أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة يس الآيات من 66-70 الخميس 21 يناير 2021, 12:13 am | |
| وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (٦٧) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
يعني: كما ختمنا على أفواههم ومنعناهم الكلام لو شِئْنا لطمسنا أعينهم يعني: أغلقناها وسوَّيناها، بحيث لا يظهر لها أثر في وجوههم، وإذا طمسنا على أعينهم فقدوا البصر، فكيف يبصرون وهم يسابقون إلى الصراط؟
لقائل أنْ يقول: إذا فقدوا البصر على الصراط، فقد تكون لهم بدائل وحيل تُسعفهم، كأن يتحسس طريقه بعصا مثلا، أو يجد مَنْ يأخذ بيده ويرشده، فالحق -سبحانه وتعالى- يُطوِّقهم من كل نواحيهم، ويقطع أملهم في النجاة، فيقول: (وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ) (يس: 67).
فالأمر لا ينتهي عند العمى والطمس على الأعين، إنما هناك ما هو أشد، أنْ يمسخهم في أماكنهم ويجمدهم فيها، فلا يستطيعون حراكاً.
والمسخ أنْ يصيروا كالمساخيط لا يتحرك، أو مسخناهم يعني: حوَّلنا صورهم إلى صور قبيحة، إذلالاً وإهانة لهم.
والمعنى الأول أوجه، لأنه تعالى قال بعدها: (فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ) (يس: 67).
لأنهم تجمدوا في أماكنهم، فلا حركة لهم لا إلى الأمام بالمضيِّ فى الطريق الجديد الذي هم مُقبلون عليه، ولا حتى العودة في الطريق الذي جاءوا منه وألِفُوه. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة يس الآيات من 66-70 الخميس 21 يناير 2021, 12:13 am | |
| وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (٦٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الحق سبحانه قد أعذر بأنه أنذر، وأعذر لأنه قال لهم لا تعبدوا الشيطان وبيَّن عداوته، وقال: اعبدوني واسلكوا صراطي المستقيم، إذن: ليس لهم عذر حين كفروا بالله وأطاعوا الشيطان وعبدوه، لكنهم قد يعتذرون من ناحية أخرى فيقولون: يا رب أنت أخذتنا ولو عشْنا لاهتدينَا وعُدْنا إلى الصراط المستقيم، فيرد الله عليهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ..) (فاطر: 37).
يعني: قد عمَّرناكم عمراً طويلاً يكفي للتذكُّر والعودة فلم تعودوا، ثم إن التعمير يُورِث الضعف والوَهَن وعدم القدرة، فأنت أول الحياة عندك فتوة وقوة ونشاط بدني وذهني، لكن مع الكِبَر تضعف البنية، وتقِلُّ القوة العضلية والعقلية، ويعود الإنسان إلى الضعف الذي بدأ به وهو طفل صغير، وكما قال تعالى: (لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً..) (النحل: 70).
فإذا كنتم لم تعودوا ولم ترعووا في فترة القوة وسلامة العقل والتفكير، أتعودون في فترة الهَرم والضعف والنسيان؟
لذلك يقول هنا الحق سبحانه: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ) (يس: 68) نطيل عمره ونَمُد له فيه (نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ) (يس: 67) الانتكاس: العودة إلى الوراء، والرجوع إلى ما كنتَ عليه أولا، فَطُول العمر يعود بالإنسان إلى مرحلة الطفولة الأولى، فهو نكسة في حقه حين يصير شيخاً هرماً لا يستطيع الحراك ولا الكلام، وتأخذ ذاكرتُه في الضعف فينسى ويخرف، فهو كالطفل تماماً يحتاج مَنْ يحمله ويُطعمه ويُزيل عنه الأذى.. الخ، فهل في هذه الحال عودة؟
وهل ينفع معها تفكُّر وتدبُّر؟
(أَفَلاَ يَعْقِلُونَ) (يس: 68) يعني: أين عقولكم في هذه المسألة، والحق سبحانه يسوقها بأسلوب الاستفهام، ولا يأتي بها على سبيل الإخبار ليجيبوا هم ويُقِرُّوا على أنفسهم بعدم التعقُّل. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة يس الآيات من 66-70 الخميس 21 يناير 2021, 12:14 am | |
| وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
نلحظ هنا نقلة في سياق هذه الآيات، فما العلاقة التي نقلتنا من الكلام عن الآخرة وجزاء الكافرين المجرمين إلى الحديث عن سيدنا رسول الله؟
نعرف أن المقاصد الأصلية للتديُّن هي أولاً: توحيد الله، ومعنى التوحيد لله تعالى أن تشهد أنه واحد أحد، ولكل من الوصفين معنى لا يؤديه الآخر، فلكل منهما (ما صدق)، فمعنى (واحد) أي: من حيث الوجود هو واحد لا فرد آخر معه.
