رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
• ورحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عالمية؛ ما من أحَدٍ من الجِنِّ والإنس إلا وقد نال حظًا منها؛ المؤمن بالهداية، والمنافق بالأمن من القتل، والكافر بتأخير العذاب، والمعاهد بدخوله في عهده وذمَّته، بل إن جميع العوالم داخلة في هذه الرحمة؛ فتشمل الحيوان والطير والحشرات، بل والجمادات!!
• فلا جرم إذن؛ أن يكون هو نبيَّ الرَّحمة بحق -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وصدق الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
• ولا جرم أن يخصَّه ربُّه عزَّ وجلَّ فيجمع له -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- اسمين من أسمائه سبحانه؛ لم يجمعهما لأحد من الأنبياء غيره؛ فقال في وصفه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، وقال في وصف نفسه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحج: 65) (129).
فجمع النبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بين الصفتين؛ فكان كما وصفه الله عزَّ وجلَّ؛ وقد كان يدرك فيه كلُّ من عاشره -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- هذين الوصفين، كما قال مالك بن الحويرث -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أتيت النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في نفرٍ من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رحيمًا رفيقًا، فلمَّا رأى شوقنا إلى أهالينا قال: "ارجعوا فكونوا فيهم وعلِّموهم..." (130).
• وشواهد رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يضيق بها الحصر؛ حيث كانت ملازمة له لا تنفك ُّعنه في قول أو فعل، حاضرة في حركاته؛ بل وفي سكناته أيضًا، ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مؤكدًا هذه الحقيقة: "يا أيُّها النَّاس إنَّما أنا رحمةٌ مهداةٌ" (131).
فأمَّا رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بأمَّتِهِ:
فتتجلّى فيها أروع صور الرحمة البشرية على الإطلاق:
• ففي العبادة؛ كان حريصًا أشدَّ الحرص على رفع الحرج والمشقة عنهم، وألا يكلفوا أنفسهم فوق طاقتهم، ويقول لهم: "عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يملُّ الله حتَّى تملُّوا..." (132).
• ومن ذلك نهيه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن الوصال؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: نهى رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن الوصال رحمةً لهم. فقالوا: إنَّك تواصل. قال: "إنِّي لست كهيئتكم؛ إنِّي يطعمني ربِّي ويسقيني" (133).
• وكثيرًا ما كان يقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بكذا!!
فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي، أو على النَّاس، لأمرتهم بالسِّواك مع كلِّ صلاةٍ" (134).
وقال: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي، لأمرتهم أن يؤخِّروا العشاء إلى ثلث اللَّيل أو نصفه" (135).
• ومن روائع تلك الرحمة المهداة، وكمال الشَّفقة بأمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ أن يؤثرهم على حظ نفسه في العبادة، التي يجد فيها قرَّة عينه؛ فكثيرًا ما يترك العمل الذي يحبُّ أن يعمل به رحمةً بهم!!
• تقول عائشة -رضي الله عنها-: إن كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ليدع العمل وهو يحبُّ أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به النَّاس فيفرض عليهم (136).
• ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إنِّي لأقوم إلى الصَّلاة وأنا أريد أن أطوِّل فيها؛ فأسمع بكاء الصَّبيِّ، فأتجوَّز في صلاتي؛ كراهية أن أشقَّ على أمِّه" (137).
• ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لولا أن أشق َّعلى أمَّتي ما تخلَّفت عن سريَّةٍ، ولكن لا أجد حمولةً، ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشقَّ عليَّ أن يتخلَّفوا عنِّي! ولوددت أنِّي قاتلت في سبيل الله فقتلت، ثَّم أحييت، ثمَّ قتلت، ثمَّ أحييت" (138).
• وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حريصًا أشدَّ الحرص على رفع الحرج والعنت والمشقَّة عن أمته في أمور معاشها؛ رحمةً بهم؛ فيدعو لمن يرحمهم ويرفق بهم، ويحذِّر كلَّ من ولاه الله شيئًا من أمورهم، أن يشق َّعليهم؛ بل ويدعو عليه؛ فكان من دعاء النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "اللَّهمَّ من ولي من أمر أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به" (139).
• وأمَّا رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بأمته في الآخرة؛ فقمة سامقة، لا تناطحها الجبال الرواسي الشامخات!!
• يوم يقول كلُّ نبيٍّ: نفسي نفسي!! فيقول هو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "يا ربَّ، أمَّتي أمَّتي" (140)!! فلا تقرُّ عينه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حتى تدخل أمَّته الجنَّة!!
