(66) المرأة اليابانية
إذا كان عُلَمَاءُ العمران يَعُدُّونَ المرأة عضوًا عاملًا في الهيئة الاجتماعية، ويُوجِبُونَ تعليمها العلوم والمَعَارِفَ لجلال مركزها، وإذا كانوا يجعلون تَمَدُّنَ الأمم التَّمَدُّنَ الحقيقي متوقفًا على كمال تربيتها فإنَّ المرأة اليابانية هي المثالُ الصحيح على هذه الدَّعوى، وإذا كانت المرأة اليابانية وصلت إلى هذه الدرجة في التربية الصحيحة والآداب الفاضلة على قُرْبِ عهدها بالمدينة، فكيف بها إذا مَرَّتْ عليها القرون وهي تَجِدُّ وتجتهدُ في هذا السَّبيل؟!

تُولَدُ اليابانية ولا تصل إلى الخامسة من سنين حياتها حتى يُدخِلها وَلِيُّ أمْرِهَا المدرسة، ومهما كان فقيرًا ذا خصاصةٍ في العَيْشِ، فإنَّهُ يَكِدُّ ويَكدَحُ في سبيل الإنفاق عليها ويُقَدِّمَ الاهتمام بها على كُلِّ أمْرٍ يهمه في الحياة، حتى بلغت بهم درجة الاعتناء بتربية البنات إلى أنْ يُعَدُّ مَنْ لم يُدْخِلِ ابْنَتَهُ المدرسة مِنْ أحَطِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً وأسْفَهَهُمْ عَقْلًا وَيَصُمُّونَهُ بِوَصْمَةِ العَارِ.

وهم ولا شك لم يقدروا المرأة هذا القدر إلَّا بعد علمهم بنفعها في المجتمع الإنساني، وتحققهم أن أول خطوة يخطوها الإنسان في التقدم إنما هي نتيجة ما وصل إليه في تربية أمه، وتلقَّاه عنها من المبادئ الأدبية التي غرست في نفسه بذور الفضيلة بكُلِّ أنواعها، ولو اختبرنا أحوال المرأة اليابانية في أدوار حياتها من يوم دخولها المدرسة إلى اليوم الذي تصير فيه زوجة للبعل، ومربية للأبناء نجدها عنوان الكمال والفضيلة وحسن الآداب، فالتي في مهد التربية المدرسية فهي تعرف مقدار محبة الوطن معرفة تامة كأن حب الوطن علم من العلوم التي تتلقاها في المدرسة فهي تطبِّق العلم على العمل.

والتي حصلت منهن على العلوم ونالت شهادتها تعمل وتشتغل بما يُفيدُها ويُفيدُ عائلتها في الأمور المادية والأدبية معًا، والتي تقترن منهن تكون في بيتها مُدبِّرة مُحسِّنة حالتها وحالة بعلها المعاشية بفضل ما تتلقاه من العلوم، والآداب، وأنواع الكمالات، والتي ليس لها بعل ولها أولاد تقوم بتربيتهم أحسن تربية حتى تؤهلهم إلى أن يكونوا سُعداء في الحياة، وهكذا تجد المرأة اليابانية في كُلِّ أحوالها وأطوارها مثالًا للعِفَّة، وكَرَمِ النَّفس، وغير ذلك من الصِّفات الممدوحة.

وقد ظهرت آثار تربية المرأة اليابانية في الحرب الأخيرة فإنها أظهرت من محبَّتها لوطنها ما لا يُظَن أن امرأةً في العالم غير اليابانية تُظهرْهُ مهما كانت منزلتها في التربية والتعليم.

ومثال هذا أن التلميذات منهن لَمَّا كُنَّ يَفْرَغْنَ من دُرُوسِهِنَّ يشتغلن الأكسية، والأربطة، وكل ما يقدرون على صُنْعِهِ من الملابس العسكرية ويُقدِّمْنَهُ إلى جمعية الصليب الأحمر التي كانت يوجد فيها أطباء لمداواة جرحى الحرب، وقد قدَّمْنَ كثيرًا من صُنع أيديهن عند سقوط بورت آرثر، واهتممن بذلك كُلَّ الاهتمام؛ حيث الجرحى في هذه الواقعة كانوا يُعَدُّون بالآلاف، هذا فضلًا عن اشتراكهن مع الرجال في كُلِّ احتفال أو مظاهرة بخصوص الانتصار على الروس، مما لا يفوقهن فيه الرجال بشيء من الأشياء.

