أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة يس الآيات من 20-25 الثلاثاء 19 يناير 2021, 9:10 pm | |
| وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قوله سبحانه: (وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ) (يس: 20) يدل على أن الرسولين الأولين اللذين كذَّبهما القوم كان لهما أنصار مؤمنون بهما، مُصدِّقون لدعوتهما، فلما جاء الثالث وأيضاً كذَّبه القوم أخذتْ هؤلاء المؤمنين حَمِيَّة الحق، وكان منهم هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لِنُصْرة الحق وإعلاء كلمته، وقالوا: اسمه حبيب النجار.
ونلحظ في هذه الآية أولاً قوله سبحانه: (مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ) (يس: 20) أنه لم يكن قريباً من مكان هذه المناظرة الكلامية، وأنه تحمَّل المشاق في سبيل نُصْرته للحق، وهذا دليل على قوة الطاقة الإيمانية عند هذا الرجل، ودليل أيضاً على أن الرسولين السابقين قد بلغت دعوتهما أقصى المدينة.
ثم وصفه بأنه (رَجُلٌ) ولم يَقُلْ فلان، فذكر الصفة البارزة في تكوينه أنه رجل.
وهِمَّة الرجل هي التي تحدد مقدار رجولته، فرجل يريد الحياة لنفسه فقط والكل يخدمه، يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد، هذا رجل وطنه نفسه وذاته، ورجل وطنه أهله وعياله يُعدِّي إليهم منفعته، ورجل وطنه أمته، ورجل وطنه العالم كله مثل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو فلسفة الرجل.
إذن: هِمَم الرجال هي التي تحدد أوطانهم ومنازلهم، وأعلى هذه المنازل رجل وطنه العالم كله؛ لأن الخَلْق كلهم عيال الله، فمَنْ يحب الخير لهم وينثر عليهم ما ينفعهم فقد استأمنه الله على رزق العباد.
ومثّلنا لبيان ذلك قلنا: هبْ أن لك أولاداً، واحداً منهم يأخذ مصروفه فينفقه على ملذاته ورغباته وفيما لا يفيد، والآخر يشتري بمصروفه حلوى ويُوزِّعها على إخوته الصغار، فأيهما تُؤثِره بعد ذلك، وأيهما تزيده؟
كذلك اليد المناولة عن الله لخَلْق الله، وكأن الله يقول له: أنت مأمون على نعمتي، مأمون على خَلْقى.
ومن ذلك قول الشاعر: وَإنِّي امْرُؤٌ لاَ تَسْتَقِرّ دَرَاهِمِي عَلَى الكَفِّ إلاَّ عَابِرَاتِ سَبيلِ
وقوله (يَسْعَىٰ) (يس: 20) يعني: أن مجيئه لم يكُنْ عادياً، إنما مسرعاً يجري (قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ) (يس: 20) وقوله (يٰقَوْمِ) (يس: 20) نداء لتحنين المنادَى، كأنه يقول: يا أهلي، يا عشيرتي، يا أبنائي، فذكر ما بينه وبينهم من صلات المودة والرحمة.
وقوله (ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ) (يس: 20) يدل على تأييده لهم، وهو هنا يذكر الحيثية الأولى لهذا الاتباع هي أنهم مرسلون، ثم يذكر لهم حيثية أخرى فيقول: (ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) (يس: 21) يعني: لم يطلبوا منكم أجراً على دعوتهم.
وكلمة (مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً) (يس: 21) لا تُقال إلا إذا كان العمل الذي قام به يحتاج إلى أجر، والرسول ما جاء إلا لينفع المرسَل إليهم، فهو منطقياً يحتاج إلى أجر، لكن مَنْ يستطيع أنْ يوفيه أجره؟
لا أحد يوفيه أجره إلا الله؛ لأن نَفْع الرسول يتعدَّى نفْع الدنيا إلى نفع الآخرة، فمَنْ من البشر يعطي الرسول ما يستحقه؟
لذلك رأينا الرسل جميعاً يقولون هذه الكلمة: (إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ) (يونس: 72) يعني: أنتم أيها القوم لا تملكون مقدار أجري، ولا تقدرون على تقييمه، إنما يعطيني أجري الذي أعمل من أجله.
كل رسل الله قالوا هذه الكلمة إلا رسولين، هما: سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى عليهما السلام..
