أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة الزمر الآيات من 56-60 الأحد 25 أبريل 2021, 5:11 pm | |
| أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله، وأنْ تسلمَ له في أحكامه، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب.
كلمة (يٰحَسْرَتَا) (الزمر: 56) هذا أسلوب نداء، فأيُّ شيء ينادي العبد؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول: يا حسرتي احضري تعالَيْ، فهذا أوانك، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق.
ومعنى (عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ) (الزمر: 56) على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته، والتفريط هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض، كالتلميذ الذي يهمل دروسه ونراه يهتم مثلاً ليلة الامتحان.
نقول له: يا بني (قبل الرِّماء تُملأ الكنائن) هذا مَثَلٌ يُضرب لمن لا يستعد للأمر قبل أوانه، فالصياد يخرج للصيد وقد أعدَّ له أدواته، حتى إذا ما وجد صيده بادره قبل أنْ يهرب، لأن الغزالة مثلاً لا تنتظر الصياد حتى يملأ كنانته أو يُعدّ سهمه.
إذن: أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما: (وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ..) (الزمر: 54) (وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ..) (الزمر: 55) كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب (يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ..) (الزمر: 56) فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر، ولا يرضى له ذلك، فحين يقول لنا: لا تقنطوا من رحمة الله، وأنيبوا، وأسلموا، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة.
والحسرة أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر.
وقوله تعالى: (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ) (الزمر: 56) يعني: الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله، فالذنب مُضَاعف، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين: (إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المطففين: 29-36).
وكثيراً ما نسمع أهل الباطل يسخرون من أهل الحق: يقولون فلان هذا صُللي، يا عم خذنا على جناحك.. إلخ لكن يكفي أهل الإيمان أن الله هو الذي سيأخذ لهم حقهم في دار البقاء, فإنْ سخروا منكم في الدنيا الفانية فسوف تسخرون منهم في الباقية الدائمة، وإنْ ضحكوا منكم ضحكاً موقوتاً منقطعاً فسوف تضحكون منهم ضحكاً أزلياً باقياً.
وفي هذه الآية ملحظ (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ) (الزمر: 56) حين نتتبع كلمة النفس في القرآن الكرم نجد أنها تأتي دائما مؤنثة، كما في قوله تعالى: (وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ) (يوسف: 53) وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 7-8).
أما هنا فغلَّب التذكير، فقال حكاية عن النفس: (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ) (الزمر: 56) ولم يقل الساخرات..
لماذا؟
قالوا: النفس مؤنثة، فإن أُريد بها الإنسان تُذكَّر.
وبعد أن حذرنا الحق سبحانه من موقف التحسُّر والندامة في الآخرة يحذرنا من شيء آخر تتعرض له النفس حين ترى العذاب، فيقول سبحانه: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 56-60 الأحد 25 أبريل 2021, 5:12 pm | |
| أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله تعالى: (أَوْ تَقُولَ) (الزمر: 57) أي: النفس (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي) (الزمر: 57) أي: في الدنيا (لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ) (الزمر: 57) وهذا عجيب، عجيبٌ أنْ تكذب حتى في الآخرة، لأن معنى (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي) (الزمر: 57) أنه سبحانه لم يهدك وهذا كذب.
يقول الإنسان مدافعاً عن نفسه: إن عدم وجودي في صَفِّ المتقين أن الله لم يهدني، هذه كذبة لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك إلى طريق الخير وبيَّن لك الحلال والحرام، لكنك لم تتبع هَدْيه ولم تَسِر على منهجه (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً) (الزمر: 58) يعني: عودة ورجعة إلى الدنيا مرة أخرى.
كما قال سبحانه في موضع آخر: (حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ) (المؤمنون: 99) هذه كلها أماني كاذبة فلا تُصدِّقوهم، فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه وكما كذبوا في الأولى (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي) (الزمر: 57) كذبوا في (فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) (الزمر: 58).
والكذب قد يُتصوَّر من الإنسان في الدنيا، لكن عجيبٌ أنْ يكذب في الآخرة، وهو بين يدَيْ ربه عز وجل، لذلك سيقول الحق بعدها: (وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) (الزمر: 60).
والظاهر أن الكذب (علق) معهم وتعوَّدوا عليه حتى أخذوه معهم في الآخرة.
