أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة يس الآيات من 60-65 الخميس 21 يناير 2021, 12:10 am | |
| أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كأن سائلاً سأل: وهل يستحق الكفار كلَّ هذا العذاب وهذا الغضب من الله تعالى؟
فيجيب الحق سبحانه: نعم، يستحقون؛ لأن الله نبَّههم وحذرهم فلم يستجيبوا، ذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ) (يس: 60).
فالحق سبحانه لم يأخذكم على غِرَّة، إنما نبَّهكم وبيَّن لكم مداخل الشيطان وحبائله وحِيلَه؛ لأن الشيطان من خيبته رمى بكل مداخله مع المؤمنين أمام الله، فحذرنا الله منها، وبيَّن لنا عداوته لنا، وعداوته المسبقة مع آدم -عليه السلام- منذ أنْ أُمِر بالسجود فأبى.
ولم يَنْتهِ أمره عند عدم السجود، إنما أغوى آدم، وأراد أن ينتقم منه ومن ذريته من بعده، بل وأقسم على ذلك أمام خالقه سبحانه، فقال بجبروت الإغواء كما حكى القرآن: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص: 82) لكنه تذكر عبوديته الحقة للرب الأعلى، فقال: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ) (ص: 83).
فهؤلاء لا مدخلَ لي إليهم، والمعنى أن الخصومة ليست بيني وبينك، إنما بيني وبين آدم.
وحين أقسم إبليس، أقسم قسماً يؤكد قدرته على ما يهدد به، فمثلاً سحرة فرعون حين أقسموا قالوا: (بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ) (الشعراء: 44).
أمَّا إبليس فيعرف جيداً كيف يقسم، فقال: (فَبِعِزَّتِكَ) (ص: 82) يعني: باستغنائك عن خَلْقك، مَنْ شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليكفر، هذا هو الباب الذي سأدخل منه إليهم، أمَّا من تريده أنت يا رب، فلا أستطيع أن أقترب منه.
ومعنى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (يس: 60) يعني: آمركم كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه: 115).
يقول تعالى: ألم آمركم يا بني آدم أنْ تحذروا مكايد الشيطان، وأن تتنبَّهوا إلى مداخله إليكم وشباكه وخططه، ألم يقل هو نفسه: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16).
إذن: كان ينبغي ما دُمْتم أخذتم المصْل الواقي أن تكون لديكم المناعة اللازمة لمواجهة هذا العدو، خاصة وقد أسفر عن وجهه، وأوضح خططه، فهو لكم على الصراط المستقيم، ومداخله من سبل الطاعة لا من سبُل المعصية، الشيطان لا يأتي أهل الفجور ورُوَّاد الخمارات، إنما يأتي أهل الطاعات ليفسدها عليهم.
وصدق الشاعر الذي قال عَمَّن أسرف على نفسه في المعاصي: وَكُنْتُ امْرءاً مِن جُنْدِ إبْليسَ فَارْتَقَى بِيَ الحَالُ حَتَّى صَارَ إبْليسُ مِنْ جُنْدِي
ومعنى: (أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ) (يس: 60) عبادته طاعة نزغاته ووسوسته، والعلة في ذلك (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس: 60) يعني: عدو بَيِّن العداوة، محيط بأساليب الكَيْد لأعدائه.
وبعد أن نهانا ربنا -تبارك و تعالى- عن عبادة الشيطان يُوجِّهنا إلى العبادة الحقة: (وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (يس: 61) حين نتأمل هاتين الآيتين نجد أن العلة في النهي عن عبادة الشيطان (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس: 60) كان القياس في الآية بعدها: وأن اعبدوني لأنني حبيبكم كما جاء في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، أنا لك مُحِبُّ، فبحقي عليك كُنْ لي محباً".
لكن الحق سبحانه لم يُعلل عبادته سبحانه بالمحبة، إنما اعبدوني لأني أدعوكم إلى الصراط المستقيم النافع لكم المنظِّم لحياتكم، اعبدوني لهذا، أما مسألة المحبة فهي موجودة وأنا أحبكم، فسواء كنتُ أحبك أو لا أحبك كان ينبغي عليك اتباع هذا الصراط المستقيم؛ لأنك المستفيد منه.
ولأهل المعرفة وقفة عندما قرأوا: (ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6) (هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (يس: 61)، (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ) (الأنعام: 153).
قالوا: الصراط المستقيم هو الطريق العَدْل الذي لا اعوجاجَ فيه، ويمثل أقربَ الطرق وأقصر مسافة بين نقطتين، وساعةَ تسمع كلمة الطريق تعرف أن له بداية ونهاية من..