لماذا؟
قالوا: لأن إبراهيم كانت أول دعوته لأبيه آزر، ولا يليق أنْ يطلب منه أجراً على دعوته إيَّاه إلى الحق، كذلك سيدنا موسى أول ما دَعا دَعا فرعون الذي ربَّاه في بيته، وله فَضْل عليه، فكيف يطلب منه أجراً؟
وقوله سبحانه: (وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) (يس: 21) حيثية ثالثة لاتباعهم، فهم مُرْسَلُون من قِبَل مَنْ أرسله الله، والله لا يرسل إلا مَنْ يهدي إلى صراط مستقيم يوصل إليه سبحانه.
فهؤلاء المرسلون مهتدون في أنفسهم، وبالتالي هادون لغيرهم، فهو إذن يذكر الأمر وعِلَّته، فهؤلاء الرسل لا يسألون أجراً، ولا يدعون إلى ضلال، بل إلى هدى.
ثم يلتفت هذا الرجل إلى نفسه، فيقول للقوم: أنا لا آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوَة، ولو كنتُ سأغشُّكُم فلن أغشَّ نفسي (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي) (يس: 22) أي: خلقني من العدم، فهو أوْلى بالعبادة، هو الذي صنعني، أوجدني من عدم، وأمدَّني من عُدم، ولا زال يُوالي عليَّ نعمه، إذن: ما يمنعني أن أعبده وهو أَوْلَى بالعبادة، ولو لم تكُنْ عبادتي له إلا لأُكافئه على نعمه دون نظر إلى ثواب، لكانتْ عبادته واجبة.
وهذا ليس كلامَ رسول، إنما كلام رجل مؤمن متطوع باشر الإيمانُ قلبه، فأراد أنْ يزكّي إيمانه، وأنْ يُعدّى هدايته إلى غيره من باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". الحق سبحانه خلق الخَلْق أولا، ثم أرسل الرسل بالمنهج لهدايتهم، الرسل بدورهم بلَّغوا الأصحاب، ومَنْ بلغه شيء تحمله كما يتحمله الرسول، لذلك قال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها فرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع".
إذن: مسئولية الدعوة يتحملها أولاً الرسل، ثم المؤمنون بهم الذين بلغتهم الدعوة، وهذا التحمُّل ليس تفضُّلا، إنما تكليف من الله، لذلك قال سبحانه: (لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، فكما شهد الرسول أنه بلغكم، فواجب عليكم أنْ تشهدوا على الناس أنكم بلَّغتموهم؛ لأن المؤمنين بالرسالة امتداد للرسول.
لذلك، رأينا هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لإعلاء كلمة الحق وتأييد الرسل لم يكن رسولاً ولم يكلِّفه أحد بهذا، إنما تطوَّع به؛ لأن طاقة الإيمان عنده دفعته إلى هذا الموقف.
ثم نراه يُطبِّق المسألة على نفسه أولا، فيقول: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي) (يس: 22) وهذا تلطُّف في عرض الدعوة وأحرى أنْ تُقبل.
وقوله: (وَمَا لِيَ) (يس: 22) كأنه يتعجب من أمر نفسه لو أنه لم يؤمن بالذي فطره، والتعجب من النفس أصدق ألوان التعبير، كأنه لا يماري ولا يداهن ويقول ما في نفسه، كما قال سيدنا سليمان -عليه السلام-: (مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ) (النمل: 20).
فالجواب ليس عند الغير، بل عنده هو، كأنه يقول: لا بُدَّ أن يكون الهدهد موجواً لكني لا أراه، فالقاعدة أنه يستعمل الكل والكل موجود، فالعجب عندي أنا: ما لي لا أراه، ثم يعيد الأمر: (أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ) (النمل: 20) يعني: إما أنْ يكون المانع من عندي أنا، أو من عنده، كأنه يُشكِّك في الأول، ثم يُدقِّق فيجده من عنده هو.
فقوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس: 22) كأن أمر الفطرة والخَلْق يقتضي أن تَعْبد الذي فَطر، والخروج عن هذا أمر يستدعي العجب.
لذلك في سورة البقرة الحق سبحانه يلقننا في مخاطبة الكافرين: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ) (البقرة: 28) يعني: كيف يكون ذلك منكم، إنَّ كفركم بالله الذي خلقكم ورزقكم أمر لا يجوز بالمنطق العقلي، فأخبرونا إذن الطريقة التي كفرتم بها.
