أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة الزمر الآيات من 32-35 الأحد 25 أبريل 2021, 4:45 pm | |
| فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الاستفهام في (فَمَنْ أَظْلَمُ) (الزمر: 32) يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها.
إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولابُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب.
لذلك جاء لفظ (أَظْلَمُ) على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم?
أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه?
بل ظلم نفسه.
ولم يقف الأمر عند هذا بل (وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ) (الزمر: 32) لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً.
ثم يستفهم الحق -سبحانه و تعالى- وهو أعلم: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (الزمر: 32) يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به.
وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق (وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ) (الزمر: 33) وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة: 44-47).
إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابي فيها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه -صلى الله عليه وسلم- عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى: (قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) فكان بإمكانه -صلى الله عليه وسلم- أنْ يقول لقومه: الله أحد.
وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه: (قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) فذكر الأمر بأنْ يقول (قل).
والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه.
أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك ليُبلِّغ عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة (قُلْ) فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.
وقوله: (وَصَدَّقَ بِهِ) (الزمر: 33) أي: صدَّق بالصدق الذي جاء به، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً، فقال سبحانه: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ) (آل عمران: 18) وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله، إذن: جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه: أشهد أن محمداً رسول الله.
كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان.
وقالوا: (وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ) (الزمر: 33) هو رسول الله (وَصَدَّقَ بِهِ) (الزمر: 33) أي: الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه، سواء أكان أبا بكر -رضي الله عنه- أم السيدة خديجة -رضي الله عنه-ا، وقد اختلفوا في هذه المسألة: أهو أبو بكر أم خديجة?
وليس في المسألة خلاف.
فإذا قيل: أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر.
ومن النساء: خديجة.
والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقال: إنه نبيُّ هذه الأمة، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال: وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم?
قال: ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ.
أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته?
قالوا: ليست المعجزة (عياقة) لا يؤمن الناس إلا بها، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق؛ لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة?
قالوا: لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله?
إذن: أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت: والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر.
فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم.
وأنتم تعلمون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن خزيمة الذي يقول فيه: "مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه".
ونِصاب الشهادة معروف، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة?
وبم استحق هذه المنزلة?
قالوا: لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي، ثم أدَّاه إليه في موعده، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول: يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني، فقال رسول الله: لقد أعطيتُك، فقال: ومَنْ يشهد على ذلك?
فقام خزيمة وقال: يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه.
ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه: لعله كان حاضراً ولم أَرَه، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما، عندها خنس اليهودي وانصرف، فاستدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه?
فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم?
فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة، ورآه اجتهاداً جميلاً، فقال فيه: "مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه".
والمسألة ليست على دراهم اليهودي، إنما لها واقعٌ آخر، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور، حتى وقف أمام آية كُتِبت وشهد عليها شاهد واحد فتوقف، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه: "مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه".
فكتبها.
ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج.
وقالوا له: إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال: إنْ كان قد قال فقد صدق.
فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله.
وقوله: (أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ) (الزمر: 33) أي: الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 32-35 الأحد 25 أبريل 2021, 4:46 pm | |
| لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله: (لَهُم مَّا يَشَآءُونَ) (الزمر: 34) أي: متوفر لهم كلّ ما يشاءون، لكن عند مَنْ?
(عِندَ رَبِّهِمْ) (الزمر: 34) حين تكون لا عندية إلا لله وحده، هذه العندية هي معنى قوله تعالى: (لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ) (غافر: 16).
فالعندية تكون للناس في الدنيا، فهذا موظف عند هذا، وهذا خادم عند هذا، أما في الآخرة فالعندية لله وحده، وفي هذه العندية ينال المؤمن ما اشتهاه في الدنيا ولم يحصل عليه في الآخرة يقول الله (لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) (الزمر: 34) ولم يقُلْ لهم ما يشاءون، بل ما يشاءون عندي أنا.
