أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الفوائد الجنية من الهجرة النبوية الأحد 13 مارس 2011, 8:22 am | |
| الفوائد الجنية من الهجرة النبويةسلمان بن يحي المالكيslman_955@hotmail.com
من أهمِّ الدروسِ أيها الأحبة التي ينبغي التأملُ فيها وخاصةً من يَسْبُرُ أوراقَ السيرةِ، ذلكم الأمرُ المهمُ في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أمرُ الهجرةِ وما أدراكم ما الهجرة.إن الهجرةَ النبويةَ في حدِّ ذاتِها بغَضِّ النظرِ عن أحداثِها تستحقُ الوقفةَ المتأنيَة، تستحقُ الوقفةَ الثاقبة، تستحقُ النظرَ الدقيق، فهي ليستْ نزهةً بريةً ولا وسياحةً بحريةً، الهجرةُ النبويةُ ليست للتفرجِ والإطلاعِ، ولا للنظرِ والمعاينةِ، ولا للسفرِ والتحصيلِ في مُتَعِ هذه الدنيا وملذاتِها، وإنما هي نقلةٌ جديدةٌ وانتقالٌ وطيدٌ من أجلِ الحفاظِ على العقيدةِ، الحفاظ على الركنِ الأساسِ، والأُسِّ المتينِ مع التضحيةِ بالنفسِ والمالِ والأهلِ والولدِ، نعم.. إنه الحفاظُ على العقيدةِ والمحافظةِ عليها، فهو مبدؤها وهدفُها وأملُها وغايتُها ونهايتها. إن الهجرةَ النبويةَ حدثٌ غيّرَ مجرى التأريخ، حدثٌ حملَ في طياتِه معانيْ الشجاعةِ والتضحيةِ والإباءِ والصبرِ والنصرِ والفداءِ والتوكلِ والقوةِ والإخاءِ والاعتزازِ بالله وحده.إنَّ حدثَ الهجرةِ النبويةِ حدثٌ جعلَه الله سبحانه طريقاً للنصرِ والعزةِ ورفعِ رايةِ الإسلامِ وتشييدِ دولتِه وإقامةِ صرحِ حضارتِه، فما كانَ لنورِ الإسلامِ أن يشِّعَ في جميعِ أرجاءِ المعمورةِ لو بقيَ حبيساً في مهده، إنه حدثٌ شاملٌ كاملٌ متكاملٌ لمن أحسنَ الاستفادةَ منه وأخذَ العبرةَ والعظةَ على أحسنِ وجه، إنه في الحقيقةِ حدثٌ يعرِضُ منهجَ النبيِ صلى الله عليه وسلم، منهجَ المعصومِ صلى الله عليه وسلم، منهجَ من لا ينطقُ عن الهوى، مهجَ المؤَيَّدِ من ربِ العالمين، فليست الهجرةُ حدثاً عادياً، ولا أمرا طبيعيا، بل هي أمرٌ جللٌ يستحقُ منا الاهتمام بما تحويه هذه الهجرة وما بداخلها من كنوز. إن بين أيدينا هجرةُ الرسول صلى الله عليه وسلم، بين أحضاننا هجرةُ النبي صلى الله عليه وسلم وفيها الدواءُ الناجعُ لكثيرٍ من أمراضِنا وأوضاعِنا وعللنا.إن في هذه الهجرةِ المباركةِ من الآياتِ البيناتِ والآثارِ النيراتِ والدروسِ والعبرِ البالغاتِ ما لو استلهمَتْه أمةُ الإسلامِ اليومَ وعملتْ على ضوئِه وهي تعيشُ على مُفْتَرَقِ الطرقِ لتحقّقَ لها عِزُّهَا وقوتُها ومكانتُها وهيبتُها، ولعلمت علمَ اليقينِ أنه لا حلَّ لمشكلاتِها ولا صلاحَ لأحوالِها إلا بالتمسكِ بإسلامِها والتزامِها بعقيدتِها وإيمانها، فوالذي بعثَ محمداً صلى الله عليه وسلم بالحقِ بشيراً ونذيراً ما قامتِ الدنيا إلا بقيامِ الدينِ ولا نالَ المسلمونَ العزةَ والكرامةَ والنصرَ والتمكينَ إلا لما خضعوا لربِّ العالمين وهيهاتَ أن يَحُلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلا باتباعِ نهجِ الأنبياءِ والمرسلين، ومن هنا جئنا لنتحدثَ هذه الليلة حولَ بعضِ المفاهيمِ والدروسِ والعبرِ والعظاتِ المجتناهْ من هجرةِ المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإني لمَّا كنتُ أُقلِّبُ صفحات هذه الهجرةِ المباركةِ عرضتُ أتذكرُ حكمةً عربيةً قديمةً تقول "من أخْصَبَ تخيّر" أي من وجدَ الأرضَ الخِصبةَ الوفيرةَ تخيَّرَ المرعى، فرأيتُ الحكمةَ تنقلبُ علي فإني لم أَعُدْ أجدُها وأنا أقلبُ صفحات هذهِ الهجرة "من أخصب تخير".