أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: 3ـ التلطُّفُ في الدعوة* السبت 23 يناير 2021, 9:49 pm | |
| 3ـ التلطُّفُ في الدعوة*بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد...
قابل رجلٌ الخليفةَ الراشدَ هارونَ الرشيدَ في موسم حجٍّ، فقال له: إني أريد أن أعظك بعظةٍ فيها بعض الغلظة؛ فاحتملها، قال الرشيد: كلا، إن الله أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌ مني، قال لنبيه موسى -عليه السلام- إذ أرسله إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). كان هارون الرشيد أميرًا للمؤمنين صالحًا ورِعًا، بكّاءً عند الموعظة، مُحِبًا للعلم والعلماء، يأذن لهم بالدخول عليه، ويذهب لهم في مجالسهم، ويستوعظهم فينتفع بمواعظهم، ودخل عليه ابن السماك يومًا، فقال له هارون الرشيد: عظني يا ابن السماك، وفي يد هارون الرشيد كوبُ ماء يريد أن يشربه، فقال: بكم تشتري هذه الشربة لو منعتَها؟ فقال: أشتريها بملكي كله، قال: إذًا فاشرب، ثم قال له: بكم تفتدي نفسك لو حُبسَت فيك؟ فقال: أفتدي نفسي بملكي كله، ثم بكى هارون الرشيد وقال: ويلُ ابن الرشيد، فإن ملكه لا يساوي شربةً وبولةً.
وكان هارون الرشيد -رحمه الله- يسافر إلى الحج، فلقيه رجلٌ يومًا واستأذنه أن يعظه موعظة فيها من الغلظة، فأبى عليه الرشيد، وعلّل رفضه بما أمر الله به سيدنا موسى من الليونة في القول مع فرعون، فقال: إن الله أمر موسى وهو خيرٌ منك أن يلين القول لفرعون وهو شرٌّ مني فقال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
من العبر في هذا الموقف أنه يُذكِّر بالحق الذي أوجبه الله بين المسلمين، وهو حق النصيحة، كما ورد في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سبب خيرية هذه الأمة، كما قال الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب بقاء هذه الأمة، كما ورد بذلك حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ من عنده".
كما جعل الله هذا التناصح إحدى دعائم الفوز والفلاح، فقال -سبحانه-: (وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)).
ولهذا عرض الرجل على هارون الرشيد أن يعظه، فلم يرفض الموعظة، وإنما رفض أسلوب التغليظ في الموعظة.
نعم، هذا الموقف يبين آداب الدعوة، فإن منهج الله في دعوة عباده إليه هو التلطف والرحمة، ففي بداية طريق الدعوة يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، ويظهر هذا المنهج واضحًا في دعوة الأنبياء لأقوامهم، فكلّهم كان ينادي قومه الكافرين قائلًا: ياقومي، ويقول سيدنا إبراهيم لأبيه: ياأبت، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لقومه الكافرين: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) حكاه الله في القرآن، ويقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون".
ويأمر الله -تعالى- بهذا المنهج الحكيم في قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن).
وقام أعرابيٌ في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبول في ناحيةٍ من المسجد، فقام الصحابة ينتهرونه، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يُريقوا على بوله سَجْلًا من ماءٍ.
والله -تعالى- يعلم أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى، ومع ذلك أمر موسى بإلانة القول له، هذا لأن الله -تعالى- يؤسس لموسى وأتباعه منهج الدعوة إلى الله، ولأن موسى لم يُبعث إلى فرعون فقط، وإنما بعث إليه وإلى غيره.
فهذا هو منهج الله الذي أوحى به إلى كل الأنبياء، ليتّبعوه في دعوة العباد إلى الله، فلو شاء الله لقهر العباد على طاعته، ولحَمَلَهم على عبادته، ولكن لأنه هو الغني الحميد لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة؛ كَلّف عباده بالإيمان، ورضي لهم أن يأتوه راغبين محبين، وأمر الدعاة إليه بالتلطف في جمع العباد عليه، وينبغي لكلّ من تصدى للدعوة أن يفقه الدعوة، ويعرف كيف يدعو، ومتى يدعو، كما قال -تعالى-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11))
|
|