إلى، وهنا إشارة لطيفة ينبغي أن يتنبه لها المؤمن، هي أن الدنيا بالنسبة لك ما هي إلا طريق أنت تسير فيه، له بداية وله نهاية، فهي -إذن- ليستْ دارَ قرار وإقامة، إنما دارُ عبور ومرور.
والإنسان حينما يقيم في مكان ولا يجد به راحته يتركه إلى مكان آخر، ولو استقام له المكان الأول ما تركه؛ لذلك يقول تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا..) (النساء: 97).
وهذه الهجرة أيضاً تحتاج إلى طريق أهاجر فيه من.. إلى.
فكأن الحق سبحانه يقول لك: أنت في الدنيا عابر سبيل، إلى غاية أعظم وأشرف، فاسلُك إليها أقرب الطرق الموصِّلة إليها، وإذا كنتَ قد عاينتَ بنفسك (مِنْ) في الدنيا التي تعيشها، فإن الله تعالى قد أخبرك عن (إلى) التي تسير إليها.
أنت في الدنيا تعيش بالأسباب المخلوقة لله، والممدودة إليك في: الأرض التي تعيش عليها، والماء الذي تشربه، والهواء الذي تتنفسه، والعقل الذي تفكر به... الخ، لكن ربك الذي مدَّ لك هذه الأسباب، يخاف عليك الغرور بالأسباب: (كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ) (العلق: 6-7).
لذلك يجعل هذه الأسباب تتخلف في بعض الأحيان، كي تتعلق أنت بالمسبِّب سبحانه، وتظل على ذكر له سبحانه، فتدعوه وتلجأ إليه.
ومن الناس مَنْ يحب الله دعاءهم، ويحب أنْ يسمع أصواتهم، فيبتليهم ليدعوه فيسمعهم، وآخرون يكره الله نداءهم، فيأمر الملائكة أنْ تقضي حوائجهم، حتى لا يسمع لهم صوتاً.
ثم يحكي لنا الحق سبحانه تاريخَ الشيطان مع بني آدم، هذا التاريخ الذي كان علينا أنْ نتذكره دائماً: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة يس الآيات من 60-65 الخميس 21 يناير 2021, 12:10 am | |
| وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الجِبلّ: هم القوم الأشداء الأقوياء.
وحين ترى مادة (جبل) فاعلم أنها تدُلُّ على القوة والشدة والثبات والفخامة، ومن ذلك سُمِّيَ الجبل لثباته ونقول: فلان جُبل على كذا.
يعني: صفة أصيلة فيه، ثابتة في شخصيته، فبَيْنَ هذه الأشياء جامع اشتقاقيّ واحد؛ لذلك نُشبِّه الرجل العاقل بالجبل؛ لأنه ثابت لا تهزه الأحداث.
ومن ذلك قول الشاعر يرثي أحد الخلفاء، وقد رأى الناسَ يحملونه إلى قبره: رَضْوَى عَلَى أَيْدِى الرِّجَالِ يَسِير
ورَضْوى جبل معروف.
ومعنى: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ) (يس: 62) يعني: لستم أول مَنْ أضلَّه إبليس، فقد أضلَّ قبلكم قوماً كثيرين كانوا أقوى منكم، ولعب بهم حتى جعل منهم أداة للضلال، فلم يقف عند حَدِّ ضلالهم هم، إنما ضَلُّوا وأضلُّوا، حتى صاروا جُنْداً من جُنْده كما قلنا.
ويكفي في عظمة الحضارات القديمة أن الحضارة الحديثة حضارة القرن العشرين -قرن الاختراعات والاكتشافات والتقدم العلمي الهائل- تقف مبهورة أمام حضارة قديمة مثل حضارة الفراعنة مثلا، بل وتقف عاجزة عن فهمها، والوصول إلى أسرارها، وكان على رأس هذه الحضارة فرعون.
فماذا فعل به الشيطان، أغواه وأضلَّه، حتى قال لقومه: (أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ) (النازعات: 24).
وحكى عنه القرآن فقال: (فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54).
ففرعون وأمثاله من الأقوياء ما استطاعوا أنْ يواجهوا الشيطان، وما استطاعوا النجاة من مكايده؛ لأنه دخل إليهم من مدخل شهوات النفس، ثم صعَّب عليهم الطاعات، فمالوا إلى المعاصي وانصرفوا عن الطاعات.