أي: بلا أسباب، لأن الأسباب كانت في الدنيا، وما تريده بالأسباب قد لا يتحقق لك، وإنْ كان في يدك لأن الله يزاول سلطانه بواسطة خلفائه في الأرض، فيجعل هذا سبباً في رزق هذا، وهذا يعين هذا، والأسباب قد تتخلف أما في الآخرة فلا أسبابَ، بل هو عطاء الله المباشر بلا سبب.
وفي سيرة أكابر الرسل أحداثٌ توضح لنا هذه العندية لله تعالى، فسيدنا إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- أول ما دعا دعا عمه آزر، وجادله في مسألة الأصنام، فلما رآه مُصِرّاً على عناده قال له: (سَلاَمٌ عَلَيْكَ..) (مريم: 47).
كلمة السلام هنا ليست سلام الأمن والطمأنينة، ولا سلامَ التحية، إنما سلام الموادعة لأنهما مختلفان في الرأي، ولن يثمر الجدل مع العناد والمكابرة، فطول الجدال لن يُزيد المسألة إلا تعقيداً وعداوة، ومن الأفضل في مثل هذا الموقف أن ينسحب منه صاحب الحقِّ حتى لا تشتعل نارُ الخلافات أكثر من ذلك، كما تقول لصاحبك في مثل هذا الموقف: يا عم سلام عليكم لتنهي الموقف، فالسلام عليكم هنا تعني أنني لو لم أترك هذا المكان لن يحدث سلام.
وقد يكون سلامٌ من البشر لا يقدرون على أدائه.
لذلك، فإن السلام الحق من الله، كما في قوله تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (يس: 58).
الشاهد هنا أن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- شاء أن يستغفر لعمه، فلم يُجَبْ إلى ذلك، شاء في الدنيا لكن الله لم يشأ، كذلك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاء أنْ يستغفر لعمه أبي طالب بعد أنْ دعاه فلم يستجب، وأصرَّ على دين آبائه، فلما استغفر له رسولُ الله أنزل الله عليه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ..) (التوبة: 113).
فقد شاء محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لعمه، لكن لم يُعْط ذلك، لأن هذه المشيئة منه في الدنيا ليستْ عند الله، أما مشيئته عند الله في الآخرة فمستجابة متحققة، هذا معنى (لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ..) (الزمر: 34).
فإنْ كانت للمؤمن مشيئات لا تتحقق في الدنيا فهي مُدَّخرة له في الآخرة عند ربه، هذه المشيئات التي لا تتحقق يسترها شيء واحد أن أكرم المشيئة أنْ تشاء من الله أنْ ينصر دينه، وقد تحققت هذه المشيئة.
إذن: فالمشيئة التي لا تتحقق هي التي تعود على نفسك، أما المشيئة التي تطابق الإيمان بمنهج الله فهي لابُدَّ متحققة كما تحققت مثلاً في بدر.
فالحق -سبحانه و تعالى- يريد منا حين نكون مؤمنين به ومُصدِّقين لرسوله ألاَّ تكون لنا مشيئة في غير ديننا؛ لأن المشيئة في غير الدين يمكن أن تكون في أيدي الناس فلا يحققوها لك، وربما مات المؤمن قبل أنْ يرى مشيئته بنصر الله فيدخر له ذلك في الآخرة.
إذن: المهم عنده أن تكونَ المشيئة خاصة بنصر دين الله على مَنْ يكذبه ويخالفه، وهذه المشيئة متحققة بدليل: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ) (الصافات: 173).
وقوله: (ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ) (الزمر: 34) صحيح هناك عمل، وهناك فضل، وتشريع الجزاء على العمل من الفضل؛ لأن ربنا حينما يثيبني على شيء يعود عليَّ بالنفع يُعد هذا الجزاء زيادة، والأصل أن يقول لي: لقد أخذتَ جزاءك منفعةً بالعمل الذي عملته؛ لأن خالقك أعطاك كل الأسباب، أعطاك الجوارح التي تعمل بها، وأعطاك الأرض والمال والهواء والماء والطعام، فإنْ أثابك على العمل كان من فضله.
