عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
•    كان عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وإقامته شرع الله تعالى مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، والمؤمن والكافر؛ مضرب المثل؛ كيف لا وهو رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، والمبلغ عن ربِّه ومولاه؟!!

•    فلقد كان خلق العدل راسخًا متمكنًا من نفس رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ بل غريزة ملازمة لا تنفك عنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان معروفًا بها قبل أن يكرمه ربُّه بالنبوة؛ فكيف بعد أن منَّ الله عليه بها؟!!

•    فقد شهد مع عمومته، وهو حديث السنِّ، حلف الفضول، الذي عقدته قريش لنصر المظلوم وأخذ حقه من الظالم، والذي قال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، لو دعيت بع في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألَّا يعد ظالم مظلومًا" (198).

•    ولما اختلفت قبائل قريش وتنافست على رفع الحجر الأسود؛ تريد كل قبيلة أن تحظى بشرف رفعه، وكادت تتقاتل، ثم هديت إلى تحكيم أول داخلٍ عليهم ليحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، فكان ذلك الداخل هو محمد -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، -ولم يكن قد أوحي إليه بعد- فرضي به الجميع حكمًا؛ لما يعلمون من أمانته وفطتنه وعدم محاباته أحدًا، فحكم بينهم بالعدل والقسط؛ فرضي الجميع بحكمه العدل، الذي لم تُغمط فيه قبيلة لصالح أخرى (199).

•    وكان من عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بين الناس؛ ألَّا يُفَرِّقَ بين ولٍّي وعدوٍ، أو بين قريب وبعيد؛ بل الناس كلهم عنده سواسية.

•    وفي قصة المرأة المخزومية التي سرقت، لما شفع فيها أسامة بن زيد حبُّه، ليعفو عنها، غضب أشدَّ الغضب، وتلوَّن وجهه الشريف -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وقال منكرًا على أسامة: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟". فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلمَّا كان العشيُّ قام -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أمَّا بعد، فإنَّما أهلك الَّذين من قبلكم؛ أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وإنِّي والَّذي نفسي بيده، لو أنَّ فاطمة بنت محمَّدٍ سرقت لقطعت يدها" (200).

وفي هذا القسم العظيم على إقامة الحدِّ، حتى على ابنته، التي هي بضعة منه، لو اقترفت ما يوجب ذلك-وحاشاها أن تفعل، وقد أعاذها الله منه-في هذا القسم العظيم؛ دليلٌ على نهاية حرصه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- على إقامة العدل بين الناس، ولو كانوا أولي قربى.

ولذا كان استياؤه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عظيمًا، من ذلك الأعرابي الجلف المسمى ذو الخويصرة، الذي أتاه ذات يومٍ وهو يقسم قسمًا، فقال له: يا رسول الله، اعدل. قال: "ويلك!! من يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" (201).

•    وقد تجلَّت مظاهر العدل ومعالمه عند النبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في أسمى صورها، في كلِّ مجالات العدل وصوره؛ بينه وبين ربِّه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الخلق.

•    فأمَّا عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فيما بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ؛ فتجلى في أعظم صوره على الإطلاق؛ فآثر حقه تعالى على حظ نفسه؛ فقام لمولاه حتى تفطَّرت قدماه، وقدَّم رضاه سبحانه على هواه؛ فكان يرغب في الشيء ويهواه غير أنه لم يؤذن له فيه، فلا يتجاوز ما علمه عن ربِّه ومولاه إلى ما يهواه، ومن ذلك: صلاته إلى بيت المقدس، حتى أكرمه الله تعالى بما يحب ويرضى.

•    وأما عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع نفسه الشريفة؛ فعاملها بالقسطاس المستقيم؛ فلم يدع لها هواها في الحصول على مناها، ولم يحرمها مما به قوامها وزكاتها وتقواها؛ كما هو هديه المعروف في زهده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الذي قام على القسط والعدل؛ من غير إفراط في نيل لذات الدنيا ولا تفريط في تركها، وما ذلك إلا لكمال عدله مع نفسه الشريفة، وإعطائها حقها؛ الذي صدَّق عليه وأقره لها: "إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا فاعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه" (202).