ثم يُؤنِّب الحق سبحانه هؤلاء العاصين: (أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ) (يس: 62) يعني: أين كانت عقولكم حين انسقتُمْ وراءه، بعد أن حذرناكم منه وبيَّنا لكم مداخله، وحين يردُّك خالقك إلى العقل، ويأمرك بإعماله فاعلم أن نتيجة إعمال العقل موافقة لمراده سبحانه منك، فإنْ أعملتَ عقلك في كَوْن الله وآياته، لا بد أنْ تصل إلى نتيجة مرادة لله تعالى، كذلك أنت لا تأمر مخاطبك بأنْ يُعمل عقله في شيء، إلا إذا كنتَ واثقاً أنَّ نتيجة هذا العمل في صالحك، ووِفْق هواك، ولو كنتَ تعرف أن النتيجة على خلاف ما تريد ما أعطيتَه الفرصة لإعمال عقله.
ومثَّلْنَا لذلك بالبائع الذي يبيع سلعة جيدة، فإنه يدعوك إلى فحصها وتأمُّلها والتأكد من جودتها، فبائع الأصواف مثلاً يعرض عليك الثوب، ويُبيِّن لك جودته، ويشعل الثقاب، ويحرق لك خيطاً من خيوط النسيج، إنه لا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته وأنك لا بُدَّ مقتنع بها، حريص على شرائها، أما الغَاشُّ فيحاول إقناعك بكلام نظري معظمه كذب وتدليس، ويحاول أنْ يصرف ذهنك وفكرك في الشيء، لأن النتيجة لن تكون في صالحه.
كذلك الحق -سبحانه و تعالى- يقول: (أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ) (يس: 62).
يعنى: لو عقلتم لَتوصلْتُم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة يس الآيات من 60-65 الخميس 21 يناير 2021, 12:11 am | |
| هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هنا أيضاً اعتبر التخويفَ من جهنم وعداً لا وعيداً، وسبق أنْ عرفنا أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر.
ومن ذلك قول الشاعر: يَا دَهْرُ يَا مُنْجِزَ إيعَادِهِ وَمُخْلِفَ المأْمُولِ مِنْ وَعْدِهِ
وقُلْنا: سَمَّى ذلك وعداً؛ لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه يُعَدُّ خيراً؛ لأنك تستطيع تدارك الأمر، وتصحيح الخطأ.
وقوله سبحانه: (ٱصْلَوْهَا) (يس: 64) ادخلوها، واصْطَلُوا بنارها، واحترقوا بلظَاهَا، (ٱلْيَوْمَ) (يس: 64) أي: يوم الجزاء اليوم القائم الذي نحن فيه، أما ما قبله فقد مضى ومضتْ معه اللذات التي جاءت بكم إلى النار، ذهبتْ اللذات وبقيتْ تبعتها، ولم يعُد أمامكم إلا النار تحترقون فيها (بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) (يس: 64) يعني: هذه النار ليست ظُلْماً، إنما جزاء كفركم بنعمة الله، وهذا تقريع لهم؛ لأنهم لم يعرفوا للحق سبحانه نعمه عليهم، ولو عرفوا لله هذه النعمة ما كفروا بها.
لذلك حين تُحسِن إلى إنسان، فيقابل إحسانك بالإساءة يخجل أن يقابلك، ويستطيع أنْ يتحمل منك أيَّ عقاب، إلا أن تواجهه أنت..
لماذا؟
لأن حياء المسيء من المحسن أشدُّ عليه من العذاب، فكأن الله تعالى يقول لهؤلاء الكفرة بنعمه: استحيوا من الله، لأنه أنعم عليكم فكفرتم بنعمه، ولو أن عندكم إحساساً لكان تذكيركم بكفركم أشدَّ عليكم من هذه النار التي تَصْلوْنها.
ثم يقول سبحانه واصفاً حالهم، والعياذ بالله: (ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (يس: 65).
قوله: (ٱلْيَوْمَ) (يس: 65) أي: يوم القيامة والجزاء (نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ) (يس: 65).
نضرب عليها فلا يستطيعون الكلام، فالأفواه مَنَاط الكلام، وقبل أن يختم الله على أفواههم في الآخرة ختم على قلوبهم في الدنيا، بالأمس ختم اللهُ على القلوب فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، واليوم ختم الله على الأفواه ومنعهم الكلام، حتى لا يعتذرون ولا يستغفرون.
فالمقام هنا مقام حساب لا عمل، فلا جدوى من الاستغفار، ولا فائدة من الاعتذار، بل انتهى أوان الكلام والمنطق، ولم يعُد للسان دَوْر، اليوم تُغْلَق الأفواه وتُقيَّد الألسنة لتنطق الجوارح.