ولكني وجدتها "من أخصب تحير" فماذا أقول الليلةَ وماذا أدع..؟ فلا أكتمُكم أحبتي أنني وقفتُ أمامَ المفاهيمِ والدروسِ التي اطلعْتُ عليها، واحترت: نعم.. احترتُ أيَّ مفهومٍ من هذه المفاهيم آخُذ؟ وأيها أترُك؟ أيها أدعُ؟ وأيها ألتمس؟ ووصَلَتْ معي هذه المفاهيم وهذه الدروسُ عدداً وكمّا كبيراً، ولكن مراعاةً للوقت، وتركيزاً على بعضِ النقاط، وإلا لا أقولُ "على المهم، أو الأهم" فكلُ هجرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مهمة، وتركيزاً على بعضِ النقاطِ التي تزدادُ حاجتنا إليها؛ سأذكرُ بعضَ الوقفات، وبعضَ المفاهيم وبعضَ الدروس التي أخذتها من استيعابِ هذه الهجرةِ المباركة، فما أجملَ أن نُشيرَ إشاراتٍ عابرةٍ لعددٍ من القضايا المهمةِ الجديرة بالإشادةِ والتذكيرِ في هجرة رسولِ العالمين الذي أسأل الله بمنه وكرمه أن يُلحقنا به وأن يحشرَنا في زمرته وأن يُسقِيَنَا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبداً.مقدمة السلسلةفي جوٍ مشحونٍ بزيفِ الباطل وركامِ الجاهلية، يسوسُ الناسَ جهلهم، ويحكمُهم عرفُهم وعاداتُهم، قتلٌ وزنا، عُهُرٌ وخَنا وأدٌ للبنات، تفاخرٌ بالأحساب والأنساب، سادَ في البِقاعِ قانونُ الغاب، فالبقاءُ للقوي، والتمكينُ للعزيز، تُغِيرُ القبيلةُ على الأخرى لأتفهِ الأسباب، تقومُ الحروبُ الطاحنةُ، تُزهق الأرواحُ، وتُهلَك الأموال، وتُسبى النساءُ والذراري، وتدومُ السنون وتتعاقبُ الأعوام، والحربُ يرثها جيلٌ بعد جيلٍ، وأصلها بعيرٌ عُقْر، وفرسٌ سبقتْ أخرى، أو قطيعُ أغنامٍ سيقٌ وسرْق، ساد في ذلكمُ المجتمعُ عاداتٌ غريبةٌ عجيبة، فعند الأشراف منهم كانتِ المرأة إذا شاءتْ جمعتِ القبائلَ للسلامِ وإن شاءت أشعلتْ بينهم نارَ الحربِ والقتال، بينما كان الحالُ في الأوساطِ الأخرى أنواعٌ من الاختلاطِ بين الرجلِ والمرأةِ لا نستطيعُ أن نعبرَّ عنه إلا بالدَعارةِ والمجونِ والسِفاحِ والفاحشةِ، كانت الخمرُ مُمتَدحُ الشعراء، ومَفخَرة الناس، فهي عندهم سبيلٌ من سُبُلِ الكرم، ناهيك عن صورِ الشركِ وعبادةِ الأوثان، التي تُصوِّرُ كيف كانَ أولئكَ يعيشون بعقولٍ لا يفكرون بها، وأعينٍ لا يبصرون بها، وأذانٍ لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ في هذه الأثناءِ حدث حادثٌ عجيبٌ لمكةَ وحرمِها، رأى أبرهةُ نائبَ النجاشي على اليمنِ أن العربَ يحجونَ الكعبةَ، فبنى كنيسةً كبيرةً بصنعاءَ ليصرفَ حجَّ العربِ إليها، وسمع بذلك رجلٌ من بني كِنانة، فدخلها ليلاً ولطَّخَ قِبلتها بالعَذِرة، ولما علم أبرهةُ بذلك ثار غضبه وسارَ بجيشٍ عرمرمٍ عدده ستونَ ألفَ جنديٍ إلى الكعبةِ ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبرِ الفيلةِ، وكان في الجيشِ قُرابةَ ثلاثةَ عشر فيلاً، وتهيأ لدخولِ مكةَ فلما كان في وادي محسِّرٍ بين مزدلفةَ ومنى بركَ الفيلُ ولم يقُم، وكلما وجهوه إلى الجنوبِ أو الشمالِ أو الشرقِ قام يهرول، وإذا وجهوه قِبَلَ الكعبةِ بركَ فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثالُ الخطاطيف مع كل طائرٍ ثلاثةُ أحجارٍ مثلُ الحُمُص، لا تصيبُ أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهربَ مَن لم يصبه منها شيءٌ يموجُ بعضهم في بعض، فتساقطوا بكلِ طريقٍ، وهلكوا على كل مهلكٍ، وأما أبرهةُ فبعثَ الله عليه داء تساقطت بسببه أنامِلُه، ولم يصِل إلى صنعاءَ إلا وهو مثلُ الفرخِ، وانصدع صدرُه عن قلبِه ثم هلك، وكانتْ هذه الوقعةْ قبل مولدِ النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقْدُمةِ قدَّمها الله لنبيه وبيتِه، وبعد أيامٍ من هلاكِ ذلكم الجيشِ أشرقت الدنيا وتنادت ربوعُ الكونِ تزُّفُ البشرى بولدِ سيدِ المرسلين، وإمامِ المتقين، والرحمةِ للعالمين في شِعْبِ بني هاشمٍ بمكةَ صبيحةَ يومُ الإِثنين التاسعِ من ربيعٍ الأولِ لعامِ الفيل، وُلد خيرُ البشر، وسيدُ ولدِ آدم، ولد الرحيمُ الرفيقُ بأمته، أطلَّ على هذه الحياةِ محمدُ بنُ عبد الله بنُ عبد المطلبِ الهاشميِ القرشي، أرسله الله إلى الناس جميعا ليقول للناس: "إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون". جاء النبيُ صلى الله عليه وسلم يدعوا الناسَ إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى، جاء نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ إلى العفافِ والطهرِ والخلقِ الكريم والاستقامةِ وصلةِ الأرحام وحسنِ الجوار والكفِّ عن المظالم والمحارم، يدعوهم إلى التحاكمِ إلى الكتابِ العزيز لا إلى الكهان وأمرِ الجاهلية، وجعْلِ الناس كلهم أمام شريعةِ الله سواءً يتفاضلون بالتقوى.روى ابنُ جريرٍ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لما مرِضَ أبو طالبٍ دخلَ عليه مشيخةٌ من قريشٍ فيهم أبو جهلٌ فقالوا: إنَّ ابنَ أخيك يشتُمُ آلهتَنَا ويفعلُ ويفعلُ ويقولُ ويقولُ فأنْصِفْنَا من ابنِ أخيك، فلْيَكُفَّ عن شتمِ آلهتِنا وندَعُهُ وإلهُهُ، فقال أبو طالبٍ: يا ابنَ أخي ما بالُ قومِكَ يشكُونَكَ ويزعُمُون أنكَ تشتُمُ آلهتَهم..؟ قال يا عم: أريد أن يقولوا كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ، وتؤدي لهم بها العجم الجزية، فقال أبو جهل : نقولُها وعشرًا، فقال عليه الصلاة والسلام : قولوا لا إله إلا الله، ففزِعوا وولوا مدبرينَ وهم ينفُضُون ثيابَهم ويقولون: "أجعل الآلهةَ إلهً واحدًا إنّ هذا لشيء عجاب". نعم.. لقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ كلَّهم إلى هذا المعنىَ العظيم، وقام بهذا الواجبِ الكبيرِ الذي هو أكبرُ واجبٍ في تأريخ البشريةِ كلها، دعا إلى دينٍ قويمٍ يرقى به الإنسانُ إلى أعلى المنازلِ، ويسْعَدُ به في الآخرةِ سعادةً أبديةً في النعيمِ المقيم، فاستجاب له القلة المؤمنة المستضعفة في مكة، فأذاقَهُمُ المشركونَ أنواعَ العذاب، ووقف في وجههِ ثلاثةُ أنواعٍ من الناس: المستكبرونَ الجاحدونَ العالمونَ بالحق، والحاسِدونَ المحترقون، والجهالُ الضالون، وكوَّنَ هذا الثالوثُ جبهةً عنيدةً وحربًا وحزبًا شيطانيًا لا يترُكُ من سبيلٍ ولا وسيلةٍ إلا سلكها للصد عن سبيل الله: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون). واشتدَّ الكربُ بمكةَ وضُيِّقَ الخِناقُ على الدينِ الإسلامي، وائتمرَ المشركونَ بمكةَ أن يقتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام: "إن الله أذن لك يا محمد بالهجرةِ إلى المدينةِ فلا تَبِتْ هذه الليلةَ في فراشك"، ورصده المشركونَ عند بابه ليضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ ليتفرَّقَ دمَه بين القبائلِ، فخرج عليه الصلاةُ والسلام عليهم وهو يتلو صدرَ سورةِ يس وذرى على رؤوسهمُ الترابَ وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه، وأخذهمُ النعاسَ، واختبأ هو وصاحبَه أبو بكر الصديقِ في غارِ ثورٍ ثلاثةَ أيامٍ حتى هدأ الطلبُ، ففتشتْ عنه قريشٌ في كلِ وِجْهَةٍ، وتتبعوا الأثرَ حتى وقفوا على الغارِ فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسولَ الله لو أن أحدَهم نظر إلى موضعِ قدميه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، ولقيا الدليلَ بعد ثلاثٍ براحلتْيَهما، ويمّما المدينة فكانت هجرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم نصرًا للإسلام والمسلمين حيثُ أبطلَ الله مكرَ المشركينَ وكيدَهم في تفكيرهِمُ القضاءَ على الإسلامِ بمكةَ وظنهَّمُ القدرةَ على قتلِ رسول الله. أولا.. لماذا الهجرة..؟إني لما نظرتُ إلى تأريخِ الهجرةِ، ونظرتُ إلى الإعِدادِ الذي أعدّهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ونظرتُ إلى الأسبابِ والأساليبِ التي اتخذَها، ابتداءً من إذْنِه بالهجرةِ للصحابةِ، وانتهاءً بوُصُولِه إلى المدينة، وما بينهما من أسبابٍ بشريةٍ كثيرةٍ، فيها الاختفاءُ والسِّريةُ، فيها كثيرا من الأسبابِ البشرية، تساءلتُ: ألم يُسْرَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم قبلَ عامٍ فقطٍ إلى بيتِ المقدسِ، ويُعرَج به إلى السماءِ؟ ألم يأتِ إليه جبريلُ على الصلاةُ والسلامُ وهو مُسْنِدٌ ظهره الشريف للكعبة بالبراقِ ليرحلَ هو وإياهُ من مكةَ المكرمة إلى بيتِ المقدس ومن هناك إلى السموات..؟ سبحان الله! يُسْرى به إلى بيتِ المقدس، ويُعرج به إلى السماءِ، ويرْجِع في ليلةٍ واحدةٍ، ويجلس عدَّةَ شهورٍ صلى الله عليه وسلم ويتَّخِذَ كثيرا من الأسبابِ والوسائلِ لهذه الهجرةِ! لماذا..؟ ما السبب..؟ لِمَ لمْ تكن تلك الهجرةِ كذاكَ الإسراء..؟ يُمْسي في مكةَ ويصبحُ في المدينةِ النبوية بأمرِ الله سبحانه وتعالى وبقدرته؟ أليس الله قادرٌ على ذلك..؟ أيُعْجِزُه سبحانَه وتعالى شيءٌ في الأرضِ والسماء..؟ كيف لا.. والمعجزاتُ تتنزلُ عليه عليه الصلاة والسلام، لكنني بعدَ التأمُلِّ وجدتُ أن الله سبحانه وتعالى أراد منا ومن أمَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم أن نفقه هذا الدين فِقْهًا دقيقاً، أرادنا أن نفقهَ هذه الدعوة المحمدية فقها سديدا. فهذه الدعوةُ أيها الأحبابُ هي وربي منهجٌ للبشر، ربنا جل وعلا قادرٌ أن يأخذَ رسوله صلى الله عليه وسلم في لحظةٍ واحدة، وينقُلُه من مكةَ إلى المدينة، لا يحتاجُ إلى إعداد، لا يحتاج إلى اختفاء، لا يحتاج إلى مئونة، لا يحتاج إلى مطاردةٍ، لا يحتاج إلى مصاحبةٍ، لكن الأمرَ أعمقَ من ذلكَ وربي وأبعدَ بكثير، إنه الدينُ..! أراده الله ليكونَ منهجاً للبشريةِ، لماذا..؟ لأنه لو فُعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءَ بعدَه من الدعاةِ ممن تواجهُهُم مثلُ هذه المشاكلِ، مشاكلِ الاضطهاد، ومعاناةِ العذاب في سبيلِ تبيينِ الدعوةِ وإخراجِ الناسِ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِ العبادِ فأين حينَها يجدُونَ الحلَّ؟ كيف يجدونَ المخرج؟ إلى من يلتجئون..؟ أولئك الذين يُضطهدونَ في دينهم، أولئكَ الذينَ يحارَبونَ في عقيدتهم، أولئك الذين تُمتَهَنُ كرامتُهم عليهم أن يأخذوا الدروسَ العظيمَةَ من هذه الهجرةِ. إذًاً..نحن في هذه الهجرةِ بجميعِ مراحلِها، نتبينُّ من خلالِها الدروسَ العظيمةَ للدعاةِ وللمسلمينَ، فلو تمَّتْ هذه الهجرةُ بين عشيةٍ وضحاها ؛ لخسرنا تلكَ الدروسَ، ولخسرنا تلكَ المواقفَ، وهذا أمرٌ لا ينتبه له كثيرٌ من الناس، ويكفي التأريخَ شرفاً أن سطَّرَ بأحرفهِ الذهبيةِ هذه السيرةِ العطرةِ، وهذه الهجرة المباركة، لنلجأ إليها كمخرجٍ من كُرباتِنا، وحلٍ لأزماتِنا، وشِفاءٍ لأمراضَنا، بعد الله جل وعلا.في هذه الهجرةِ يعرفُ الداعيةُ كيف يأخذُ بالأسبابِ، كيف يفرقُ بين التوكلِ والتواكُلِ، يأخذ الحذرَ والحِيطةَ، يعرفُ المسلمُ من هذه الهجرةِ النبويةِ أنه لا يستكينُ ولا يستهينُ ولا يقْبَلُ الذلةَ في دينه، ولا في عقيدته أبدا، نعم.. إن هذه الهجرةَ العظيمةَ منهجٌ للبشر، ولو خرجْتُ عن الموضوعِ من جهةٍ أخرى في درسٍ عظيمٍ أربِطُهُ بهذا الموضوعِ، وهو "قضيةُ المنافقين" فلقد وقفتُ كثيراً وتأمّلتُ بتمعُّنٍ قصةَ علاجِ الإسلامِ لقضيةِ المنافقين، وكيف عالج الرسولُ صلى الله عليه وسلم قضيتهم حتى انتهت، ابتداءً من الهجرةِ وحتى وفاتِه صلى الله عليه وسلم مروراً بالأطوارِ التي مرت بها قضيةُ المنافقينَ وأثرُهم في المدينة، وتساءَلْتُ وقلتُ: الله جلا وعلا قادرٌ على أن يُعْلِمَ نبيهَ صلى الله عليه وسلمَ بعض أسماء المنافقينَ لِيَسْتَتِيَبهم؛ فإن تابوا، وإلا قُتلوا، أو طُردوا: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم"، نعم.. لا تعلمهم كلهم نحن نعلمهم، لأن الله لم يُردْ إبلاغَه إياهم؛ لأن الله تعالى لو أخبرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بهذهِ الأسماء، نحنُ الذينَ نأتي من بعدِه من سيخبِرُنا بالمنافقينَ الذين يعيشونَ بيننا؟ كيف نعالجُ مُشْكِلَتِنَا معهم وهم من بني جلدتِنا؟إذاً..لابدَّ من اللجوءِ بعد الله تعالى إلى سيرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، إلى هجرةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فَمِثْلَمَا عالجَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم تلكَ المشكلةَ وتلكَ الفتنةَ داخلَ الصفِّ المسلمِ، ووقفَ على تلكَ الخياناتِ التي ارتُكبتْ في داخلِ هذا الصفِّ ؛ سنجدُ حينها علاجا لمشكلاتِنا في زماننا هذا.إن درسَ الهجرةِ أيها الأحبة درسٌ عظيم، أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن نتعلمَ منه الشيءَ الكثيرَ، ولكن أين القلوبُ الحيةُ؟ أين القلوبُ الصادقةُ اليقظةُ؟ أين القلوبُ الباحثةُ عن الحق؟ فالعودة العودة الصادقة الحميمة إلى هجرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لنستلهمَ الدروسَ والعبرَ,,, وإلى ثاني الدروس الجنية من الهجرة النبوية.