مصادر الإشاعة:
منشأ الإشاعة وأساسها غالبًا ما يكون:
خبرًا من شخص.
أو خبرًا من جريدة.
أو خبرًا من مجلة.
أو خبرًا من إذاعة.
أو خبرًا من تلفاز.
أو خبرًا من رسالة خطية.
أو خبرًا من شريط مسجَّل.
فهذه الوسائل هي طرق تناقل الأخبار بين الناس وانتشارها بينهم.
ولذا على ناقل الخبر أن يتروى ويتثبت في كل ما يقال، وليحذر أن يبادر بالتصديق الفوري؛ فإن الأصل البراءة التامة، وتلك الإشاعة ناشئة طارئة، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى تقوم الأدلة الواضحة على ذلك.
أنواع الإشاعة:
تختلف الإشاعة حسب اختلاف الشخص المنقول عنه أو الأشخاص المنقول عنهم.
فتارة تكون الإشاعة مدحًا، وتارة تكون ذمًا، وتارة تكون خليطًا بين النوعين.
وتارة تكون غريبة أي في سياق وقائعها حتى تكون في عداد المستحيلات، لكن تلقف الناس وتناقلهم لها جعل المستحيل أمرا ممكن الوقوع.
مرد الإشاعة “المشاع منه”:
كثرة الإشاعات وتنوعها تدل على تنوع المشاع عنهم.
فتارة يكون الشيء المشاع عنه:
شخصًا موسومًا بالخير والصلاح، أو شخصًا على العكس من ذلك.
أو حدث غريب وهو أنواع كثيرة، وبعض الأحداث شديدة الغرابة إلى حد كبير وضابطها: أمر يستحيل وقوعه، أو يكاد يكون مستحيلاً.
ما الفائدة من ترويج الإشاعة:
مروج الإشاعة لا يخلو مراده من مقاصد عدة: الأول:
“النصح” بمعنى أن ترديده لتلك الإشاعة في مجلسه أو مجالسه إنما هو بدافع الحرص على نصح ذلك المشاع عنه.
ولست بصدد بيان صحة هذا الأسلوب من خطئه.
فهذا سيأتي بحثه.
إنما الشاهد أن هذه طريقة بعض الناس في ترويج الإشاعة بدعوى النصح للمشاع عنه كما يزعم.
الثاني: الشماتة:
وذلك بأن يكون الدافع والمحرك لنشر الإشاعة وترويجها بين الناس إنما هو الشماتة بصاحبها والوقيعة فيه، عياذاً بالله من هذا.
الثالث: “الفضول”
وهذا حال أغلب المروجين للإشاعة، فإن إصغاء السامعين لحديثه وأشخاصهم بأبصارهم إليه وتشوقهم لسماع كل ما يقول دافع من أعظم الدوافع لنقل الإشاعة، هذا إن سلم –ولا يكاد إلا من رحم الله– من التزيد في الكلام؛ بغية تشويقهم وتعلقهم بما يقول.
الرابع:“قطع أوقات المجالس بذكرها”.
فمن المعلوم المشاهد أن كل الحاضرين أو أغلبهم في المجلس يريد أن يدلي بدلوه للمشاركة في الكلام والنقاش –ولو كان عقيمًا- ويرى السكوت نقصًا في حقه، فتراه يذكر هذه الإشاعة بقصد المشاركة في الحديث بغض النظر عما يترتب عليه نقله ذاك.
ذات الإشاعة وناقلها والمنقول إليه والمنقولة عنه:
أما ذات الإشاعة:
فإن من الإشاعات ما يتفق العقلاء على بطلانه.
أو كما يقال: “سقوطها يغني عن إسقاطها” و “بطلانها يغني عن إبطالها”.
فهذا النوع من الإشاعات الاشتغال به دليل على نقص عقل ناقلها.
ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد لكان هينًا لكن قد يتعداه إلى القدح في معتقد ناقل الإشاعة، وذلك كأن تكون الإشاعة تكذيبًا لشيء ورد القرآن بتصديقه، أو على العكس من ذلك.
كبعض الشائعات التي تخرج بين فينة وأخرى بأن القيامة تقوم في اليوم الفلاني بالتاريخ الفلاني، أو بأن فلانًا من الناس يموت في وقت كذا في يوم كذا في مكان كذا، وما شاكل ذلك فهذا كله من الرجم بالغيب الذي ما أنزل له من سلطان.
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (17).
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (18).
وبكل حال فنقل الإشاعة بدون تروٍ ولغير مصلحة يؤدي إلى مفاسد كثيرة.
قال سيد قطب رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ...﴾ (19).