وقد ذكرنا في غير هذا الموضوع خبر المرأة اليابانية التي أمرت ولدها الوحيد بالتطوع في الحرب ولَمَّا لم تقبل منها الحكومة تطوعَه لكونه وحيدها، قتلت نفسها بالسِّكَين أمامه حتى لا يكون هناك عائقٌ يمنعه عن التطوع في خدمة الوطن التي هي من الواجبات المفروضة عليه.
•••
هذا ما وصلت إليه المرأة اليابانية بفضل التربية والتعليم، والمرأة الشرقية قد امتازت بمِزيَة السَّبْقِ في ميدان الحضارة على غيرها من نساء الأمم الأخرى، ولكن إذا صَادَفَتْ مَنْ يَعتني بشأنها؛ إذ الاستعداد موجود فيها والقابلية لتأثير التربية الفاضلة متوفِّرة عندها، وهي أذكى من المرأة الغربية بحسب الفطرة ولْنتخذ مثالًا على ذلك نساء العرب في العصر الأول فإنهن كنَّ على جانب عظيم من حيث أدب النفس وكمال العقل، ولهن محاورات ومخاطبات مع المُلوك والأمراء وكنَّ يُظْهِرْنَ فيها من البلاغة وحُسْنُ البيان ما لا يقدر على الإتيان بمثله في هذا العصر أعلى البلغاء كعبًا وأكمل الناس عقلًا.

والذي يُطالعُ سيرة الوافدات منهن على النبي -صلَّى الله تعالى عليه وسلم- وعلى سيدنا معاوية بن أبي سفيان يتحقَّق صَدْق ما قلناه.

فلو اعتنى المصريون الاعتناء الحقيقي بتربية الجنس اللطيف، لَمَا كُنَّا نرى من هذه المفاسد والأمور الموجبة للأسف شيئًا يُذكَر.

ومِنَ الخَرَق، والحُمْقِ، والجهل العميق أن تعتقد أن تعليم المرأة مُفْسِدٌ لأخلاقها مُعَرِّضٌ عِرْضَهَا للابتذال، فإنَّ العلم وحُسْنَ التربية يكفلان نفي هذه الأوهام، بل هذا هو الضلال المبين.

ولَوْ سَلَّمْنَا جدلًا بأن تعليم المرأة المصرية العربية العلوم يُسَهِّلُ لها طرق الفساد، فإن فسادها وهي متعلمة أخَفُّ ضررًا من فسادها وهي جاهلة؛ لأن علمُها يُعرِّفُها كيف تُحسِن الفساد ويحضها على عدم ارتكاب هذه المفاسد.

والقاعدة أنَّ الجاهلَ إذا سَلَكَ سبيلَ الغَيِّ جَلَبَ لنفسه الضَّرَرَ من حيث لا يشعر، أمَّا المُتعلم فإنه ينهج هذا النهج على نموذج به يحفظ من كرامته بمقدار ما تعلَّم.

وللهِ دَرُّ القائل:
قالوا البنون عليهم
مدار سعد الحياة
فقلت كيف نسيتم
يا قوم حظ البنات


وليس مُرَادُنَا بتربية المرأة الشرقية هو مُجَرَّدُ تعليمها العلوم العصرية والفنون اليدوية، بل مرادنا أن تكون تربيتها بحسب أصُول وقواعد الشريعة الإسلامية؛ لأنَّ آداب الدِّين الإسلامي إذا أُضيف إلى هذه العلوم كانت المرأة الشرقية في عداد الطبقة العالية من حيث طهارة النفس، وتنزيهها عن ارتكاب الدنايا، واكتساب المحامد، والتخلّق بالأخلاق المُرضية؛ لأننا نشاهد غيرها من النساء اللاتي تعلمن العلوم خاليات من هذه الفضائل التي جاءت بها الشريعة الإسلامية التي من ضمنها الحجاب.

ولا يخفى أنَّ الدِّين هو أساس كُلِّ فضيلة وتعليم العُلوم إذا لم يكن شاملًا للتعاليم الدِّينية فلا يُفيدُ الفائدة المقصودة من تربية المرأة التربية الحقيقية، وتهذيبها التهذيب الحَسَنَ.