أمَّا أحد فيعني أنه في ذاته سبحانه ليس مُكوَّناً من أجزاء، فالإله أحَد في ذاته، لم تجتمع عدة أشياء في تكوينه، ذاته لا ترتكن إلى شيء، فمثلاً حين تأخذ الشيء الواحد كالكرسي مثلا، الكرسي في وجوده كرسي واحد، لكنه ليس واحداً، لأنه مُكوَّن من عدة أشياء، مُكوَّن من الخشب والمسامير والغِراء و (البوية).. الخ، فهو واحد ليس أحداً، أما الحق سبحانه فلاَ بُدَّ أنْ يُوصفَ بالوصفين معاً، فنقول: هو سبحانه واحد أحد؛ لأن لكل منهما معنىً.
ومسألة الواحدية مسألة عملية عقلية؛ لأن الله تعالى أعلن أنه الإله الحق، وأنه واحد لا شريك له، وأنه هو الخالق وحده، وهو الرازق، وهو الذي يستحق وحده أن يُعبدَ، هذه دعوى لم يَقُمْ لها معارض، والدعوى تثبت لصاحبها إلى أنْ يدَّعيها آخر، ونحن لم نَرَ أحداً ادَّعى الخَلْق لنفسه.
فلو كان معه سبحانه إله آخر أو آلهة أخرى فأين هم؟
لماذا لم يطالبوا بحقهم في هذه المسألة؟
أو أنهم سكتوا عنها أو لم يَدْرُوا بها؟
وعلى أيِّ حال من هذه الأحوال لا يصلحون لأَنْ يكونوا آلهة؛ لذلك يناقش القرآنُ هذه المسألة بكلام منطقي: (قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء: 42).
إذن: فالتوحيد هو الأساس الأصيل للدين، لكن لا أعرف بالعقل مطلوبَ الإله مني، لا بُدَّ أن يُبعَث لي رسول يخاطبني بمطلوب ربي مني، إذن: لا بُدَّ من رسول.
وهذا هو المقصد الثاني للدين.
وخطاب الحق للخَلْق طاقة كمال مطلق والبشر نقص مطلق؛ لذلك لا بُدَّ في هذا الخطاب من واسطة تستطيع التلقِّي عن هذا الكمال المطلق، وتستطيع التبليغ إلى الأقل كمالا، وهكذا تتدرج المسألة، فالله تعالى يخاطب الملائكة، والملائكة تخاطب الرسل، والرسل يخاطبون الناس.
فلا بُدَّ من (الرسالة) وهي المقصد الثاني للدين، والرسول هو الواسطة بين الخالق والخَلْق، والرسول ليس مُبلِّغاً فحسب، إنما مُبلِّغ وأُسْوة سلوك وتطبيق، كما قال سبحانه: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21) ولو كان الرسول مَلَكاً لما تحققتْ به الأسوة، ولا يمكن أنْ أُحمل على مطلوب الرسول إلا إذا كان الرسول من جنسي.
لذلك يقول تعالى موضحاً هذه القضية: (وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً) (الإسراء: 94) فيأتي الرد (قُلْ) أي رداً عليهم: (لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً) (الإسراء: 95).
إذن: كيف نُنزل مَلَكاً لبشر؟
لو نزل المَلكُ على طبيعته النورانية ما رآه البشر، ولا بُدَّ أن يأتيهم في صورة بشرية، لظلَّتْ الشبهة قائمة: (وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) (الأنعام: 9).
فلا بد -إذن- من وسائط هي أشبه ما تكون بـ (الترانس) في عالم الكهرباء، وهو أداة تأخذ من القوى وتعطى للضعيف دون أن تحرقه.