والفَطْر: الخَلْق العجيب على غير مثال سابق؛ لذلك يقول سبحانه عن نفسه: (بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ) (البقرة: 117) يعني: خلق السماوات والأرض ابتداءً على غير مثال سابق احتذاه في الخَلْق.
أو: أن المعنى (ٱلَّذِي فَطَرَنِي) (يس: 22) أي: على الإيمان به إيمان فطرة، إذن: فإيمانه بالله إما إيمان شكر لمن خلقه وأوجده على غير مثال سابق، أو إيمان الفطرة الأولى التي فطر الله الناسَ عليها، واستجاب هو لِمَا في ذاته من هذه الفطرة.
وحين نتأمل مهمة هذا الرجل نجد أنه أشبه بالقلب بالنسبة لباقي أعضاء الجسم، أي: من حيث تكوين مراحل الإيمان، كيف؟
الجسم عبارة عن جوارح متعددة، لكل جارحة مهمة ووظيفة، وحياة الجسم تتطلب مقومات الحياة من الطعام والشراب والهواء، فيأكل الإنسان من نتاج الأرض، ويشرب من مائها.
وبعد عملية التناول وما فيها من نِعَم لله في أسنان تقطع، وأضراس تطحن، ولعاب يساعد في عملية البلع، وعصارات هاضمة... الخ، يتمثل الغذاء في الجسم إلى دم يستقبله القلب فيأخذ منه حاجته أولاً ليقوِّي نفسه على ضَخِّ الدم إلى باقي الأعضاء ليؤدي كلُّ عضوٍ مهمته.
كذلك، كان هذا الرجل من حيث قوة إيمانه، فبعد أنْ آمن واستقر الإيمان في قلبه أراد أنْ يُعدِّي إيمانه إلى قومه، وأنْ يُشِعَّ عليهم من الهداية التي تشرَّب بها قلبه، إذن: فهو يمثل قلب الرسالات، لذلك جاء في الحديث الشريف أن: "يس قلب القرآن" .
وهذه المسألة لم تأتِ إلا في يس، لذلك كانت هي قلب القرآن؛ لأنها جاءت بآخر مرحلة من مرَاحل الرسالات التطوعية التي تخدم الرسالة الواجبيّة.
وما دام أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن يس قلب القرآن، فعلى المؤمن أنْ يقبل كل ما جاء في فضلها مما صَحَّ عن رسول الله، وليس من الضروري أن نقف على عِلَّة كل شيء، لأن الإيمان كما قلنا غيب ومشهد، والمؤمن يأخذ من صِدْق ما شاهد دليلاً على صِدْق ما غاب عنه.
إذن: لنأخذ هذه الأحاديث على العين والرأس، حتى إن قرأتَ يس، فلم تجد ما أخبرتْ به الأحاديث، فيكفيك أنك تقرأ كلام الله، ولن تُعدم الخير على أيِّ حال؛ لذلك رأينا بعضهم يضع الأحاديث التي تحثُّ على قراءة القرآن.
وقد ورد في حديث أُبيٍّ أن المريض الذي تُقرأ عنده يس تأتيه صفوف الملائكة على قدر كل حرف منها عشرة آلاف مَلَك، لا يفارقونه حتى يموت، ثم يشهدون تغسيله، ويشهدون تشييعه، والصلاة عليه ودفنه.
وفي رواية أخرى: مَنْ قُرئت عنده يس وهو مريض، أو قرأها هو لنفسه يأتيه جبريل -عليه السلام- بكأس فيه ماء، فيشربه شربةً لا يظمأ بعدها، ولا يحتاج إلى أحواض الأنبياء.
هذا كله وغيره على العين والرأس، وتحقق معناه عندنا، أو لم يتحقق.
وقوله سبحانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس: 22) يعني: لا تظنوا أنكم تفلتون من الله؛ لأنكم في قبضته، وأنتم في البدء كنتم منه بإقراركم، وكذلك تكون النهاية إليه والمرجع، فإنْ لم تُقدِّروا نعمة الإيجاد فقدِّروا مغبة العَوْد.