• بل إنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- آثر أمته بدعوته المستجابة، التي خصَّ الله بها كلَّ نبيٍّ؛ فادخرها هو لأمته يوم القيامة، حين تشتدّ حاجتها وكربتها!!
• يقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ؛ فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوته، وإنِّي اختبأت دعوتي شفاعًة لأمَّتي يوم القيامة؛ فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات من أمَّتي لا يشرك بالله شيئًا" (141).
• وقد تجلَّت روائع من صور رحمته وشفقته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالأطفال والأهل والضعفاء في مواقف عديدة.
• ومن ذلك؛ ما رواه أنس بن مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: دخلنا مع رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- على أبي سيفٍ القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السَّلام، فأخذ رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إبراهيم فقبَّله وشمَّه. ثمَّ دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- تذرفان. فقال له عبد الرَّحمن بن عوفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وأنت يا رسول الله؟!! فقال: "يا ابن عوفٍ، إنَّها رحمةٌ". ثمَّ أتبعها بأخرى، فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إن َّالعين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلَّا ما يرضى ربُّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (142).
• ولم تكن هذه الرحمة خاصَّةً بأولاده وأحفاده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فحسب؛ بل عامة لأبناء المسلمين، قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنهما: دخل عليَّ رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فدعا بني جعفر، فرأيته شمَّهم، وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: "نعم، قتل اليوم" فقمنا نبكي، ورجع، فقال: "اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا؛ فقد أتاهم ما يشغلهم" (143).
• ولقد كانت رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالعيال والأطفال مثار تعجبٍ ودهشةٍ في مجتمعه، الذي لم يكن يعهد مثل هذه الرحمة!!
• فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقالوا: أتقبِّلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنَّا والله ما نقبِّل!! فقال رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "وأملك إن كان الله نزع منكم الرَّحمة!!" (144).
• ولَمَّا رأى الأقرع بن حابس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يقبِّل الحسن، فقال: إنَّ لي عشرةً من الولد، ما قبَّلت واحدًا منهم!! فقال رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إنَّه من لا يَرحم لا يُرحم" (145).
• وعن شدَّاد بن الهاد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: خرج علينا رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في إحدى صلاتي العشاء، وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة ًأطالها. قال: فرفعت رأسي؛ وإذا الصَّبيُّ على ظهر رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وهو ساجدٌ، فرجعت إلى سجودي. فلمَّا قضى رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتها، حتَّى ظنَّنا أنَّه قد حدث أمرٌ، أو أنَّه يوحى إليك. قال: "كلُّ ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني؛ فكرهت أن أعجِّله حتَّى يقضي حاجته" (146).
• فيا لها من رحمة ما أوسعها!! "فكرهت أن أعجِّله حتَّى يقضي حاجته"!! إنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لا يحب أن يزعجه أو ينازعه، وهو ممتطٍ ظهره الشريف؛ حتى يتركه بنفسه بعد أن يكون قضى حاجته!! كل ذلك وهو إمام بالناس في الصلاة!! فأين المحبون المتأسُّون بنبيِّ الرحمة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من مثل هذه الرحمة؟!!
• ولَمَّا استفاض لدى أصحابه تلك الرحمة منه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالصبيان والاحتفاء بهم؛ كانوا يأتونه بأبنائهم؛ فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، من غير أن يتحرجوا من ذلك.
• فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يؤتى بالصِّبيان فيدعو لهم؛ فأتي بصبيٍّ، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فأتبعه إيَّاه، ولم يغسله" (147).
• وأتت أمُّ قيسٍ بنت محصنٍ رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بابنٍ لها لم يأكل الطَّعام، فوضعته في حجره، فبال على ثوبه، فلم يزد على أن نضح بالماء (148).
فلم يتبرَّم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من بول الصبي في حجره، ولم يثرِّب أو يعنِّف مَنْ أتى به.
• وعن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثمَّ يضمُّهما ثمَّ يقول: "اللَّهمَّ ارحمهما فإنِّي أرحمهما" (149).
فعلى هذا النحو وأكثر، كانت رحمة نبي الرحمة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالأطفال.
• وأمَّا رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بأهله؛ فتتجلى أول ما تتجلى؛ في حرصه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- على نجاتهنَّ من عذاب الله، وتعهدهنَّ بنصحه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
• فعن أمِّ سلمة -رضي الله عنها-، أنَّ النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- استيقظ ليلةً فزعًا فقال: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات - يريد أزواجه- لكي يصلِّين، ربَّ كاسيةٍ في الدُّنيا، عاريةٍ في الآخرة" (150).
• وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يرشدهنَّ إلى ما هو خيرٌ لهنَّ وأنفع من العمل؛ فعن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-، أنَّ النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- خرج من عندها بكرة حين صلَّى الصُّبح، وهي في مسجدها، ثمَّ رجع بعد أن أضحى، وهي جالسةٌ، فقال: "ما زلت على الحال الَّتي فارقتك عليها؟" قالت: نعم. قال النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لقد قلت بعدك أربع كلماتٍ، ثلاث مرَّاتٍ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنَّ؛ سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" (151).
• وتوجيهاته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ووعظه لنسائه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ونساء المؤمنين كثيرة متنوعة، في مناسبات وأحوال متفرقة؛ يحثهنَّ فيها على البرِّ والصدقة وطاعة الزوج في المعروف.
وهو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ذلك ممتثل توجيهات القرآن -الذي هو خُلُقُهُ-؛ في قوله عزَّ وجلَّ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه: 132).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).
• ورحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حاضرة ظاهرة كذلك في إعانتهنَّ على أمور البيت والمعاش؛ فيما يقوم به -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في بيته من أعمال؛ خدمة ومعونة لهنَّ؛ فكان يخيط ثوبه، ويخصف نعله؛ هذا مع جنابه العظيم، ومقامه الكريم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
• فقد سُئِلَتْ عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة" (152).
• وعنها -رضي الله عنها-، قالت: "كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم" (153).
• وسُئِلَتْ عائشة -رضي الله عنها-: ما كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يعمل في بيته؟ قالت: "كان بشرًا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" (154).
• وأمَّا رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بضعفاء المسلمين؛ فقد منحهم وأولاهم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كامل رحمته، وعظيم تحنُّنه ورأفته وشفقته.
• فعن أنس بن مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذا صلَّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناءٍ إلَّا غمس يده فيها، فربَّما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها (155). وذلك للتبرك به -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
وما كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يفعل ذلك إلا لكمال رحمته وشفقته ورأفته بهم؛ ليطيب نفوسهم، مع ما كان في ذلك من عناء له، ومشقة شديدة؛ من شدَّة برد المدينة في الشتاء.
• ولم تكن هذه الرحمة متكلفة يبذلها -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لهم حال حياتهم فقط؛ بل إنها تمتدُّ لتشملهم بعد مماتهم أيضًا!!
• فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّ أسود رجلاً أو امرأةً -كان يكون في المسجد، يقمُّ المسجد، فمات ولم يعلم النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بموته، فذكره ذات يومٍ، فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟" قالوا: مات يا رسول الله. قال: "أفلا آذنتموني؟!". فقالوا: إنَّه كان كذا وكذا... قصَّته. قال: فحقروا شأنه. قال: "فدلَّوني على قبره" فأتى قبره، فصلَّى عليه (156).
• وكان من كمال رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بهؤلاء الضعفاء أن يترك بعض ما يحب من العمل رحمة بهم وشفقة عليهم، كما تقدم في تركه الخروج للجهاد مع كل سرية (157).
• وقد كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يخفض لهم جناحه تواضعًا لهم، ورحمة بهم؛ فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين؛ فيقضي له الحاجة (158).
• وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم (159) وغير ذلك كثير كما في مبحث تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
• أمَّا رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالكافرين؛ فهذا مما أدهش العالمين، وأعجز فهم الأكثرين!! آذوه وأدموا قدمه الشريفة وأغروا به سفهاءهم؛ فلما عُرض عليه إهلاكهم؛ قال: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا" (160)!!
• قاتلوه، وشجَّوا وجهه الشريف -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وكسروا رباعيته، وقتلوا أحبَّ النَّاس إليه، وألَّبوا عليه الجيوش لاستئصاله؛ فلمَّا أن أظفره الله عليهم؛ رحمهم، وعفا عنهم، وأحسن إليهم!!
• ذلك الموقف الذي أحار أحد كبار المؤرخين فقال: "كانت تصرفات الرسول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في أعقاب فتح مكة، تدل على أنه نبيٌّ مرسل، لا على أنه قائدٌ مظفر؛ فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه، برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توَّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" (161).