(والصورة التي يرسمها هذا النص هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر.
وفي النتائج التي تترتب عليها وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ولم يدركوا جدية الموقف وأن كلمة عابرة وفلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو –ربما– لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك وإذاعتها حين يتلقاها لسان عن لسان سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة..) (20).
وقال أيضًا رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ قال: (وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ لسان يتلقى عن لسان بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم! إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك وقبل أن تتلقاها العقول...) (21).
أمَّا ناقل الإشاعة:
فيلزمه أمور منها: أولاً:
أن يتقي الله تعالى في نفسه، ويراقبه في كل ما يقول ويفعل.
ثانيًا:
أن يتذكر أنه محاسب على كل كلمة يقولها.. قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ...﴾.
وقال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “كفي بالمرء –كذبًا أو إثما– إن يحدث بكل ما يسمع”.
ثالثًا:
أن يكون قصده سليمًا لا لوث فيه، كأن يستغل ذكر الإشاعة للتنفيس عن نفسه مما يجد في صدره عن المنقول عنه، فليحذر المسلم من هذا المسلك المشين: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.
وعلى هذا فلزامًا على المسلم أن يصلح قلبه وقالبه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومتى ما علم الله ذلك منه فسيرى ويلقى من الله ما يحب ويرضى.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (22).
رابعًا:
أن يتروى ويتثبت في كل ما يقول، وأن يحذر من التزيد في الكلام وأن لا ينقل إلا ما كان متأكدا من سماعة أو رؤيته؛ حتى تبرأ ذمته.
وإليك هذا المثال الذي يبين لك كيف كان الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أتقى الناس بعد الأنبياء والرسل يتحرون ويتثبتون في نقل الأخبار وهم من هم في العدالة والصدق، والأمانة فعن أبي شريح -رضي الله عنه- أنه قال لعمر بن سعيد هو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به.. الخ (23).
هذا هو الشاهد من الحديث تَثبُّتٌ ما بعده تَثبُّتتٌ وتَوثُّق ما بعده تَوثُّق.
خامسًا:
أن يكون مقصده من نقل الإشاعة التأكد من صحتها إلى المنقول عنه:
فعليه أن يبين هذا لمن يستمع إليه حتى يستنير بآرائهم حول هذا الخبر.
سادسًا:
على ناقل الإشاعة أن يفرق بين المجالس التي يرتادها أو الجليس الذي قد يجالسه وقت حدث الإشاعة.
فما كل مجلس يصلح.
بل إن بعض المجالس قد تزيد في ترويج الإشاعة وعلى أوجه مختلفة، فيتسع الخرق على الراقع.
وهذه المجالس هي التي يحضرها الغوغاء من الناس.
وأولئك مضرتهم راجحة على منفعتهم إن صح أن عندهم نفعًا في مجالسهم تلك.
وأسوق هنا دليلاً واحدًا يبين لنا كيف كان الصحابة -رضي الله عنهم- يعرفون المقام الملائم لكل كلام.
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (24) أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أراد أن يقوم مقامًا للناس يتكلم فيه عن خبر بلغه يطعن في خلافة الصديق -رضي الله عنه- حيث تمَّت له البيعة في عجلة من الأمر – فلما همَّ عمر بالقيام ذلك اليوم قال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسُّنَّة؛ فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنًا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة...”.
فتدبَّر أخي رعاك الله هذا الكلام، واجعله نصب عينيك ثم انظر كيف أشار عبد الرحمن على عمر رضي الله تعالى عنهما بتأخير الكلام عن تلك القضية مع بالغ أهيمتها وحساسيتها؛ درءً للمفسدة التي يتوقع حدوثها.
وما كان من عمر –وهو هو– إلا أن يأخذ بهذا الرأي السديد الرشيد، فأخَّر كلامه حتى قدم المدينة على صاحبها أتم الصلاة والتسليم.
فرضي الله عن صحابة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فلنعم المعلم هو ولنعم المتعلمون هم.
سابعًا:
على ناقل الإشاعة أن يحث المنقول لهم على التثبت والتروي والتأكد في نقلهم عنه؛ لأنه المصدر الأصلي لهم، وكل كلام يخرج منهم فمحسوب عليه ومنسوب له.
قال عمر -رضي الله عنه- عندما أراد أن يقول مقالة له -وقد سبق ذكرها- قال -رضي الله عنه-: “أمَّا بعد.. فإني قائل لكم مقالة قد قدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمَنْ عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومَنْ خشي أن لا يعقلها فلا أحِلُّ لأحَدٍ أن يكذب علي” (25).