العنصر الثالث للدين هو الحشر؛ لأن الرسالة جاءتْ لتحمل المنهج: افعل كذا ولا تفعل كذا، هذا المنهج من الناس مَنْ سيسير عليه فيفعل ما أمر به وينتهي عما نُهي عنه، ومنهم مَنْ سينصرف عنه بل ويخالفه، إذن: لا بُدَّ من مَرَدٍّ يُثَاب فيه المطيع، ويُعاقَب فيه المخالف، هذا المردُّ هو الحشر.
فالحق سبحانه تكلم عن التوحيد في قوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (يس: 60-61) وتكلم عن الحشر في قوله سبحانه: (هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) (يس: 63-64).
والآن يتكلم عن العنصر الثاني وهو الرسالة فنقول عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (يس: 69) أي: نحن لا المجتمع ولا البيئة التي يعيش فيها؛ لذلك كانت الأمية في رسول الله شرفاً؛ لأنه لو لم يكُنْ أمياً لكانت ثقافته من الخَلْق.
أمَّا أميته فتعني أنه أخذ ثقافته وعلمه من الله؛ لذلك كان من شرفه -صلى الله عليه وسلم- أن يكونَ أمياً، ومن شرف أمته أنْ تكون أمية، لأنها لو كانت أمة متعلمة لقيل إن ما حدث في الجزيرة العربية ما هو إلا قفزة حضارية، كما قالوا: لَمّا نصرنا الله في حرب رمضان ورأينا بأعيننا تأييد الله لنا، ومع ذلك قالوا: نَصْر حضاري.
فالحق سبحانه يقرر هذه الحقيقة: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ) (يس: 69) لَكُنَّا علمناه غير الشعر، فرسول الله مُعلَّم نعم، لكن مُعلَّم مِنْ مَنْ؟
من ربه، لم يأخذ شيئاً من البشر.
وقد يُظَنُّ أن الله لم يُعلِّمه الشعر؛ لأن الشعر يحتاج إلى ثقافة لغوية وعِلْم بالأوزان والقوافي، ولا بُدَّ له من الحِسِّ المرهف والأذن الموسيقية إلى آخر هذه الأدوات التي يحتاجها الشاعر وربما لم تتوفر هذه الأدوات لرسول الله كما أنها لم تتوفر لكثيرين غيره.
فيرد الله تعالى هذا الظن، ويقول: (وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (يس: 69) يعني: لم نُعلمه الشعر لنقصٍ في إمكانياته، فلو أراد أنْ يقول شعراً لَقَالَ الشعر على أحسن مَا يُقَال، لكن لا ينبغي له ذلك؛ لأن مهمة الرسول خلاف مهمة الشاعر، فأغلب الشعر في الكذب وفي الشر، فإذا دخل في الخير ضَعُفَ ولاَنَ، ذلك لأن طبيعة الشعر أن ينطلق ويُحلِّق في الخيال، وأن يقول الشاعر ما يحلو له أياً كانت غايته؛ لذلك قالوا: أعذب الشعر أكذبه.
وكثيراً ما نرى الشعراء أصحاب القيم والأخرق يصعب عليهم الجمع بين مطلوب الإيمان منهم، وما تدعوهم إليه مَلَكة الشعر عندهم، فلا يملكون إلا أنْ يحصروا أنفسهم في شعر القيم والأخلاق والفضائل، ويبتعدوا عن شعر الهجاء والغزل.
والشاعر المهجري الذي عُرِف عنه التقوى والصلاح، فحاول أنْ يجمع بين هذه التقوى والموهبة الشعرية لديه فقال: مَوْلاَي إنِّي قَدْ عَصَيْتُكَ عَامِداً لأَرَاكَ أَجْمَلَ مَا تكُونُ غَفُوراً وَلَقَدْ جَنَيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ كِبَارَهَا ضَنّاً بِعَفْوِكَ أنْ يكُونَ صَغِيراً
فأجاد في الأولى، ولم يُوفَّق في الثانية.
وسيدنا حسان بن ثابت، كان شاعراً مجيداً في الجاهلية، فلمَّا أسلم قالوا له: لاَنَ شعرك يا أبا الحسام.