• ولم تقف رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عند الإعراض عن أذيَّتهم والصفح عنهم، والحلم عن جهالاتهم؛ بل إنها تعدَّت ذلك إلى مجال أرحب وأفسح، يتجلى في حرصه البالغ على هدايتهم وإنقاذهم من موجبات سخط الله وعذابه، فأرهق في سبيل ذلك نفسه الشريفة، وأجهد بدنه؛ حتى كاد يُهلك نفسه أسفًا عليهم؛ حتى رفق به ربه و عاتبه رأفة ورحمة به؛ فقال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3)، وقال له: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: 8).
• وعندما قيل له ادع على المشركين، قال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إنِّي لم أبعث لَّعانًا، وإنَّما بعثت رحمةً" (162).
• فليت شعري! أين دعاة اليوم من مثل هذه الشفقة، وتلك الرحمة بالخلق، والحرص على دعوتهم وهدايتهم؟!!
وصدق الله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
• لقد كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- رحمة للعالمين على اختلاف أديانهم وأعراقهم، وكيف لا يكون كذلك وقد وصفه ربُّه عزَّ وجلَّ بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)؟!
• كيف لا يكون كذلك وهو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- القائل في فضل الرحمة: "الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء" (163)؟!
• كيف لا يكون كذلك وهو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- القائل في وصف أهل الجنة: "وأهل الجنَّة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مُقسطٌ مُتصدِّقٌ مُوفَّقٌ، ورَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القلبِ لكلِّ ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ مُتعفِّفٌ ذو عيالٍ..." (164)؟!
• فلا جرم أن يمتلئ قلبه رقة وحنانًا وشفقة، وتبلغ رحمته الإنسان والحيوان، بل والجماد.
• فاتسعت رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لتشمل الطير والحيوان؛ فأمر بالرِّفق بها، وتوعَّد من عذَّبها أو حبسها حتى الموت بالعذاب والنار في الآخرة.
• ونهى -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أن تُجعل الطيور أو غيرها؛ من ذوات الأرواح، هدفًا للرمي بالسهام وغيرها من الأسلحة؛ فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لا تتَّخذوا شيئًا فيه الرُّوح غرضًا" (165).
• ونهى -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أن تُصبر البهائم (166)؛ أي أن تُحبس وهي حيَّة؛ لتقتل بالرمي ونحوه.
• وقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- محذرًا من يؤذي الحيوان الضعيف: "دخلت امرأةٌ النَّار في هرَّةٍ ربطتها؛ فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" (167).
• ومرَّ رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ببعيرٍ قد لحق ظهره ببطنه، فقال: "اتَّقوا الله في هذه البهائم المعجمة؛ فاركبوها صالحةً، وكلوها صالحةً" (168).
• وفي المقابل؛ فقد جعل الإحسان إلى هذه الحيوانات سببًا لمغفرة الذنوب العظيمة؛ فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "بينا كلبٌ يطيف بركيَّةٍ، قد كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها؛ فاستقت له؛ فسقته إيَّاه فغفر لها به" (169).
• ومن مظاهر شفقته ورحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بهذه المخلوقات الضعيفة؛ ما يرويه عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، قائلاً: كنا مع رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرة فجعلت تعرِّش، فجاء النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقال: "مَنْ فَجَعَ هذه بولدها؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إلَيْهَا" (170).
• فلا عجب إذن أن يبكي الحيوان البهيم بين يدي نبي الرحمة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، ويشتكي له ما يجده من قسوة صاحبه!!
فعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما-، قال: أردفني رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- خلفه ذات يوم، فدخل حائطًا (171) لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلمَّا رأى النبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حَنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فمسح ذفراه (172) فسكن، فقال: "مَنْ رَبُّ هذا الجمل؟ لِمَنْ هذا الجمل؟ "فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. فقال: "أفلا تتَّقي الله في هذه البهمية الَّتي مَلَّكَكَ اللهُ إيَّاهَا؟ فإنَّهُ شَكَى إليَّ أنَّكَ تُحبيه وتُدئبه" (173). فلله ما أعظمه من خُلُقٍ وما أوسعها من رحمة!!.
• بل أعجب من ذلك أن تتسع رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لتشمل الجماد أيضًا!! فعن أنس-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أن النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كان يخطب إلى جذعٍ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ذهب إلى المنبر فحنَّ الجذعُ، فأتاهُ فاحتضنهُ، فسكنَ. فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لَوْ لَمْ أحتضنهُ لَحَنَّ إلى يوم القيامة" (174).
يالله!! خشبة تَحِنُّ إلى رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-!! فيُبَادِلهَا هذا الشعور، ويحتضنها!!