والمحسن درجةٌ أعلى من المؤمن، فالمؤمن يأخذ ما فرضه الله عليه ويُنفِّذه دون زيادة، أما المحسن فهو الذي يؤدي ما فرض الله عليه ويزيد عليه من جنس ما فرض الله، فمثلاً يصلي الصلوات الخمس ثم يزيد عليها ما شاء من النوافل من صلاة الليل، كما قال سبحانه في المحسنين: (كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ) (الذاريات: 17-19).
ولم يقل هنا (حق معلوم) لأن الحق المعلوم هو الزكاة، أما في هذا المقام فالعبد يُزكِّي ماله، ثم يزيد على ذلك ما شاء من التطوع والصدقات، وهذه الزيادات ما طلبها منك ربك، إنما تؤديها محبةً وتقرباً إليه سبحانه إذن: كلمة الإحسان عند الله فيها نفس معنى الإحسان للناس.
تقول: أحسنت إلى فلان حين تعطيه أكثر من حقه.
وحين يجازي الله المحسنَ إنما يعطيه جزاءَ إحسانه، فإذا كان العبد يحسن فالله أوْلَى وأكرم.
والحق سبحانه أعطانا المثَل الحسِّي للإحسان في الأرض، وما تُخرجه من ثمراتها فأنت تضع فيها حبة القمح مثلاً، فتعطيك في المقابل سبعمائة حبة، فإذا كان هذا هو عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه?
فالمعنى: (لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) (الزمر: 34).
لماذا?
لأنهم كانوا محسنين، وهذا جزاء الإحسان.
وقوله: (لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ) (الزمر: 35) هذا أيضاً من العطاء الخاص بدرجة الإحسان، فكلمة أسوأ تدلّ على المبالغة وأقل منها السيئة، فعندنا سيئة وأسوأ منها، ولا شكَّ أن السيئة تنصرف إلى الصغائر، والأسوأ تنصرف إلى الكبائر، فكأن الذي دخل في مقام الإحسان ضمن أن مقام الإحسان يكون له مثل مقاصَّة تُسقط عنه ذنوبه، ليست الصغائر فحسب إنما الكبائر أيضاً؛ لأن الذي يُكفّر الأسوأ يُكفِّر السيئة من باب أَوْلَى، هذا لأنك أدخلتَ نفسك في مقام لم يُطلب منك لمجرد المحبة لمن كلفك.
بل هناك عطاء أعظم من ذلك، هو أن المسألة لا تنتهي عند تكفير الذنوب والسيئات، إنما تُبدَّل إلى حسنات، كما قال سبحانه: (فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..) (الفرقان: 70).
فتأمّل درجات العطاء من الله، والربح في التجارة معه سبحانه وبنفس الإكرام والتفضل يجازي اللهُ المحسنين على حسناتهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ) (الزمر: 35) فكما غفر لهم الأسوأ يجازيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أيْ: بأحسن من عملهم.
هذا العطاء من الله، وهذا التكرم والتفضل منه على عباده شجَّع الشارد من دعوة الإيمان وحَثَّه على العودة إلى حظيرة الإيمان، فليس هناك ما يحول بينه وبين ربه، وليس في الطريق حجر عَثْرة مهما كَثُرَت الذنوب ما دام بابُ التوبة مفتوحاً.
والحق سبحانه حينما شَرَع التوبة للعاصين المذنبين شرعها لينقذهم من شراسة المعصية، فلو قلنا للعاصي: ليس لك توبة ماذا يفعل (يفقد) كما نقول: فلان ده فاقد.
يعني: يئس من الإصلاح فتمادى في الفساد وبالغ في الضلال، والحق سبحانه لا يريد لعباده ذلك، ففتح لهم بابَ التوبة ليعطفهم إلى دين الله، فلا يزداد الانحرافُ في المجتمع، ولا تستشري فيه المعصيةُ.
بعد أن أخبر رسول الله القومَ بهذا المنهج الإلهي في الجزاء قال المعاندون لرسول الله: نخاف عليك يا محمد أنْ تمسَّك آلهتنا بسوء وقد أغضبتها، سبحان الله يقولون هذا وهم يعلمون أنها حجارة لا تضر ولا تنفع، ولما مسَّهم الضر ما وجدوا غير الله يلجئون إليه؛ ولذلك نزل قوله تعالى: (أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ...). |
|