أحكام شهر الله الْمُحَرَّم
الشيخ: الدكتور نهار العتيبي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

شهر الله الْمُحَرَّم هو أول شهر من الأشهر الهجرية وأحد الأربعة الأشهر الحرم وقد بين لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أحكام هذا الشهر الواردة في كتاب الله تعالى أو في السُّنَّة المُطهرة.

ومن أهم هذه الأحكام مايلي..
أولًا: فضل شهر الله الْمُحَرَّم:
شهر الْمُحَرَّم هو من الشهور الحُرُمِ التي عظّمها اللهُ تعالى وذكرها في كتابه فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة - 36).

وشَرَّفَ اللهُ تعالى هذا الشهر من بين سائر الشهور فسُمِّيَ بشهر الله الْمُحَرَّم فأضافه إلى نفسه تشريفاً له وإشارة إلى أنه حَرَّمَهُ بنفسه وليس لأحَدٍ من الخلق تحليله.

كما بَيَّنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- تحريم الله تعالى لهذه الأشهر الحُرُم ومن بينها شهر الْمُحَرَّم لِمَا رواه أَبو بَكْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)، وقد رَجَّحَ طائفة من العلماء أن محرم أفضل الأشهر الحرم.

قال ابن رجب:
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله الْمُحَرَّم ورَجَّحَهُ طائفة من المُتأخرين.

ويدل على هذا ما أخرجه النسائي وغيره عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: "خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه الْمُحَرَّم" قال ابن رجب رحمه الله: "وإطلاقه في هذا الحديث (أفضل الأشهر) محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة".

ومن أهم أحكام هذا الشهر ما يلي:
أولًا: تحريم القتال فيه:
فمن أحكام شهر الله الْمُحَرَّم تحريم ابتداء القتال فيه قال ابن كثير رحمه الله: وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين:
أحدهما: وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال ههنا: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) وأمر بقتال المشركين.

والقول الآخر:
أن ابتداء القتال في الشهر الحرام، حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الآية.

وقال: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ) الآية.

وقد كانت العرب تعظمه في الجاهلية وكان يُسَمَّى بشهر الله الأصم من شِدَّةِ تحريمه.

والصوم في شهر محرم من أفضل التطوع، فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه الْمُحَرَّم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل".

ثانيًا: فضل صيامه:
بَيَّنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فضل صيام شهر الله الْمُحَرَّم بقوله: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الْمُحَرَّم".

واختلف أهل العلم رحمهم الله في مدلول الحديث؛ هل يدل الحديث على صيام الشهر كاملاً أم أكثره؟

وظاهر الحديث -والله أعلم- يدل على فضل صيام شهر الْمُحَرَّم كاملاً، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر الْمُحَرَّم لا صومه كله، لقول عائشة -رضي الله عنها-: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) أخرجه مسلم، ولكن قد يُقال إن عائشة رضي الله عنها ذكرت ما رأته هنا ولكن النص يدل على صيام الشهر كاملًا.

ثالثًا: شهر الله الْمُحَرَّم ويوم عاشوراء:
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم ولهذا اليوم مزية ولصومه فضل قد اختصه الله تعالى به وحث عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

1- فضل يوم عاشوراء:
عاشوراء هو اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً ثم صامه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصيامه"...

وفي رواية لمسلم: "فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه..."، وللنبي -صلى الله عليه وسلم- في صيام عاشوراء أربع حالات.

الحالة الأولى:
أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه فلما قَدِمَ المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك صوم عاشوراء فمَنْ شاء صامه ومَنْ شاء أفطر".

وفي رواية للبخاري وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ شاء فليصُم ومَنْ شاء أفطر).

الحالة الثانية:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له -وكان يحب موافقته فيما لم يؤمر به- صامه وأمر الناس بصيامه وأكَّدَ الأمر بصيامه وحَثَّ الناس عليه حتى كانوا يُصَوِّمُونَهُ أطفالهم.

الحالة الثالثة:
أنه لَمَّا فُرِضَ صيام شهر مضان ترك النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه بصيام يوم عاشوراء.

لِمَا رواه مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عاشوراء يوم من أيَّام الله فَمَنْ شاء صامه ومَنْ شاء تركه"، وفي رواية لمسلم أيضاً: "فمَنْ أحَبَّ منكم أن يصومه فليصُمْهُ ومَنْ كَرِهَ فليدعه".

الحالة الرابعة:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عزم في آخر عُمُرِهِ على ألّا يصومه منفرداً بل يضم إليه يوم (التاسع) مُخالفة لأهل الكتاب في صيامه لما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع"، قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

2- فضل صيام عاشوراء:
أما فضل صيام يوم عاشوراء فقد دل عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو قتادة -رضي الله عنه- وقال فيه: سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: "أحتسب على الله أن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قبله".، ولو صام المسلم اليوم العاشر لحصل على هذا الأجر العظيم حتى لو كان مفرداً له من غير كراهة خلافاً لِمَا يراه بعض أهل العلم.

ولو ضَمَّ إليه اليوم التاسع لكان أعظم في الأجر لِمَّا رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لئن بقيتُ أو لئن عشتُ إلى قابل لأصومن التاسع"، وأمَّا الأحاديث التي وردت وفيها صيام يوم قبله وبعده أو صيام يوم قبله أو بعده فلم يصح رفعها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والعبادات كما هو معلوم توقيفية لا يجوز فعلها إلا بدليل.

وقد يُستأنس بما ورد في ذلك فقد صح بعض هذه الآثار موقوفاً على ابن عباس -رضي الله عنهما- ولهذا لا يثرب على مَنْ صام عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده أو اكتفى بصيامه وصام يوماً بعده فقط.

3- الْبِدَع في عاشوراء:
قال العلامة الشيخ عبدالله الفوزان -حفظه الله-: وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان:
- طائفة شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك من عمل الجهال، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة.

- وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها، والقصد منها فتح باب الفتنة، والتفريق بين الأمَّةِ، وهذا عمل مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُ في الحياة الدنيا، وهو يَحْسَبُ أنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا.

وقد هدى اللهُ تعالى أهل السُّنَّةِ ففعلوا ما أمرهم به نبيهم -صلى الله عليه وسلم- من الصوم، مع رعاية عدم مشابهة اليهود فيه، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع، فلله الحمد والمنة..

وقد نَصَّ أهلُ العِلْمِ -رحمهم الله- أنه لم يثبت عبادة من العبادات في يوم عاشوراء إلا الصيام، ولم يثبت في قيام ليلته أو الاكتحال أو التَّطَيُّب أو التوسعة على العيال أو غير ذلك لم يثبت في ذلك دليل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

الشيخ: الدكتور نهار العتيبي
رابط المادة:
http://iswy.co/e2bf4v