ونلحظ في هذه الآية أن الرجل المؤمن يتكلم عن نفسه بصيغة المفرد (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي) (يس: 22) ثم يعدل عن الإفراد إلى خطاب الجماعة والقوم المكذِّبين (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس: 22) ولم يَقُلْ: وإليه أرجع..
لماذا؟
قالوا: لأن الطاعة التي هي أصل العبادة إنما تأتي على مراحل ثلاث: الأولى: أنْ تطيع مَنْ تجد فيه نموذجاً كمالياً يستحق أن يُطاع، ويستحق أنْ يُحمد لكماله، وإنْ لم يَعُدْ عليك منه شيء، كما تنظر مثلاً إلى قصيدة رائعة معبِّرة فتعجب بقائلها وتثني عليه، أنت لا يعود عليك شيء منها لكنك تُقدِّر الشاعر لذاته.
الثانية: أن تطيع إنساناً وتُقدِّره لمنفعة تعود عليك منه، وكثيراً ما نرى الناس يخدمون رجلاً جباناً لا يستحق أنْ يخدم، وما خدمه الناسُ إلا طمعاً فيما عنده.
والمرحلة الثالثة: أنْ تطيع شخصاً أو تحترمه لمجرد الخوف منه واتقاءَ شرِّه.
وقد حقق الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى المرحلتين الأولى والثانية في قوله (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي) (يس: 22) فأنا أعبده لأنه بكماله يستحق أن يُعبد، وأعبده لنعمه المتوالية، أما المرحلة الثالثة فجعلها لهؤلاء المكذِّبين من قومه، فقال (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس: 22).
يعني: تنبهوا يا قوم: إذا لم تقدروا في الله صفات الكمال التي يُحبُّ لأجلها، ولم تقدروا في الله نعمه المتوالية عليكم، فاعلموا أن العودة إليه والمرجع والمصير بين يديه، وهو سبحانه قوي عليكم، لا يفلت من قبضته أحد.
ثم يؤكد هذا الرجل المؤمن على مسألة عباده الله وحده، فيزيد: (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة يس الآيات من 20-25 الثلاثاء 19 يناير 2021, 9:18 pm | |
| أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الاستفهام في (أَأَتَّخِذُ) (يس: 23) يحمل معنى التعجُّب والإنكار، فهو يتعجب وينكر: كيف يتخذ من دون الله آلهة، والله هو الذي خلقه، وحين تتأمل معنى الفعل (أتخذ) تجد أن الشيء المُتَّخذ ليس أصلا، فمعنى اتخاذ آلهة أنها ليستْ آلهة في الحقيقة، وأنها لا تستحق أنْ تكون آلهة، لكن عمدتَ إليها فجعلتها آلهة، ومثله اتخاذ الولد في قوله تعالى: (مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ..) (المؤمنون: 91).
فالمعنى: أن الله تعالى ليس له ولد في حقيقة الأمر، وإنْ قلتم اتخذ الله ولداً، فهذا يعني أنه أتى سبحانه إلى ولد فتبنَّاه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وكما تقول أنت اتخذت ولداً.
يعني: أتيتَ إلى ولد لم تنجبه فتبنَّيْته.
إذن: ما دامت هذه آلهة متخذة، فالمعنى أنها ليس لها وجود أصلا، وكأن الرجل يُصحِّح للقوم فكرتهم عن العبادة.
وقوله سبحانه: (إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ) (يس: 23) هذه العبارة فيها لفتة لطيفة ينبغي تأملها؛ لأن صفة الرحمة في الرحمن تتناقض مع الضر، فكيف جمع السياق بينهما؟
نقول: إذا فسرتَ ما يجري عليك به قَدَر الله على أنه ضُرٌّ لك فتعقَّل أنه من رحمن، فلا بد أن يكون لمجريه عليك وهو الرحمن حكمة فيما أجرى، لذلك نقول: أحمدك ربي على كُلِّ قضائك وجميع قدرك، حَمْدَ الرضا بحكمك، لليقين بحكمتك.
فكأن الحق سبحانه يقول لك: تنبه أنه ليس كل ما تراه بقوانينك أنت ضاراً لك، هو كذلك؛ لن مُجريه عليك رحمن، ففي طيَّات هذا الضر نَفْع كثير.
