في رحاب الهجرة النبوية المباركة
بقلـــم: صــــلاح جــــاد ســـــــلام
غـفـــر الله له ولوالديه وللمسلمين
===================
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خاتم الانبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلي آله وصحبه والتابعين، ومن تبعه باحسان على ملته وسنته الي يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد:
فهي ذكري طيبة خالدة متجددة سنوياً، تجمع في ثناياها مزيجاً عظيماً من القيم النبوية الرفيعة، من صدق العزيمة والاخلاص والتضحية والصبر، وتنبيء عن رعاية ربانية وعناية الهية، انتقلت بها الرسالة المحمدية من طور الدعوة في مكة المكرمة إلي طور الدعوة والدولة في المدينة المنورة بنور سيدنا رسول الله صلوات ربنا وسلامه عليه.
ثم إن المطالع لأحداث الهجرة النبوية المباركة ونتائجها، مروراً بإرهاصاتها وأسبابها، لابد وأن يجد الجم الكثير مما سطره المؤرخون والباحثون، مما يلزمنا في عجالتنا هذه بتوخي الإيجاز، ما أمكن.
وعليه..
فإننا سنكتفي بتسليط الضوء صوب بعض النقاط المختلفة.
وبداية يجب أن نلتفت معا إلي أن أحداث الهجرة وقعت في ما بين أواخر شهر صفر ومنتصف شهر ربيع الأول من عام الهجرة، ومع ذلك فقد اعتبر شهر المحرم الذي وقعت في عامه، هو بداية التقويم الإسلامي (الهجري)، ومن ثم فإن الاحتفال الإسلامي بهذه الذكري الخالدة يتجدد في شهر المحرم من كل عام، باعتباره أول الشهور العربية الإسلامية.
ومن الطريف في ذلك ما ذكره المقريزي في خططه من أنه لما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة، كانت نوبة النسيء بلغت شعبان، فسمي محرماً، وشهر رمضان صفراً.
ويجدر بالذكر أن المسلمين من بعد الهجرة النبوية طيلة عشر سنوات كانوا يؤرخون بالإشارة إلي الأحداث العظيمة، علي النحو التالي...
قال أبو الريحان البيروني في (الآثار الباقية):
كان الناس علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم سمُّوا كل سنة، ما بين الهجرة والوفاة، باسم مخصوص بها، مشتق مما اتفق فيها له صلي الله عليه وسلم.
ففي الأولي من بعد الهجرة:
سنة الإذن…
والثانية:
سنة الأمر بالقتال…
والثالثة:
سنة التمحيص…
والرابعة:
سنة الترفئة…
والخامسة:
سنة الزلزال…
والسادسة:
سنة الاستئناس…
والسابعة:
سنة الإستغلاب…
والثامنة:
سنة الاستواء…
والتاسعة:
سنة البراءة…
والعاشرة:
سنة الوداع.
فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة. آ.هـ.
ولذلك قال سهل بن سعد في التأريخ بالهجرة:
ما عدوا من مبعث النبي صلي الله عليه وسلم ولا من وفاته.. ما عدوا إلا من مقدمه المدينة. آ.هـ.
وقد نسب التأريخ الإسلامي بالهجرة إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه،، وأفاد السهيلي رحمه الله في (الروض الأنف) أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم}، لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمناً، وابتداء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم.
وقد أبدى بعضهم للبدء بالتأريخ بالهجرة مناسبة فقال:
كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة:
مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، (بيعة العقبة الكبرى كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر للبعثة)، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا من أقوى ما يوقف عليه بصدد مناسبة الابتداء بالمحرم.
أما عن إرهاصات الهجرة النبوية المباركة، فقد يظن البعض أنها بدأت قبيل وقوع أحداثها مباشرة (مما سنعرض له في حينه بمشيئة الله تعالي)، إلا أن التحقيق التاريخي يقول إن إرهاصاتها بدأت مع بداية الرسالة المحمدية، أي من (اقرأ).
وذلك بقول ورقة بن نوفل الأسدي رضي الله عنه للنبي صلي الله عليه وسلم:
يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال النبي صلي الله عليه وسلم:
\"أو مخرجيّ هم؟\"
قال: نعم.
لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
واما عن أبطالها رضوان الله عليهم، فقد صارت أسماؤهم تاجاً يتلألأ نوراً علي غرة التاريخ في دنيا الناس.