ثم يردُّ الحق على هذا الكذب فيقول سبحانه: (بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 56-60 الأحد 25 أبريل 2021, 5:14 pm | |
| بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كلمة (بَلَى) حرف جواب لا يأتي إلا بعد نفي، فيفيد إثباتَ المعنى المنفي قبله، كما في قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف: 172) فيأتي الجواب: (قَالُواْ بَلَىٰ) (الأعراف: 172) يعني: لا.
أنت ربنا، والقاعدة أن نفي النفي إثبات، ومثله: (أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ) (التين: على مَنْ يسمعها أن يقول: بلى يا رب، يعني: لا.. أنت أحكم الحاكمين.
إذن: فأين النفي السابق على قوله هنا (بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي) (الزمر: 59) قالوا: كَوْنه نفي الهداية في قوله: (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي) (الزمر: 57) لذلك جاء الجواب (بلى) يعني: لا بل هديناك (قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا) (الزمر: 59) والآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الداعي إلى التأمل والتفكر للعقل وللبصيرة.
والآيات كما ذكرنا على ثلاثة أنواع: آيات كونية تدل على قدرة المكوِّن سبحانه كقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ) (فصلت: 37).(وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ) (الروم: 23).
وهذه الآيات الكونية التي تلفتنا إلى المكوِّن الأعلى هي الوسيلة الأولى للإيمان بالله، لذلك كلنا استنبط العلماء في الكون شيئاً جديداً أو اكتشفوا جديداً وجدنا له أصلاً في كتاب الله، قالها الحق سبحانه منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.
هذه الآيات الكونية يُظهرها الحق سبحانه حتى على أيدي الكافرين به، لذلك حذَّرنا أن يتدخل علماء الشرع والفقهاء في علوم الدنيا والكونيات؛ لأن الكونيات لها علماء اختصُّوا بها، وسوف يخدم هؤلاء الدين وقضية الإيمان بالله، وسيُظهرون لكم الأسانيد والأدلة على وجوب الإيمان بالله صاحب هذا الكون ومُكوِّنه.
إذن: فهؤلاء العلماء يتعبون ويفكرون ويبحثون في الكونيات لخدمة المؤمن بالله وخدمة الدين، فهم -وإن كانوا كافرين بالله- جند من جنود الحق، وصدق الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ) (فصلت: 53).
والعجيب أنهم سيُحرمون الأجر على هذا الجهد المبذول، لأنهم فعلوا ذلك وتوصَّلوا إلى ما توصَّلوا إليه، وليس في بالهم الحق سبحانه، إنما في بالهم خدمة الإنسانية، فليأخذوا أجورهم من الإنسانية، وفعلاً كرَّمتهم الإنسانية وصنعت لهم التماثيل، واحتفلت بهم؛ لذلك ليس لهم نصيب في الآخرة.
وينطبق عليهم قوله تعالى: (وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً) (الفرقان: 23).
وقوله: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ) (النور: 39).
يعني: فوجئ بأن للكون إلهاً خالقاً، فوجئ بالحساب والجزاء، وهذه أمور لم تكُنْ على باله في الدنيا.
النوع الثاني من الآيات هي المعجزات التي تصاحب الرسالات، لتدلَّ على صدق الرسول في البلاغ عن ربه، ومنها قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ..) (الإسراء: 101).
أما النوع الأخير فهي الآيات القرآنية التي تحمل أحكام الدين، والتي قال الله فيها هنا: (بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ) (الزمر: 59).
وقوله تعالى: (وَٱسْتَكْبَرْتَ) (الزمر: 59) استكبر يعني: طلب أنْ يكون كبيراً، يعني: لم يتكبر فحسب، إنما طلب ذلك وسعى إليه لكنه لم يُجِب لذلك؛ لأن الذي يستكبر لا بدَّ أن يكون في غنىً عمَّنْ استكبر عليه، وإذا كنتَ في مُلْك الله وتحت سلطانه وتأكل من رزقه وتعيش في خيره، فكيف تتكبر عليه؟
ثم إن المتكبر ينبغي أن يتكبر بشيء ذاتي فيه لا يسلب منه؛ لذلك الذين يتكبرون في الدنيا إنما ينازعون الله صفته؛ لأنهم يتكبّرون بلا رصيد، ومَنْ من الخلق عنده ذاتية لا تُسلب منه، لذلك نرى مَنْ يتكبر بعزٍّ يُذله الله، ومَنْ يتكبر بغنىً يُفقره الله، ومَنْ يتكبر بصحته وعافيته يُمرضه الله.
إذن: التكبّر الحق أنْ تتكبر بشيء تملكه لا يُسلب منك، وشرُّ المتكبرين مَنْ يتكبر على ربه وخالقه والقادر على أن يسلب منه كل شيء، أما الذي يتكبر على الخلق فغافلٌ عن عظمة ربه وكبريائه؛ لأنه لو عرف عظمة ربه وكبرياءه لاستحى أن يتكبر وأنْ ينازع الله صفة من صفاته. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 56-60 الأحد 25 أبريل 2021, 5:14 pm | |
| وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله سبحانه: (ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ) (الزمر: 60) أي: في قولهم: (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي) (الزمر: 57) وفي غيرها؛ لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك حين بعث لك الرسل مُؤيَّدةً بالمعجزات، وأنزل لك الكتب وبيَّن لك الحلال والحرام، وكذبوا في غير ذلك كالذين قالوا: (إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ) (آل عمران: 181) وكالذين قالوا: (يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة: 64) ومثلهم الذين ادعوا أن مع الله آلهة أخرى.
كل هؤلاء كذبوا على الله؛ لذلك يأتون يوم القيامة (وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) (الزمر: 60) نعم مسودة لأنهم الآن يواجهون الحق الذي كذبوا عليه، فلابدَّ أنْ تكون وجوههم مُسْودة عليها غبرة ترهقها قترة مما فعلوه.
وهذا ليس ذماً للسواد في ذاته، لأن السواد خَلْق من خَلْق الله لا يُذَمُّ في ذاته، فقد ترى الرجل أبيض اللون، لكن تعلوه قتامة وقتر، فتجد وجهه مظلماً والعياذ بالله، وهذا أثر المعاصي والذنوب على الوجه في الدنيا قبل الآخرة.
وترى العبد الزنجي كأن وجهه زبيبة، لكن يعلوه ضياء وإِشراق، وتجد على وجهه علامات الصلاح، وكأن وجهه يتلألأ نوراً ولا تزهد أبداً في النظر إليه؛ لذلك يقول سبحانه و تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ) (عبس: 38-42).
إذن: الوصف لا يُمدح ولا يُذم لذاته، والسواد والبياض هنا ليس هو السواد كما نعرفه في الدنيا فهي عملية نسبية، وكنت أرى بعض الصالحين وكأن في وجهه كشافاً يُضيء، وتبدو الفرحة على وجهه وكأن نورَ اليقين وبشاشة الإيمان تعدَّتْ داخله ونضحَتْ على وجهه نوراً ونضارة، وهو صاحب بَشْرة سوداء مثل الأبنوس.
ومثل هذا نجده في قوله تعالى: (إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ) (لقمان: 19) فهل يُذمّ صوت الحمير إنْ صدر منها؟
لا لأن الخالق خلقه على هذه الصورة، وعُلو صوت الحمار لحكمة لأنه قد يختفي مثلاً وراء جبل أو تَلٍّ عالٍ، فلا يهتدي إليه صاحبه إلا من خلال صوته، لكن يُذمُّ عُلو الصوت في الإنسان، فهو أنكر الأصوات إنْ صدر منه ما يشبه صوت الحمار.
كذلك في: (مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (الجمعة: 5) فليس هذا ذماً للحمار، لأن الحمار في الحمل يؤدي مهمة وهي الحمل فحسْب، فهو يحمل حمله دون تبرُّم ودون اعتراض، لكن يُذمُّ الإنسان إنْ تشبَّه بالحمار فارتضى لنفسه أنْ يحمل فقط دون أنْ يعي ما يحمله، ودون أنْ يفهم، وأنْ يُطبق ما علم.
وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: 60) هذا استفهام منفي نجيب عليه فنقول: بلى يا رب، يعني: لا بل لهم مثوى في جهنم، والمعنى: ماذا يظنون؟
أيظنون أنه لا محلَّ لهم فيها ولا مكان، إن مكانهم جاهز ومُعَدٌّ بأسمائهم ينتظرهم ويشتاق إليهم، فليس في جهنم أزمة مساكن كما قلنا.
فالحق سبحانه خلق أزلاً الخلق، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في الجنة على اعتبار أن الخلق جميعاً سيؤمنون بالله، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في النار على اعتبار أن الخلْق سيكفرون، فإذا ما دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهلُ النارِ النارَ وُزِّعَتْ أماكن أهل النار المعدة لهم لو آمنوا على أهل الجنة، كما قال سبحانه: (وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الزخرف: 72).
ومعنى (مَثْوَى) أي: مكان إيواء وإقامة دائمة (لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: 60).
|
|