أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة الزمر الآيات من 27-31 الأحد 25 أبريل 2021, 4:28 pm | |
| وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
حينما نتتبع لفظ (مَثَل) في القرآن الكريم نجده مرة بصيغة (مِثْل)، وهي تفيد تشبيه شيء بشيء مفرد كما تقول: زيد في شجاعته مثل الأسد، الرجل في كرمه مثل الغيث، ومن ذلك قوله تعالى: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ..) (البقرة: 23) وهي تفيد تشبيه صورة مُنتزعة أو مُكوَّنة من عدة أشياء بصورة أخرى مُكوَّنة من عدة أشياء يعني: تشبيه حالة بحالة.
ومن المثل في القرآن مَثَلُ الحياة الدنيا في قوله تعالى: (وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) (الكهف: 45).
فالحياة الدنيا ليست تشبه الماء وحده، إنما ماء نزل من السماء واختلط بتراب الأرض فأخرج النبات لكن سرعان ما يهيج ثم يصفر ثم يجف ويتفتت، حتى يصير هشيماً تذروه الرياح، كذلك حياة الإنسان في الدنيا، تزهو لك الحياة ثم تنتهي بالموت، هذه صورة تمثيلية مُكوَّنة من عدة أمور تشبه عدة أمور أخرى، وما دامت الدنيا على هذه الصورة فاحذروها، ولا تركنوا إليها ولا تغترُّوا بها.
ومن الصور التمثيلية في القرآن أيضاً قوله تعالى في الذين حُمِّلوا التوراة، ثم لم يستفيدوا منها: (مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً..) (الجمعة: 5).
فهؤلاء ليسوا كالحمار وحده، بل كالحمار الذي يحمل الكتب، ولكنه لا يفهمها، والحمار ليست مهمته أنْ يفهم إنما مهمته أنْ يحمل، أما هؤلاء فمهمتهم أنْ يحملوا وأنْ يفهموا ما حملوه، وبذلك تميّز الحمار عنهم.
ومن ذلك قوله سبحانه و تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ..) (الفتح: 29).
تأمل هذا المثَل، تجد الحق سبحانه مثَّل محمداً وصحبه في التوراة بمثَل معنوي عبادي، لأن اليهود تغلب عليهم الماديات، وجاء بمثل مادي في الإنجيل لأن الإنجيل ليس فيه إلا روحانيات، فلما طغتْ المادية على اليهود ذكر لهم المثل المعنوي، ولما طغتْ الروحانيات على النصارى جاء لهم بمثَل مادي، فكان ولابُدَّ أن يجيء الإسلام وسطاً يراوح بين الماديات والروحانيات.
وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا..) (الزمر: 27) الضرب قلنا: هو إيقاع شيء فوق شيء بقوة وشدة ليحدث فيه أثراً، ومن ذلك الضرب في الأرض أي: حرثها والاعتناء بها لتعطيك من خيرها، وضَرْب المثل يكون لأنه في ظاهره غريب، فنقول لك: لا تستغربه فهو مثل كذا وكذا فيتضح المقال ويزول الاستغراب، والمثَل يشبه المختلف فيه بالمتفق عليه.
كما في المثل السابق: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ..) (الفتح: 29).
ومادة مثل في القرآن الكريم وردتْ إحدى وأربعين مرة بلفظ مثل، واثنتين وعشرين مرة بلفظ مثلاً، وثلاث مرات بلفظ مثلهم.
ومن طريف الصور التمثيلية قَوْلُ الشاعر يصف رجلاً أحدب، ويُصوِّره لك كأنك تراه بالفعل: قَصُرَتْ أخادِعهُ وغَاصَ قَذَالهُ فَكأنَّهُ مُتربِّصٌ أنْ يُصْفَعَا وكَأنَّمَا صُفِعَتْ قَفَاهُ مَرَّةً فَأحسَّ ثانِيةً لَهَا فَتجمَّعَا
وقوله تعالى: (مِن كُلِّ مَثَلٍ..) (الزمر: 27) يفيد العموم، يعني: لوَّنا لهم الأمثال لنُبين لهم قواعد الدين بما يشاهدونه من الماديات (لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر: 27) يعني: يتأملون هذه الأمثال، ويضعون كل مثَل مقابل مثاله، وليأخذوا من المشاهد دليلاً على ما غاب، ومن المتفق عليه دليلاً على المختلف فيه.
وقوله سبحانه: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ..) (الزمر: 28) أي: أن هذه الأمثال جاءت قرآناً عربياً مبيناً واضحاً لا عوجَ فيه، وهو كتاب يُقرأ ويكتب وتتكرر تلاوته في العبادة، وهو محفوظ لا يناله تحريف أو تبديل والذي يحفظه قائله سبحانه، إذن: فهذه الأمثال باقية ببقاء القرآن خالدة بخلوده ستظل أمامكم تفيدون منها، كلما عرضتْ لكم قضايا الحياة وجدتم الحلّ لها.
وقوله: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ..) (الزمر: 28) ليس مائلاً إلى جهة من الجهات، بل هو مستقيم، لأنه التشريع الحقّ من الله الذي لا يُحابي أحداً ولا يجامل أحداً حتى رسله، واقرأ قوله سبحانه لنبيه وخيْر رسله محمد: (إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الإسراء: 75).
وفي سورة الكهف وصف القرآن بقوله: (ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً..) (الكهف: 1-2).
وقوله: (لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 28) أي: يتقون صفات الجلال من الله تعالى ومُتعلقاتها من التعذيب بأيِّ لون من ألوان العذاب. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 27-31 الأحد 25 أبريل 2021, 4:29 pm | |
| ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذا مَثَل ضربه الله لبيان قضية التوحيد، ويوضح من خلاله الفرق بين عبد لسيد واحد، وعبد لعدة أسياد، وهذه صورة مكوَّنة من عدة عناصر، فالرجل مملوك لشركاء، وليْتهم متفقون على شيء، إنما متشاكسون مختلفون، كل منهم يأمر بشيء، فإنْ أرضى هذا أغضب ذاك، وإنْ أطاع سيداً عصى الآخر.
إذن: كيف يبدد نفسه?
وكيف له أن يستريح فهو دائما في حيرة من أمره?
أما الآخر، فعبدٌ لسيد واحد، أمره واحد، وهو مرتبط بسيده، قاصرٌ خدمته عليه.
(هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً..) (الزمر: 29) ويترك الحق سبحانه لك أنْ تجيب أنت على هذا التساؤل (هَلْ يَسْتَوِيَانِ..) (الزمر: 29) لا نملك إلا أنْ نقول: لا يستويان أبداً، ونُقِر نحن بهذه الحقيقة، وهذا هو مقصد القرآن أنْ نُقِر نحن بها، لا أن تُلقى إلينا كخبر من الله تعالى، وهذا الذي نحكم به يقوله كلُّ عاقل، ولا يردّه أحد.
فالعبد المملوك لسيِّد واحد، كمَنْ آمن بالله تعالى وأخلص له العبادة وحده سبحانه، والعبد المملوك لشركاء متشاكسين مثال للعبد الذي أشرك مع الله في العبادة، وعليك أنت أنْ تعتبر.
وقوله سبحانه: (ٱلْحَمْدُ للَّهِ..) (الزمر: 29) أي: الحمد لله على أنْ ضرب لنا الأمثال، وأوضح لنا الأمورَ لنأخذ المعقول المعنوي بالمُحَسِّ المادي، فالذي يعبد الله وحده لا شريك له يعيش مرتاحَ البال، هادئ النفس، مطمئن القلب، على خلاف مَنْ يعبد آلهةً متعددة، فهو مشتّتُ النفس، غير مستقر البال، إنْ أرضى سيداً أغضب الآخر، وليس لديه القوة التي تعينه على إرضاء الجميع، فهو أشبه بالخادم الذي يقول (أناح أقطع نفسي؟) فالحمد لله الذي نزَّل القرآن عربياً، لا عِوَجَ فيه، والحمد لله الذي ضرب لنا فيه الأمثال التوضيحية التي تُقَرِّب ما تقف فيه العقول بالذي تتفق فيه العقول.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 29) أي: لا يعلمون هذه القضية، لا يعلمون أن الإيمانَ بالإله الواحد الحق والعبودية الخالصة له سبحانه فيها سعادة العبد وراحته، وأن العبوديةَ لآلهة شتى في شقاوة العبد وتعبه.