كما يقدم الأب الحنون ولده للطبيب فيُجري له جراحة مؤلمة، أو يقطع جزءاً منه ليُصلح باقي الجسم، فهذا ضرر في الظاهر، وفي الحقيقة رحمة به.
لذلك سبق أنْ قلنا: إذا دخل عليك ولدك يسيل دمه، فلا تستقبل هذا إلا بالرضا، ولا بالسخط، إلا بعد أنْ تسأل عن الفاعل، فإنْ كان عدواً سخطَتْ عليه، وإنْ كان مُحباً تقبلْتَ ما حدث بالرضا، وقلتَ للولد: لا بد أنَّ عمَّك مثلاً رآك تخطئ فعاقبك.
كذلك لا تحكم على أقدار الله التي يُجريها عليك إلا من منطلق أنها من رحمن أرحم بك من الوالدة بولدها، وأنت خَلْقه وصَنْعته، وما رأينا أحداً من حمقى البشر يعمد إلى صنعته فيحطمها، إنما يعتنى بها، ويُعمِل فيها يد التجميل والتزيين، كما ترى النجار مثلاً يمسك بـ (الفارة) وينحت في الخشب.
أتقول: إنه يضر بصنعته؟
لا بل يُصلحها ويُزينها.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، أنا لك مُحب، فبحقِّي عليك كُنْ لي محباً".
أبعد هذا التودد من الخالق للخَلْق يُجْري عليهم ما يضرهم؟
وفي حياتنا العملية كثيراً ما نرى شواهد لهذه المسألة، فكثيراً ما يفوتك القطار أو الأتوبيس مثلا، فتأخذ الميعاد التالي، وفي الطريق تجد القطار أو الأتوبيس حدث له حادث فتصحح أنت فكرتك الأولى، وتُحوِّل غضبك لفوات القطار إلى شكر لله الذي نجَّاك، وكنتَ تظن غير ذلك.
إذن: انظر إلى مَنْ أجرى عليك الأقدار، ولا تنظر إلى المنفعة السطحية؛ لأن لله تعالى حكمة فيما يُجريه، تعلمها أنت أو لا تعلمها.
أيضاً كثيراً ما يُخفق أحد أبنائنا مثلاً في الامتحان وقد ذاكر واجتهد وحصَّل العلوم... الخ، لكن عَرَض له عارض من مرض أو غيره فلم يُوفَّق.
النظرة السطحية للأمور تقول: إنها شر وخسارة تدعو إلى السخط والعياذ بالله، لكن النظرة المتأنية المتأملة ترى لله تعالى حكمة في هذا الإخفاق.
فالأب العاقل في مثل هذه المواقف يقول لولده: يا بني، احمد الله فأنت دائم النجاح، ولعلك إنْ نجحتَ هذا العام لا تَسْلم من عيون الحاسدين، وهذه فرصة لك لتزيد من مجموعك لتدخل الكلية التي تريدها... الخ.
وهكذا يُوثق الوالد علاقة ولده بالله، ويُزيد من إيمانه ورضاه بربه، ويُبعده عن السخط وعدم الرضا بالقضاء، وهذه مسألة ينبغي على الآباء الاهتمام بها.
إذن: اللمسة التي نريد الوقوف عندها في هذه الآية أن الرحمن إنْ كانت تنافي عندك فِعْل الضر، فهذا عندك أنت، إنما عند مُجريها لا تنافي، لأنها من الرحمانية.
وقوله تعالى: (لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً) (يس: 23) يعني: شفاعة هذه الآلهة -إنْ كانت لهم شفاعة- لا تُجدي، لأنهم شركاء لله وأنداد لله، فكيف تُقْبل شفاعتهم عنده سبحانه؟
وشرط في الشفاعة أن يكون الشافع محبوباً عند المشفوع عنده، فهذه الآلهة على فرْض أنه كان لهم شفاعة، فهي غير مقبولة عند الله تعالى، مع أن هذه الآلهة في ذاتها معذورة حيث لا ذنبَ لها، فهي ما ادَّعَتْ أنها آلهة، إنما ادَّعى البشر ذلك.
وسبق أنْ ذكرنا أن هذه الآلهة قد تبرأت من كونها تُعبد من دون الله.