•    وأما عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بينه وبين الخلق؛ من إنصاف له؛ فقد قام به حقَّ القيام وبذله لأهله وأصحابه وجنده، مع عظيم مكانته ورفعة شانه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

•    ومن ذلك ما جاء عن أسيد بن حضيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ رجلٍ من الأنصار، قال: بينما هو يحدِّث القوم-وكان فيه مزاجٌ-بينا يضحكهم فطعنه النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في خاصرته بعودٍ، فقال: أصبرني. فقال: "اصطبر". قال: إنَّ عليك قميصًا، وليس عليَّ قميصٌ. فرفع النَّبي ُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن قميصه، فاحتضنه، وجعل يقبِّل كشحه. قال: إنَّما أردت هذا يا رسول الله (203).

•    ومن روائع ما جاء في ذلك العدل والإنصاف من نفسه الشريفة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أنه بينما كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يعدِّل صفوف أصحابه يوم بدرٍ، وفي يده قدحٌ يعدِّل به القوم؛ فمرَّ بسوَّاد بن غزيَّة -وهو مستنتلٌ من الصَّفِّ- أي متقدم-وقال: "استو يا سوَّاد". فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحقِّ والعدل. قال: فأقدني. فكشف رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن بطنه، وقال: "استقد". قال: فاعتنقه، فقبَّل بطنه. فقال: "ما حملك على هذا يا سوَّاد؟". قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بخيرٍ (204).

ومع كمال عدله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع الخلق؛ فإنه كان يدعو ربَّه، ويقول: "اللَّهمَّ إنَّما محمَّدٌ بشرٌ؛ يغضب كما يغضب البشر، وإنِّي قد اتَّخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه؛ فإيُّما مؤمنٍ آذيته أو سببته أو جلدته؛ فاجعلها له كفَّارةً وقربةً، تقرِّبه بها إليك يوم القيامة" (205).

فهكذا كان إنصافه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- نفسه من أمته، مع عظيم مكانته في قلوب أصحابه، وما ذلك إلا تحقيقًا لكمال العدالة، وتمام القسط بين الناس.

وقد كانت حياته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الخاصة آية من آيات العدل البشري؛ عدلًا ملازمًا له في حلّه وترحاله؛ بل وهو على فراش الموت -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، بأبي هو وأمي وفداه نفسي وولدي!!

تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لا يفضِّل بعضنا على بعضٍ في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يومٌ إلَّا وهو يطوف علينا جميعًا؛ فيدنو من كلِّ امرأةٍ من غير مسيس ٍحتى يبلغ إلى الَّتي هو يومها فيبيت عندها" (206).

وعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه؛ فأيَّتهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكلِّ امرأةٍ منهنَّ يومها وليلتها..." (207).

ومع نزول الموت به -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، واشتداد مرضه؛ غلا أنه كان حريصًا أشدَّ الحرص على العدل بينهن، رغم المشقة الشديدة التي تحصل له من تنقلِّه؛ حتى أذنَّ له في أن يمرض في بيت عائشة -رضي الله عنها-.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لمَّا ثقل النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- واشتد وجعه؛ استأذن أزواجه أن يمرَّض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج بين رجُلين تخطُّ رجلاه الأرض..." (208).

وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يعدل بين نسائه، ويتحمل ما قد يقع من بعضهنَّ من غيرة، كما كانت عائشة -رضي الله عنها- غيورة.

فعن أنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: أهدت بعض أزواج النَّبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلى النَّبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- طعامًا في قصعةٍ, فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها. فقال النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ" (209). فجمع النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فلق الصَّفحة، ثم جعل يجمع فيها الطَّعام الَّذي كان في الصَّفحة، ثمَّ حبس الخادم حتى أتي بصفحةٍ، من عند الَّتي هو في بيتها، فدفع الصَّفحة الصَّحيحة إلى الَّتي كسرت صفحتها، وأمسك المكسورة في بيت الَّتي كسرت (210).