وهم لا يعلمون هذه الحقيقة لأنهم ما وضعوا قضية الإيمان بالربوبية موضعَ البحث العقلي، بل أخذوها هكذا بلا تأمُّل، المهم عنده أنْ يكون لهم إله ليس له أوامر ولا نواهٍ، إله بلا منهج وبلا تكاليف، وما أحسنَ هذا الإله الذي تأخذه على مزاجك، ووفقاً لهواك.
وقوله سبحانه: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 29) طمأن أهل الإيمان وأهل التوحيد، فهم وإنْ كانوا القلة إلا أنهم موجودون، فالخير لا يُعدم مهما كان قليلاً، ومن ذلك قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ) (الواقعة: 13-14).
وقال في أصحاب اليمين: (ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ) (الواقعة: 39-40) فالخير إذن في هذه الأمة. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة الزمر الآيات من 27-31 الأحد 25 أبريل 2021, 4:30 pm | |
| إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كان كفار مكة إذا أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوء أو وعكة صحية، أو نزلتْ به شدة كما حدث في أُحُد يفرحون لذلك، فما بالك لو مات رسول الله?
لذلك يقرر القرآن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقة (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30) فعلامَ يفرحون وهذه نهاية الجميع، كما قال في موضع آخر: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ) (الأنبياء: 34).
لكن المسألة لن تنتهي عند هذا الحدِّ، إنما بعد الموت حياةٌ أخرى، فيها حساب وجزاء ووقوف بين يدي الله تعالى، وساعتها سيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- في أعلى مقام، أما أنتم فسيكون موقفكم موقفَ المخالفين لله، فماذا تقولون?
هذا معنى قوله سبحانه (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (الزمر: 31).
ومعنى (إِنَّكَ مَيِّتٌ..) (الزمر: 30) هكذا بالتشديد.
أي: ذاهب مُنْتهٍ إلى الموت ففرْق بين ميّت بتشديد الياء وميْت بسكونها، ميّت يعني من سيموت ويؤول إلى الموت، ولو كان حيّاً، لأن الله خاطب رسوله وهو ما يزال حياً.
أما ميْت فمَنْ مات بالفعل.
ومن ذلك قول الشاعر: وكُلُّ أَنَامِ اللهِ فِي النَّاسِ مَيِّتٌ وَمَا الميْتُ إلاَّ مَنْ إِلَى القَبْرِ يُحْمَلُ
وقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30) فيه تطمينٌ وتأسية لرسول الله، كما خاطبه سبحانه بقوله: (فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (غافر: 77) وهنا قال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (الزمر: 31).
يعني: إما أنْ ترى انتقام الله منهم في الدنيا وإلا ففي الآخرة، إذن: من مصلحتك أنت أنْ تنتقل إلى الرفيق الأعلى لنختصر المسافة، وترى بعينك مصارع الكافرين المعاندين، فلا تضعف ولا تذل؛ لأن لك مآلاً عند الله تأخذ فيه جزاءك، ويأخذون جزاءهم.
والحق -سبحانه و تعالى- لما تكلَّم عن الموت في سورة تبارك، قال: (تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ..) (الملك: 1-2).
فتأمل (خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ..) (الملك: 2) وجعل الموت أولاً مع أنه بعد الحياة، ذلك لأن الحياة ستعطيك نوعاً من الغرور، حين ترى جوارحك تستجيب لك، والأسباب تستجيب لك والدنيا تعطيك فلابُدَّ أن يدخلك الغرور، فأراد الحق سبحانه ألاّ نستقبلَ الحياة بالغرور، بل نستقبلها أولاً بهذه الحقيقة التي تناقض الحياة وهي الموت.
إذن: فالعاقل يفهم أنه صائر إلى الموت، ويقضي رحلة حياته وهو على ذكْر لهذه النهاية.
وقوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (الزمر: 31) وستكون أول خصومة بين الأنبياء ومَنْ كفروا بهم هي مسألة البلاغ حين يشهد الرسل أنهم بلَّغوا أقوامهم رسالة الله، فإذا بهم يتعللون، يقولون: اعتقدناه سحراً، اعتقدناه كذباً، اعتقدناه تخييلاً، لكنهم ما فطنوا إلى أن الله أكّد هذا بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..) (البقرة: 143).
إذن: فضّل الله أمةَ محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنها حملتْ رسالة رسولها، وهذه مسألة لم تحدث مع الرسل السابقين؛ لذلك قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..) (آل عمران: 110) والدليل على حَمْل الأمة لهذه الرسالة أنه لم يأتِ رسول بعد رسول الله، فكأن الله تعالى أَمِن أمة محمد على رسالته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- شهد أنه بلَّغ أمته، وعليهم هم أنْ يشهدوا أنهم بلَّغوا الناس.