ثانيا: المدينة النبوية، التأسيس والتوطين..!وهذه قضيةٌ مهمةٌ، وهي أنه لا بُدَّ أن يكونَ للفئةِ المسلمةِ موطنٌ أو موضعٌ تتأسسُ فيه وتتربى عليه، وتستطيعُ أن تمارسَ من خلالِه عمليةَ التغيير، وقد كان هذا في دارِ الأرقمِ بنِ أبي الأرقمَ قبلَ الهجرةِ، فقد كان موطنُ بناءٍ وتعليمٍ وإرشادٍ وغرسٍ للعقيدةِ وبناءٍ للإسلام في النفوسِ، وتجميعٍ للصفوف ومعرفةٍ لواقع الباطلِ والجاهليةِ، وهذا التجمعُ هو الذي كان يحرِّكُ دعوةَ الإسلامِ حتى أذن الله بالهجرةِ فكان التأسيسُ والتوطينُ في صورةِ دولةٍ وفي صورةِ مجتمعٍ متكاملٍ في مهَاجَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. لقد كانَ هدفُ النبيِ صلى الله عليه وسلم من هجرتهِ إلى المدينةِ إيجادُ موطئ قدم للدعوة هناك حتى تَنْعُمَ بالأمنِ والاستقرار، حتى تستطيعَ أن تَبْنِي نفسَهَا من الداخلِ وتَنْطَلِقَ لتحقيقِ أهدافِها في الخارجِ، ولقد كان هذا الهدفُ أملاً وحلُما يراودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ في المنامِ أني أهاجرُ من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب". كان هدفُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم من الهجرةِ تكثيرُ الأنصارِ وإيجاد رأيٍ عامٍ مؤَيِّدٍ للدعوةِ، لأن وجودَ ذلكَ يوفرُ على الدعوةِ الكثيرَ من الجهودِ ويُذَلِّلُ في طريقِها الكثيرَ من الصِعاب، والمجالُ الخَصْبُ الذي تَتَحققُ فيه الأهدافُ والمُنْطَلَقُ الذي تَنْطَلِقُ منه الطاقاتُ هو في المدينة، ولهذا حرِصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يبعثَ مصعبَ بنَ عميرٍ أولَ سفيرٍ في الإسلام، حرِص صلى الله عليه وسلم أن يرسله ليكونَ سفيرَه إلى المدينةِ ليعلِّمَ الأنصارَ الإسلامَ وينشرَ دعوةَ الله فيها، ولمّا اطمأنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى وجودِ رأيٍ عامٍ مؤَيِّدٍ للدعوةِ في المدينة حثّ أصحابَه إلى الهجرةِ إليها وقال لهم: "هاجروا إلى يثرب، فقد جعلَ الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنونَ بها". لقد كان هدفُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلمَ من الهجرةِ استكمالُ الهيكلِ التنظيميِ للدعوةِ، فقد كان صعباً أن يكونَ الرسولُ القائدُ في مكةَ، والأنصارُ والمهاجرونَ في المدينة، صعبٌ أن يكونَ المعلمُ في مكةَ والتلاميذُ بعيدونَ عنه في المدينة، ولهذا هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليكونَ بين ظهْرَاَنيْ أتباعِه، لأن الجماعةَ بدونِ قائدٍ كالجسدِ بلا رأسٍ، ولأنَّ تحقيقَ أهدافِ الإسلامِ الكبرى لا يتمُّ إلا بوجودِ جماعةٍ مؤمنةٍ منظَمَةٍ، تُغَذِّ السيرَ إلى أهدافِها بخُطًى وئيدةٍ وطيدةٍ متينةٍ. فما أحوجَ المسلمينَ اليومَ إلى هجرةٍ نحو الله ورسولِه، هجرةٍ إلى الله بالتمسكِ بحبله المتينِ وتحكيمِ شرعهِ القويم وهجرةٍ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعِ سنته، والاقتداءِ بسيرته، فإنْ فعلوا ذلك فقد بدأوا السيرَ في الطريقِ الصحيحِ وبدأوا يأخذونَ بأسبابِ النصرِ، وما النصرُ إلى مِن عندِ الله، ويسألونكَ متى هو؟ قل عسى أن يكونَ قريباً. |
|