فقال: الشعر نكِد يَقْوى في الشر، فإذا دخل في الخير ضعُفَ ولاَنَ.
فقوله تعالى: (وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (يس: 69) دفع عن رسول الله الاتهام بأن طبيعته ليست شاعرية، أو أنه غير مُرْهف الحس، وأن أذنه غير موسيقية، إلى آخر هذا الهراء، وكيف يُتَّهم بهذا مَنْ علَّمه الله، وباشرتْ أذنه الوحي؟
أما القول بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنشد الشعر، نعم أنشد رسول الله الشعر، لكن لم ينشده مستقيماً، بل خالف فيه حتى لا يظلَّ البيتُ على استقامة وزنه، فلما أنشد: سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيأْتِيكَ مَنْ لَم تُزوِّدِ بِالأَخْبَارِ
وورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أصدق كلمة قالها لبيد: أَلاَ كُلُّ شيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعيمٍ زائِلٌ لاَ مَحَالَةَ.
والصواب: أَلاَ كُلُّ شيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلٌ وَكُلُّ نَعيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
إذن: كان سيدنا رسول الله يكسر وزن البيْت، حتى لا يُقال إنه أنشد الشعر، مع أن الله تعالى قال: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ) (يس: 69) لكن لم يَنْه رسول الله عن إنشاده، فكأن رسول الله يحتاط للأمر، فيقول ولا أنشده أيضاً، ليكون بعيداً عنه كلية.
هذا عن الإنشاد، أما عن قوله الشعر بنفسه، فيرى البعض أنه -صلى الله عليه وسلم- قال شعراً مثل قوله في غزوة حنين: أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِب أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطَّلِبِ
نعم جاء هذا القول من رسول الله موافقاً لوزن شعريٍّ يسمونه الرَّجز، فهو قول صادف وزناً شعرياً وفرْق بين نَظْم الكلام وإخضاعه للوزن والقافية، وبين كلام يصادف وزناً دون قصد، وإلا ففي القرآن نفسه آيات صادفت وزناً شعرياً، فهل نقول إنها شعر؟
واقرأ مثلاً: (لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ..) (آل عمران: 92).
(فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (يوسف: 32).(نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) (الحجر: 49).
هذه وغيرها آيات صادفت وزناً شعرياً، لكنها لا تُسمَّى شعراً؛ لأن الشعر قول موزون مُقفَّى قصداً.
الحق سبحانه حكى عن رسوله أن الكفار اتهموه فقالوا: ساحر وشاعر وقالوا: كاهن، لكن القرآن رَدَّ عليهم في مسألة الشعر، ونفى أن يقول الرسول شعراً: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ) (يس: 69) ولم يَنْفِ عنه السحر ولا الكهانة..
لماذا؟
قالوا: لأن مهمة رسول الله بلاغ القرآن عن الله، والقرآن من جنس الأساليب الراقية، وأقرب شيء إليه الشعر لذلك نفاه القرآن، أما السحر فطلاسم وكلام لا معنى له، فلم يَقُلْ: وما علمناه السحر.
ولو أن لهذه الكلمة مدلولاً لكان الرد عليها سهلا، فإذا كان محمداً ساحراً سحر المؤمنين به، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً، إذن: تكذيبكم له وكفركم به أدَلُّ شيء على أنه ليس ساحراً، وهل للمسحور إرادة مع الساحر.
وفي قولهم كاهن ردٌّ عليهم: (وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ) (الحاقة: 42) لأن قَوْلَ الكاهن كلام مسجوع سَجْعاً بارداً، والقرآن خلاف هذا كله، ثم إنكم أهل فصاحة وبيان، وأنتم أعلم الناس بالأساليب والتمييز بينها، فهل يخفى عليكم أنْ تفرقوا بين القرآن وغيره من الكلام وأنتم أمة كلام، وتجعلون للكلمة أسواقاً ومعارض؟
ثم يُبيِّن الحق سبحانه العلة في عدم قول الرسول للشعر، فيقول سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (يس: 69) إن هنا بمعنى ما النافية.
يعني: ما هذا القرآن إلا تذكير لمن يعقل وقرآن مبين.
أي: بيِّن واضح يُتلَى، وقد يكون له نَغَم ألذّ في أذن الوَرع من الشعر، لذلك بعض الناس يسمع القرآن فتأخذه نشوة وإعجاب، ولو سألته تجده لا يعرف ما يحدث له..
