّلاقِ معه وَجهانِ.
وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يَقعُ طَلاَقُه بخِلافِ السَّكرانِ، وتأوَّلَه القاضي، وقال: (إنَّما قالَ ذلك إلزامًا للحنفيَّةِ، لا اعتقادًا له، وسِياقُ كلامِه مُحْتَمِلٌ لذلك).
وأمَّا الحدُّ، فإنما يَجِبُ بتناوُلِ ما فيه شِدَّةٌ وطَرَبٌ منَ الْمُسْكِراتِ؛ لأنَّه هو الذي تدعو النُّفوسُ إليه، فجُعِلَ الحدُّ زاجِرًا عنه.
فأمَا ما فيه سُكْرٌ بغيرِ طَرَبٍ ولا لذَّةٍ، فليس فيه سوى التَّعزيرِ؛ لأنه ليس في النُّفوسِ داعٍ إليه حتى يَحتاجَ إَلى حَدٍّ مُقدَّرٍ زاجرٍ عنه، فهو كأكلِ الْمَيْتَةِ ولحمِ الخِنزيرِ، وشُرْبِ الدَّمِ.
وأكثرُ العلماءِ الذين يَرَوْنَ تحريمَ قليلِ ما أَسكرَ كثيرهُ يَرَوْنَ حَدَّ مَنْ شَرِبَ ما يُسكِرُ كثيرُه، وإن اعْتَقَدَ حِلَّه مُتَأَوِّلاً، وهو قولُ الشَّافعيِّ وأحمدَ، خِلافًا لأبي ثَوْرٍ، فإنَّه قالَ: لا يُحَدُّ لِتَأَوُّلِه، فهو كالنَّاكحِ بلا وَلِيٍّ.
وفي حدِّ النَّاكحِ بلا وَلِيٍّ خلافٌ أيضًا، لكنَّ الصَّحيحَ أنه لا يُحَدُّ، وقد فَرَّقَ مَن فَرَّقَ بينَه وبينَ شُربِ النَّبيذِ مُتَأَوِّلاً بأنَّ شُربَ النَّبيذِ المختلَفِ فيه داعٍ إلى شُربِ الخمرِ المجمَعِ على تحريمِه بخِلافِ النَّاكحِ بغيرِ وَلِيٍّ، فإنَّه مُغْنٍ عن الزِّنَى الْمُجْمَعِ على تحريمِه، ومُوجِبٌ للاستعفافِ عنه.
والمنصوصُ عنَ أحمدَ أنَّه إنَّما حَدَّ شاربَ النَّبيذِ مُتَأَوِّلاً؛ لأنَّ تأويلَه ضَعيفٌ لا يُدْرَأُ عنه الْحَدُّ به، فإنه قالَ في روايةِ الأَثرمِ: يُحَدُّ مَن شَرِبَ النَّبيذَ مُتَأَوِّلاً، ولو رُفِعَ إلى الإمامِ مَن طَلَّقَ الْبَتَّةَ، ثم راجَعَها مُتَأَوِّلاً أنَّ طلاقَ الْبَتَّةِ واحدةٌ، والإِمامُ يَرى أنَّها ثلاثٌ لا يُفَرَّقُ بينَهما، وقالَ: هذا غيرُ ذاك، أَمْرُه بَيِّنٌ في كتابِ اللَّهِ، وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، ونَزَلَ تحريمُ الخمرِ وشرابُهم الفَضيخُ، وقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ))، فهذا بَيِّنٌ، وطَلاقُ الْبَتَّةِ إنَّما هو شيءٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فيه. --------------------- الأسئلة ---------------------- س1: بين منـزلة حديث أبي موسى رضي الله عنه؟ س2: اذكر بعض الأحاديث الواردة في معنى حديث أبي موسى رضي الله عنه. س3: كيف ترد على من زعم أن الخمر المحرمة هي ما كانت من العنب فقط؟ س4: اذكر مراحل تحريم الخمر مع الاستدلال؟ س5: ما حكم لعب القمار إذا تراضى الطرفان؟ س6: ما حكم لعب الشطرنج؟ س7: ما حكم متناول النبيذ إذا كان متأولاً؟ س8: ما حد شارب الخمر من العنب ومن غيره؟ س9: هل الخلاف القوي في المسألة يدرأ الحد؟ س10: ما حكم ما يسكر ولا لذة فيه ولا طرب كالبنج؟ ---------------------- |
|