وصدق الشاعر الذي صاغ هذا المعنى: فقال على لسان هذه الآلهة: عَبَدُونَا وَنَحْنُ أَعْبَدُ للهِ مِنَ القَائِمينَ بالأَسْحَارِ قَدْ تجنَّوْا جَهْلاً كما قَدْ تجنوه على ابْنِ مريَمَ والحَوارِي تَخِذُوا صَمْتَنَا عَلينَا دليلاً فغدَوْنَا بهمُ وَقُودَ النَّارِ لِلْمُغَالِي جَزَاؤُه والمغَالَى فِيهِ تُنجِيهِ رحمةُ الغفَّارِ
وقوله سبحانه: (وَلاَ يُنقِذُونَ) (يس: 23) لأن الشافع حين تُرد شفاعته يمكن أن ينقذ المشفوع فيه من يد المشفوع عنده، أما هؤلاء الآلهة فلا تُقبل شفاعتها، ولا تستطيع أنْ تنقذ مَنْ طلب منها أنْ تشفع له.
وقد بيَّنَّا معنى الشفاعة، وأنها من الشفع يعني: إنسان له قضية، ولا يستطيع وحده بأسباب حَلَّ هذه القضية فيستعين بآخر ليساعده وينضم إليه لِيقوِّيه على حَلِّها، إذن: بعد أنْ كان مفرداً صار بالشافع شفعاً.
يعني: اثنين.
ولما أراد الحق سبحانه أن يجلى لنا هذه المسألة قال سبحانه في سورة البقرة: (وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) (البقرة: 48).
وقال في موضع آخر: (وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة: 123).
تلحظ أن صدر الآيتين متفق لكن عجزهما مختلف، ف
لماذا؟
قالوا: لأن مرجع الضمير مختلف؛ لأن عندنا هنا نَفْساً جازية، ونفساً مجزياً عنها، فإنْ أعدْتَ الضمير على المجزى عنها، فالمجزى عنه لا يشفع بنفسه، إنما يعرض العدل أولا، ويطلب تقويم الضرر ليدفع فِدْيته، فإنْ لم يقبل منه العدل بحث عَمَّنْ يشفع له، إذن: فالمعنى: لا يُقبل من ذاتها عدل، ولا تنفعها شفاعة الغير.
فإنْ أعدْتَ الضمير على النفس الجازية - أي: الشافعة - فإن الشافع يتقدم ليشفع أولا، فإنْ لم تُقبل شفاعته فإنه يعرض العدل، ويتحمل الفدية.
إذن: هذه الآلهة -على فَرْض أن لها شفاعة -فهي شفاعة مردودة غير مقبولة، وهم أيضاً لا يستطيعون إنقاذ مَنْ يلجأ إليهم من قبضة الحق سبحانه، فهم لا يصلحون للشفاعة، ولا للإنقاذ، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ) (الحج: 73).
وقوله: (إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (يس: 24) يعني: إنْ فعلتُ ذلك، وذهبتُ إلى عبادة هذه الآلهة أكون في ضلال (مُّبِينٍ) (يس: 24) بيِّن واضح، وقوله: (لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (يس: 24) كأن الضلال يحاصره ويحيط به من كل ناحية، بحيث لا يستطيع أنْ ينجو منه.
ثم يقول هذا الرجل المؤمن: (إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ) (يس: 25) هذا الخطاب يصح أنْ يُوجَّه إلى الرسل الذين جاء الرجل ليساندهم في دعوتهم ويناصرهم، فنظر إليهم وقال (إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ) (يس: 25) ومعنى (فَٱسْمَعُونِ) (يس: 25) أي: اسمعوا مني ما أناصركم به، واشهدوا لي بأنني متطوع بهذه المساندة الإيمانية، لم يُكلِّفنى أحد بها.
ويصح أنْ يكون هذا الخطاب مُوجَّهاً إلى القوم المكذِّبين، فهو يقول لهم: (إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ) (يس: 25) يعني: الله ربكم رغماً عنكم، وإنْ كنتم كافرين به سبحانه فأنا احترمت ربوبيته لكم، وآمنتُ بها لأدخل في عظمة هذه الربوبية (فَٱسْمَعُونِ) (يس: 25) أي: اسمعوا مني هذا البلاغ لأكون قد أدَّيْتُ ما وجب عليَّ نحوكم، وأبلغتكم ولم أخدعكم أو أغشَّكم.
ثم يقول الحق سبحانه: (قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ...). |
|