لماذا؟
قالوا: لأن الذي يتكلم الله، والذي يسمع خلق الله، فالله تعالى يتكلم بالكلام الذي يؤثر ويستميل المخلوق لله الذي ما يزال على فطرته التي فطر الناس عليها، فإنْ خرج عن هذه الفطرة لم يؤثر فيه القرآن هذا التأثير، ذلك لأن القرآن واحد أمَّا الفطرة المستقبلة فتختلف.
والحق سبحانه يشرح لنا هذه المسألة في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً) (محمد: 16) فأمره الله أنْ يردّ عليهم: (قُلْ هُوَ) (فصلت: 44) أي: القرآن: (لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (فصلت: 44).
ذلك لأن فاعلَ الشيء غير قابله، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بكوب الشاي الساخن تنفخ فيه ليبرد، وفي الشتاء تنفخ في يديك لتُدفئها، فالنفخة واحدة، لكن المستقبل لها مختلف، كذلك حال الناس في تلقِّى القرآن، فمَنْ تلقى كلام الله بفطرة سليمة فهمه وتأثر به، ومَنْ تلقى كلام الله وهو منشغل عنه أُغْلِق عليه، فلم يفهم عن الله ولم يتأثر بكلامه.
لذلك نرى بعض الناس من غير العرب لا ينطق بكلمة عربية، لكنه ساعة يسمع أو يقرأ كلام الله تجد له انفعالَ مواجيد، وتدمع عيناه..
لماذا؟
لا بد أن شيئاً في تكوينه تأثر بهذا الأسلوب.
وإذا كان الحق سبحانه أوحى إلى الجماد فانفعل لكلامه، وأوحى إلى الحيوان ففهم عنه، فمن باب أَوْلَى يكلم الإنسان العاقل بكلام يصادف طبيعته ويؤثر فيه، فيتأثر وينفعل.
ثم يقول سبحانه مبيِّناً مهمة هذا الذِّكْر وهذا القرآن المبين: (لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً) (يس: 70) نعم، سماهم أحياء وخطابك لهم دليل على أنهم أحياء، لكن أحياء الحياة المادية التي تنتهي بالموت، إنما هناك حياة أخرى بالعقل والفكر وبالقيم الروحية، وهذه لا يظهر أثرها إلا بعد الموت.
والناس جميعاً يشتركون في الحياة المادية؛ لذلك يُسمَّى العنصر الذي يدخل على الحياة المادية لتأخذ طابع الحياة الروحية (الروح)، فالروح روح من أمره سبحانه، وبعد أنْ يعطيه الروح التي تحيا بها المادة يعطيه الروح التي تحيا بها القيم، وحياة القيم قُلْنا: إنها ترتقي بك لتعطيك قيمة في الآخرة، وقد تعطيك في الدنيا راحة البال واستقامة واستقراراً، لكن تظل الحياة الحقيقية في الآخرة.
فإذا شاء الله أُعْطِي الإنسانُ حياةً موصولة كما أعطي سيدنا يحيى، فلما دعا سيدنا زكريا ربه(قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) (مريم: 4-6).
فأجابه الله: (يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) (مريم: 7).
إذن: بشَّره الله بالغلام، وسمَّاه اسماً يدل على أنه سيعطيه حياة موصولة؛ فحين تسمى ولدك ذكي مثلاً تفاؤلاً أن يكون ذكياً، أو نبيل تفاؤلاً أن يكون نبيلا، لكن أتملك أنْ تحقق رغبتك هذه.
لذلك قال الشاعر: وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيحيَاْ فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ
نعم، أنت سميتَ، لكنك لا تهب الحياة، واهبُ الحياة هو الله، فإذا سَمَّى الله يحيى فلا بُدَّ أن يحيا حياة موصولة؛ لذلك مات سيدنا يحيى شهيداً، لتتصل حياته الدنيا بحياة الآخرة، وليحقق فيه ما أراده الله.
ومعنى: (وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ) (يس: 70) أي: يستحق لهم العذاب؛ لأنهم لم ينتفعوا بالإنذار.
ثم يتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن بعض آياته في الكون: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ...). |
|