وتأمل بعدها: (وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (يس: 65) القياس كان يقتضي أنْ يقول الحق سبحانه (1649;لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ) (يس: 65).
ومثلها: ونُنْطِق أيديهم ونُشهِد أرجلهم، لكن السياق القرآني هنا مختلف، فبعد أنْ يختمَ اللهُ على أفواههم تُكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً، وتشهد أرجلهم تطوعاً لا أمراً، فلم نقل للأيدي: تكلمي، ولم نقل للأرجل: اشهدي.
وإنما تطوعتْ هذه الجوارح بالشهادة، مع أنها هي نفس الجوارح التي بُوشِرت بها المعاصي والذنوب في الدنيا، ومع ذلك تشهد لا على نفسها، إنما على النفس الواعية التي أخضع اللهُ لها الجوارح، وأمرها أن تسير وِفْق مرادها، ورهْنَ إشارتها في الدنيا.
أما ونحن الآن في الآخرة، وقد تحررتْ الجوارحُ من تبعيتها للنفس الواعية، وأصبح الملْكُ كله والتفويض كله لله تعالى، فالآن تتكلم الجوارحُ بما تريد، وتشهد بما كان أمام الرب الأعلى سبحانه وسبق أنْ مثَّلْنَا هذه المسألة بالكتيبة من الجيش يرسلها القائد الأعلى، وعلى الكتيبة أن تطيع أوامر قائدها المباشر، ولو كانت الأوامر خاطئة، إلى أن تعود إلى الأعلى، فتشكو له ما كان من القائد المباشر، هكذا الجوارح يوم القيامة.
فإنْ قلتَ: فلماذا أسند التكلم للأيدي، والشهادة للأرجل؟
نقول: لأن جمهرة الأعمال عادة تُسند إلى الأيدي، حتى لو كان المشي وسيلة العمل، وطالما أن الأيدي تتكلم، فكأنها أصبحتْ مُدَّعية تحتاج إلى شاهد فتشهد الأرجل.
أما مسألة: كيف تنطق الأيدي، فالذي أنطق اللسان وهو قطعة من لحم ودم قادر على أنْ يُنْطِق باقي الأعضاء الأيدي أو غيرها، وما دام الفعلُ لله تعالى فلا داعيَ للسؤال عن الكيفية، ثم إن الأيدي بها من الأعصاب أكثر مما بأعضاء الكلام.
وقوله تعالى: (بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (يس: 65) ولم يقُلْ: بما كانوا يعملون، لأن هناك فرقاً بين إنسان يُقبل على المعصية لكنه لا يفرح بها، بل يندم عليها ويعاقب نفسه على ارتكابها، وآخر يعتبر ارتكاب المعصية مكسباً فيفرح بها، ويتحدث عنها ويتباهى بارتكابها.
ومن حيث التحقيق اللغوي لمادة (كسب)، فإن هذا الفعل يأتي مجرداً (كسب)، ويدل على الربح في البيع والشراء، وعلى العمل يأتي من الإنسان طبيعياً، لا تكلُّفَ فيه ولا افتعال، وغالباً ما يُستخدم في الخير.
ويأتي هذا الفعل مزيداً بالهمزة والتاء (اكتسب)، ويدل على الافتعال والتكلّف، وتُستخدم هذه الصيغة في الإثم، وأوضحنا هذه المسألة فقلنا: إن الإنسان حين يفعل الخير يأتي الفعلُ منه طبيعياً تلقائياً، أما الشر فيتلصص له ويحتال، ذلك لأن الخير هَيِّن ليِّن سهل مقبول، أما الإثم فشَاقٌّ مخجل.
أنت حين تجلس مثلاً بين أهلك ترى زوجك أو بناتك أو عمتك أو خالتك.. الخ، وفيهن الجميلات والحسان، وأنت تنظر إليهن جميعاً دون تكلُّف ودون خجل، لأنه أمر طبيعي، أنا مع غير المحارم ومع مَنْ يحرم عليك النظر إليهن، فإنك تسرق النظرة وتحتال لها، حتى لا ينكشف أمرك، ولا يطلع أحد على نقيصتك.
فإذا جاءت كسب محل اكتسب، فاعلم أن صاحب المعصية ومرتكب الإثم قد تعوَّد عليه وألِفه، حتى أنه يفعله كأمر طبيعي فلا يخفيه ولا يستحي منه، بل يجاهر به، فَعَدّ الاكتساب في حقه كسباً، كما في هذه الآية: (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (يس: 65). |
|