وكان مع إقامته العدل بينهن؛ يطيِّب خاطر من أُسيء إليها، وينصح الأخرى، ويُذكِّرها بالله. كما فعل بين صفية وحفصة رضي الله عنهما، عندما بلغ صفيَّة أنَّ حفصة قالت عنها: بنت يهوديٍّ. فبكت، فلما دخل عليها النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ووجدها تبكي، فقال: "ما يبكيكِ؟" فقالت: قالت لي حفصة: إنِّي بِنْتُ يَهُودٍّي. فَقَالَ النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إنَّكِ لابنة نبيٍّ، وإنَّ عَمَّكِ لنبيٌّ، وإنَّكِ لتحت نبيٍّ، ففيمَ تفخرُ عليكِ؟" ثم قال: " اتَّقي الله، يا حفصة" (211).

وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع قيامه بالعدل في جميع شئونه وأحواله؛ يرغِّب أصحابه فيه ويحثهم عليه، ويرشدهم غلى ما يعينهم على تحقيقه.

ويقول لِمَنْ يتولَّى الحُكم والقضاء بين الناس: !"... فإذا جلس بين يديك الخَصْمَانِ؛ فلا تقضينَّ حتَّى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأوَّل؛ فإنَّهُ أحْرَى أن يبيَّن لك القضاء" (212).!

وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ينهى كذلك عن مصادرة حقِّ الفرد في الدفاع عن نفسه؛ تحرِّيًا للعدالة، فيقول: "... فإنَّ لصاحب الحقَّ مقالاً..." (213).

•    ولم يكن هذا العدل المحمَّدي، الذي لم تعرف له البشرية نظيرًا، قاصرًا على المسلمين وحدهم؛ بل يمتد لينعم به غير المسلمين أيضًا؛ فسنَّ الرسول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ما يحمي حياة غير المسلمين ويحمي أعراضهم وأنفسهم من كلِّ سوء، ويضمن لهم أن ينعموا بالعدل؛ فحذَّر -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من ظلمهم أو انتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة" (214).
 
وعن ابن أبي حدردٍ الأسلميِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّه كان ليهوديٍّ عليه أربعة دراهم، فاستعدى عليه؛ فقال: "يا محمَّد، إنَّ لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها". فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "أعطه حقَّه". قال: "والَّذي بعثك بالحقِّ ما أقدر عليها".

قال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "أعطه حقَّه". قال: "والَّذي بعثك بالحقِّ ما أقدر عليها، قد أخبرته أنَّك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه". قال: "أعطه حقَّه". وكان النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذا قال ثلاثًا لم يُرَاجَعْ. فخرج به ابن أبي حدردٍ إلى السُّوق وعلى رأسه عصابةٌ وهو مُتَّزِرٌ ببردٍ، فنزع العمامة عن رأسه فاتَّزر بها، ونزع البُردة فقال: "اشتر منِّي هذه البُردة"، فباعها منه بأربعة الدَّراهم (215)!!

ومن روائع مواقفه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في هذا الشأن ما حدث مع الأنصار في خيبر؛ حيث قتل عبد الله بن سهل الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وقد تَّم هذا القتل في أرض اليهود، وكان الاحتمال الأكبر والأعظم أن يكون القاتل من اليهود... ولمَّا لم تكن هناك بيِّنةٌ على هذا الظنِّ، والأمر في مجال الشكِّ والظنِّ؛ فلم يعاقب رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- اليهود بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا! فقام رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- هنا بما لا يتخيَّله أحدٌ؛ حيث تولَّى بنفسه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- دفع الدِّية من أموال المسلمين؛ لكي يهدِّئ من روع الأنصار، ودون أن يظلم اليهود... فلتتحمل الدولة الإسلاميَّة العبء؛ في سبيل ألاَّ يطبَّق حدٌّ فيه شبهةٌ على يهودي (216).

وصدق الله: (وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
***