أين دُعاة حُقوق الإنسان، والرِّفق بالحيوان من هذه المعاني الرائعة، وتلك القمم السامقة؟!!
إن أصحاب القلوب القاسية لا يدركون شيئًا من سموِّ تلك الرحمة وشمولها وروعتها، بل ليس للعاطفة في صدروهم مكان؛ إنهم كالحجارة الصماء، جفافٌ في العطاء والأخذ، وبخلٌ بأرق المشاعر والعواطف الإنسانية.
***
رحمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وشفقته في دعوته:
• لم تكن دعوته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بمعزل عن شفقته ورحمته بأمته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّ النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- تلا قول الله عزَّ وجلَّ في إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (إبراهيم: 36) وقال -عليه السَّلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118) فرفع يديه وقال: "اللَّهمَّ أمَّتي أمَّتي" وبكى. فقال الله عز َّوجلَّ: "يا جبريل اذهب إلى محمَّدٍ-وربُّك أعلم-فسله ما يبكيك؟" فأتها جبريل عليه السَّلام فسأله، فأخبره رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بما قال، وهو أعلم؛ فقال الله: "يا جبريل اذهب إلى محمَّدٍ فقل: إنَّا سنرضيك في أمَّتك ولا نسوؤك" (175).
• بل لم تكن دعوته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بمعزل عن شفقته ورحمته للعالمين؛ فقام يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ لا يكلُّ لا يملُّ ولا يدخر في ذلك وسعًا؛ حتى كاد يهلك نفسه الشريفة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حزنًا على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه!! فقال له ربه تسلية له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6)، وقال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3)، وقال له: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: 8).
وكأنه عتاب وإشفاق على رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لشدة ضيقه وهمِّه بعدم إيمان قومه، وهو
يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم وهم أهله وعشيرته قومه، ويضيق صدره؛ فربُّه الرءوف الرحيم يرأف به، وينهنهه عن هذا الهمِّ القاتل، ويهون عليه الأمر!!
ويا له من إخلاص وجدٍّ وعزمٍ وحرصٍ على هداية الخلق؛ حتى كاد يهلك نفسه لأجلهم رحمة بهم وشفقة عليهم!!
• فليت شعري أين دعاة اليوم -الذين يدعون محبته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- والذين يريدون نصرته- أين هم من مثل هذا الجد والعزم، وتلك الشفقة والرحمة بالخلق والحرص على دعوتهم وهدايتهم؟!!
• لقد قال له ربه عزَّ وجلَّ: (قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر: 2)؛ فقام -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وظلَّ قائمًا أكثر من عشرين عامًا -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.
• قام رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لم يسترح ولم يسكن ولم يعش لنفسه أو أهله!!
• قام -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وظلَّ قائمًا يحمل على عاتقه عبء البشرية جميعًا، وعبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض.
• قام فشملت دعوته عليه الصلاة والسلام جميع الخلق، فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أكثر رسل الله دعوةً وبلاغًا وجهادًا، لذا كان أكثرهم إيذاءً وابتلاءً، منذ بزوغ فجر دعوته إلى أن لحق بربِّه جلَّ وعلا.
• وكانت دعوته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كلُّها رحمة وشفقة وإحسانًا وحرصًا على جمع القلوب وهداية الناس جميعًا، مع الترفق بمن يخطئ أو يخالف الحق، والإحسان إليه، وتعليمه بأحسن أسلوب وألطف عبارة وأحسن إشارة، متمثلاً قول الله عزَّ وجلَّ: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
• ومن ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنى، فعن أبي أمامة-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: إنَّ فتًى شابًّا أتى النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقال: يا رسول الله، آذن لي بالزِّنا. فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه.
فقال له: "ادنه"، فدنا منه قريبًا، قال: "أتحبُّه لأمِّك؟" قال: لا والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا النَّاس يحبُّونه لأمَّهاتهم".
قال: "أفتحبُّه لابنتك؟" قال: لا والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا النَّاس يحبُّونه لبناتهم".
قال: "أفتحبُّه لأختك؟" قال لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا النَّاس يحبُّونه لأخواتهم".
قال: "أفتحبُّه لعمَّتك؟"قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا النَّاس يحبُّونه لعمَّاتهم".
قال: "أفتحبُّه لخالتك؟" قالك لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا النَّاس يحبُّونه لخالاتهم".
قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللَّهمَّ اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه"فلم يكن بعد ذلك التفى يلتفت إلى شيءٍ" (176).
وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
***