(88) إلى العلماء:
وأنْتُمْ أيُّهَا العُلماءُ، ويا ورثة الأنبياء، ويا مَنْ هم بمنزلة النُّجُوم في هداية الأمَّةِ، بل ويا قادتها إلى سبيل الخيرات كيف تقاعدتم، وتكاسلتم، وأحجمتم عن أداء هذا الواجب الدِّيني؟!

ألستم كهؤلاء المُبَشِّرينَ الذينَ خرجوا من ديارهم، وفارقوا أهلهم، وعشيرتهم، وجَابُوا القِفَارَ، وقطعوا عرض البحار تارةً يلفحهم الهجير، وأخرى يضرهم الزمهرير؟ كل ذلك في سبيل نشْر دينهم في تلك البلاد، ولم يكن ذهابهم إليها بمجرد علمهم بعقد المؤتمر، وإنما كان قبل هذا بأعوام، أهُمْ خُلِقوا من حديد حتى تكون قواهم فوق قوى البشر في احتمال مشاق السفر أم دينهم أوضح من دينكم حُجةً وأقوى محجة؟ أم ذهبوا بدعوة خصوصية دون سائر الناس؟ ليس هذا ولا ذاك، وإنما الهمم تتفاوت والعزائم تتبارى والواجبات صادفت مَنْ يؤدِّيها ويقوم بها.

تمحلنا لكم اسم العُذْرِ من سكوتكم عن محو هذه البدع التي فشت وانتشرت في البلاد، وكثر من جرَّائها الفساد، وحطَّت من كرامة الدِّين، وقلنا إن الذنب للحكومة التي أباحت فتح بيوت المومسات العاهرات، وسَهَّلَتْ للشبان الدخول في الحانات، ومُغازلة الغانيات الرَّاقصات جهارًا بلا خفاءٍ ولا استحياء، فقولوا لنا -يرعاكم الله- ما عُذْرُكُمْ في عدم تأليف لجنةٍ منكم تذهبُ إلى بلاد اليابان أو الصين للدعوة إلى الإسلام؟

قولوا لنا وقولُكُمُ الحق وأصدقونا الحديث وأنتم أهل الصِّدق، أتُؤلَّفُ اللجنةُ من السَّماسرة والتُّجار؟ أمْ من كُلِّ بَنَّاءٍ ونَجَّارٍ؟ أمْ من الصيدليين والميكانيكيين؟ وأنتم بين جُدران الأزهر تتلون الكتاب، كِتَابَ اللهِ، وَتُفَسِّرُونَ معناه، وتُدَرِّسُونَ حديثَ الرَّسُولِ وعلوم المعقول والمنقول، وتُلقَّبونَ بالألقاب الجليلة ما بين العلَّامة وصاحب الفضيلة.

إنَّ وظيفتكم ليس في الزِّيِّ واللبَاسِ، وليست قاصرة على حمل الكُرَّاسِ، بل وظيفتكم تأييد الدِّين، ورعاية شأن المُسْلِمين، فالدعوة إلى الإسلام أولى منكم بالاهتمام، ألم تفهموا معنى قول سيد الكائنات: “إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيِّاتِ؟"، ألم تقرءوا في الكتاب المُبين قوله تعالى: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ؟

أتُرَى لو عُقِدَ هذا المؤتمر الدِّيني في عصر الخلفاء الرَّاشدين، أو في دولة الأمويين والعباسيين، أكان العلماء في تلك العُصُور يعتريهم قُصُورٌ أو تقصيرٌ عن الذهاب إلى بلاد اليابان؟ أم كانوا يذهبون إليها سعيًا على الأقدام؟ خصوصًا وأنَّ هذا العصر قد سهلت فيه أسبابُ السَّفر، فقطار سِكَّةِ الحديد، يقطع عرض البيد بلا تعبٍ ولا إعياءٍ ولا حثًّا على السَّيْرِ بالحداء، وهذه السُّفُنُ تجوبُ البحار بقوة البُخار لا يعطلها رُكُودِ الرِّياح، ولا قِلَّة خبرة الملّاح، تقطعون فوقها من المسافات، في قليل من السَّاعات، ما لا تقطعونه في عشر أمثالها لو كنتم على ظهر اليَعْمَلات، أو الجياد الصَّافنات.         

لا يمنعكم الهجير، ولا الزمهرير، عن متابعة المسير، هذا فضلًا عن الأمان، في كُلِّ مكان.
•••
الآن لنا العُذْرُ أنْ ملأنا الفضاء بالبُكاء، أو مَزَّقَ الأسَفُ الأحشاء، أو وقفنا على جدث الإمام، مفتي الأنام الشيخ محمد عبده وقلنا: أيها الأستاذ الحكيم والفيلسوف العليم، أسامع فننادي أم عدتك عن السماع العوادي؟ أتُرى لو كنت في زُمْرَةِ الأحياء، وسمعت بهذا الخبر من عقد المؤتمر، أكُنْتَ تُعيره الأذن الصَّمَّاء؟ أم كنت تشحذ حَدَّ الهِمِّةِ الشَّمَّاءِ، والعزيمة القعسَاءِ، وتدعو الأغنياء إلى بذل المال لتأليف وفْدٍ من خِيرَةِ الرِّجَالِ، الذين لهم قدم في فلسفة الدِّين راسخة، وهِمَّة في خدمته شامخة، تزودهم بعلمك وإرشادك، وحكمتك وسدادك ليذهب إلى بلاد اليابان، لنشر لواء الإسلام؟

لا والذي أمْرُهُ الأمْرُ، والذي يعلمُ السِّرَّ والجَهْرَ، وحَكَمَ عَلَيْكَ بِسُكْنَى القبر، لو كُنْتَ فِينَا حَيًّا ما كُنْتَ تُقَصِّرُ عن هذه الخدمة الدِّينية، وإحرازُ هذه الفضيلة السَّنِيَّة، فَرَحِمَ اللهُ أيامًا كُنْتَ فيها تسدد من الفعل والقول، وسقى الغيث زمانًا كنت فيه صاحب الحَوْلِ والطوْلِ، وعزانا عليك بخلف عنك تلقى عهود المعالي، ومنك استقى شآبيب الشَّرف العالي؛ ليكون منك خير العِوَضِ، بل الدواء الشافي مِمَّا حَلَّ بالأمَّةِ من المرض.         

وأسكنك في دار النعيم والمُلْكِ الكبير، إنه السَّمِيعُ المُجِيبُ القَدِيرُ.

فاتقوا الله أيُّها العُلَمَاءُ وراقبوه، وأدُّوا وظيفتكم في الهيئة الاجتماعية وإلَّا فعلى الإسلام والدُّنْيَا السَّلام.