وهذا المعنى من معاني الوسطية التي قال الله فيها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً..) (البقرة: 143).
وإنْ كانت تتسع لغير ذلك فلأنها وسط في كل شيء، فقد رأينا في غير هذه الأمة مَنْ أنكر الإله، ومنهم مَنْ أثبت آلهة متعددة، وكلاهما تطرف، فجاء الإسلام وقال بعبادة إله واحد لا شريك له، فاختار الوسطية والاعتدال وحَلّ هذا النزاع.
لذلك خاطبنا ربنا بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً..) (البقرة: 143) أي: فيكم نواحي الاعتدال، فإذا سمعتم مَنْ يقول بالشيوعية، ومَنْ يقول بالرأسمالية، وإذا رأيتم مَنْ يتعصّب لمذهبه فقولوا: نحن أمة وسطا تركنا للرأسمالية أن تثمِّر طموحها، لأنه ليس للجميع لديه طموح، وحين تثمِّر الرأسمالية طموحها لابُدَّ أنْ تخدم المجتمع، وانظر كم من العمال يعمل، وكم من البيوت تُفتح.
كذلك الشيوعية فرضنا لهم ما لم يدفعوا إلى غير القادر، إذن: أخذنا ميزة هؤلاء وميزة هؤلاء، بدليل أن النظامين اللذين سيطرا على العالم طوال مدة من الزمن بدأتْ شراستهم تقل، فالرأسماليون أخذوا في التخفيف من حِدَّة الرأسمالية، ونظروا إلى العمال فأعطوْهم حقوقهم وميَّزوهم، وجعلوا لهم نقابات... إلخ، وكذلك الشيوعية قالوا: لابُدَّ أنْ يوجد في المجتمع طبقة تقدر أنْ تزِنَ الأمور بطموحاتها، ويجعلوا للعمال فرصاً يعملون بها، وأخيراً انتهت الشيوعية والحمد لله عن آخرها.
إذن: فأمة الإسلام أمة الوسطية أخذت خَيْر النظامين.
نقول: سيكون في الآخرة الاختصام الأول بين الأنبياء ومن كذَّب بهم، واختصام بين أئمة الكفر ومَنْ تبعهم ممَّنْ أضلوهم وأغوْوهم، بين القوم الذين أثروا في السفهاء، وجعلوهم تابعين لهم في الكفر.
وقد صَوَّر القرآن هذه الخصومة في هذا الموقف، فقال: (إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ) (البقرة: 166-167).
لذلك يقول سبحانه و تعالى: (ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
إذن: لا بدّ أنْ يختلفوا الآن، ويلعنَ بعضهم بعضاً، ويُلقي كلّ منهم التبعية على الآخر؛ لذلك يقول تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (الصافات: 24-29).
هكذا يختصم التابع والمتبوع، وتتفرّق جماعتهم ولا يتناصرون كما تناصروا على كفرهم في الدنيا.
ويُصوِّر القرآن موقفاً آخر للكافرين، حيث سبق قادتهم ورؤساؤهم إلى النار، فجاء التابعون فوجدوا السادة قد سبقوهم، يقول تعالى: (هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ * هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ) (ص: 55-60).
وكوْنُ القادة يسبقون أتباعهم إلى النار يدلُّ على أنهم أعظم جُرْماً من التابعين لهم؛ لأنهم ضلُّوا في أنفسهم وأضلُّوا غيرهم، وفيه أيضاً قطْعٌ لأمل التابعين في النجاة والخلاص من النار، ومَنْ يخلصهم وقد رأوا سادتهم وقادتهم قد سبقوهم إليها?
وفي المقابل يعرض الحق سبحانه هذا الحوار بين المؤمنين في الجنة: (قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) (الصافات: 51) أي: صاحب من أهل الكفر: (يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ) (الصافات: 52-55).
يعني: نظر من السور فإذا بقرينه في سواء الجحيم، يعني: في وسطها.
فقال: (تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ) (الصافات: 56) تهلكني معك(وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ) (الصافات: 57).
وقد يكون حواراً بلا خصام، كما في قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (الأحزاب: 66-68). |
|