16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة (1).
17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصوله إليهم سالمًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم (2). ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم (3).
18- وضوح سُنَّة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء (4).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم (5).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجًا وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره واشتدت قواعده قوة وصلابة.
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب (6).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده "أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام" (7).
--------------------
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص405.
(2) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43، الهجرة في القرآن الكريم، ص367.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358، 359.......
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202.
(5) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119.
(6) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص122، 123.
(7) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172.
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال: 75).
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله (1).
19- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله:
كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عَبَّر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" (2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا -يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحُمَّى، فاستأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك (3).
فدنوتُ من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟
فقال:
كل امرئ مصبَّح في أهله...
والموت أدنى من شِراك نعله.
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول.
ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟
لقد وجدت الموت قبل ذوقه...
إن الجبان حتفُه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطَوقه (4)...
كالثور يحمي جلده بِرَوقه (5).
قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول.
قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته (6)
ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة...
بواد وحولي إذخر (7) وجليل
وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة...
وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل (8).
قالت: فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "اللهم حَبِِّبْ إلينا المدينة كحُبِّنَا مَكَّة أو أشَدَّ، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مُدها وصاعها" (9).
وقد استجاب الله دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعوفي المُسلمون بعدها من هذه الحُمَّى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمُهاجرين إليها من المُسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم (10).
20- مكافأة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم معبد:
وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمَرَّ أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المُبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله مَنْ الرجل الذي كان معك؟
قال: أو ما تدرين مَنْ هو؟
قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطاها.
وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح (11).
--------------------
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص198، 199.
(2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.
(3) الوعك: الحمى.
(4) بطوقه: بطاقته....
(5) بروقه: بقرنه.
(6) عقيرته: صوته، قال الأصمعي، إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله.
(7) الأذخر: نبات طيب الرائحة.
(8) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.
(9) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372.
(10) انظر: التربية القيادية (2/310).
(11) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489، 490).
21- أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- ومواقف خالدة:
قال أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-: "ولما نزل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: "يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت" قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه شيء يؤذيه" (1).
22- هجرة علي -رضي الله عنه- وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة يوم الجمعة (2) وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنساناً يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، مَنْ هذا الذي يضرب عليكِ بابكِ كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيكِ شيئاً لا أدري ما هو؟
وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟
قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحَدَ لِي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي -رضي الله عنه- يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق (3).
23- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة:
كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم (4).
24- الهجرة من سنن الرسل الكرام:
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته (5).
هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.