ابو بكر الصديق، علي بن أبي طالب، عبد الله بن أبي بكر، عامر بن فهيرة، أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد ورد أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قد أزمع الهجرة إلي الحبشة يوماً، وخرج فعلاً حتي وصل إلي برك الغماد (قيل هو موضع وراء مكة بخمس ليال) فلقيه مالك ابن الدغنة (سيد الأحابيش)، فكلمه وأقنعه بالعدول عن ترك مكة وأعاده إليها، وأدخله في جواره.
ثم يهم الصديق بالهجرة مرة أخري ويتجهز لذلك، إلا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول له:
\"علي رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي\"
فيقول الصديق: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟
فيقول النبي صلي الله عليه وسلم: \" نعم \".
وحينئذ يحبس الصديق نفسه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم لصحبته، ويبدأ في الإعداد والاستعداد لهذا الحدث العظيم، حتى إن بعض علماء الإسلام المحققين رحمه الله تعالي قال:
كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه مهندس رحلة الهجرة النبوية، إذ اشتري راحلتين (إحداهما القصواء) من نعم بني قشير الشهيرة (تماثل أحدث سيارات مرسيدس هذا الزمان) بثمانمائة درهم، وأمر بعلفهما حتى يأذن الله تعالي.
وفى هذا يقول الشيخ محمد أحمد بدوي رحمه الله، صاحب [كفاية المسلم في الجمع بين صحيحي البخاري ومسلم]: وعلف هاتين الراحلتين ورق السمر (وهو الخبط) أربعة أشهر. آ.هــ.
وتتوالي الأحداث في مكة، ويجتمع صناديد قريش في دار الندوة في يوم كان يسمي ( يوم الرحمة ) كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره ابن هشام في السيرة النبوية، نقلا عن ابن اسحق.
ويتفقون علي أن يترصدوا لقتله صلي الله عليه وسلم أمام منزله.
وفي هذا صرح الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) بعددهم وبأسمائهم علي سبيل الحصر ، مؤكدا علي أنهم كلهم قرشيون…
المتربصون ليلة الهجرة:
1. ابو جهل …. من بني مخزوم .
2. ابو لهب …. من بني هاشم .
3. عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية .
4. الحكم بن أبي العاص …. من بني أمية .
5. النضر بن الحارث …. من بني عبد الدار بن قصي .
6. زمعة بن الأسود …. من بني أسد .
7. أمية بن خلف …. من بني جمح .
8. أبي بن خلف …. من بني جمح .
9. طعيمة بن عدي …. من بني نوفل بن عبد مناف .
10. نبيه بن الحجاج …. من بني سهم .
11. منبه بن الحجاج …. من بني سهم .
قال:
واجتمع اولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ويريدون بياته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها . آهـ
قال ابن اسحق:
فأتي جبريل عليه السلام رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه.
ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
"نم علي فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم".آهـ
ثم أمره أن يؤدي عنه الودائع التي عنده للناس.
وهنا... لا يمكننا أن نسترسل قبل أن نتوقف ونتأمل ونتدبر...
يعادونه… ويأتمر أشرافهم علي قتله…
ومع ذلك… لا يجدون سواه، أميناً صادقاً يأتمنونه علي ودائعهم!!!.
وفي المقابل… هو صلي الله عليه وسلم يترك لهم الجمل بما حمل (يخرج من مكة مهاجرا)، وفي الاستطاعة أخذ كل الودائع عوضا عن ما يترك في مكة، ولكنه لم يفعل، بل وما ينبغي له أن يفعل.
والسبب في الحالين أنه محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، المُتمِّم لمكارم الأخلاق، صلوات ربنا وسلامه عليه.
ويخرج من بيته مخترقاً تجمّعهم وترصدّهم وهو يتلو صدر سورة: "يس" ويذهب إلي حيث يريد وهم لا يشعرون.
كان خروجه صلي الله عليه وسلم من بيته لثلاث بقين من شهر صفر.
ثم… يذهب إلي بيت الصِّدِّيق… ومنه يخرجا معاً مساء يوم الخميس أي (ليلة الجمعة) إلي حيث غار ثور، حيث يقع جنوبي مكة بحوالي 10 ك.
ويكون الوصول إليه قبيل فجر الجمعة.
وهناك يمكثان إلي ليلة الإثنين.