زوجتي تمنع أبنائي من رؤية أمي
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
غـفـــر الله له ولوالديه وللمسلمين

الملخص:
شخص زوجته بينها وبين أهل زوجها مشكلات كثيرة، أدتْ إلى منعها للأولاد مِن السلام عليهم أو صلة رحمهم.

التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ متزوج مِن فتاة جامعية، لا أعيب عليها خُلُقًا أو دينًا، فيها كثيرٌ مِن الصفات الحسنة، مِن رعاية زوجها، والاهتمام بأبنائها، وعدم التقصير في بيتها.
المشكلة أن زوجتي كثيرة الانفعال والتوتُّر، وبينها وبين أمي وأخواتي البنات خلافٌ شديد، بسبب بعض الصفات السلبية في أخواتي؛ ممَّا أدَّى إلى قيام زوجتي بإعلان حالة الطوارئ، ورفض رؤية أبنائي لأمي وأخواتي، بل وحرَّضتْ الأولاد على عدم السلام عليهنَّ أو مصافحتهنَّ!
أنا أتألَّم مِن حزن أمي على فِعْل زوجتي، وكذلك أتألَّم على كَسْر أخواتي بتلك الطريقة، وحرمانهنَّ من الأولاد.
والسؤال: هل لزوجتي الحقُّ في قَطْع صلة الرحم بتلك الطريقة وتهديدها بترك البيت؟
فكرتُ في شراء مسكنٍ بعيدٍ عن أمي وأخواتي لأحلَّ تلك المشكلات.
فما رأيكم بارك الله فيكم؟

الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فجزاك الله خيرًا أيها الأخُ الكريمُ لِحِرْصك على إنصافِ زوجتك، والثناءِ على دينِها وخُلُقِها في ظلِّ هذه المشكلات التي تختلطُ فيها الأمورُ، وتَطيشُ فيها السِّهامُ، ويُنسى فيها المعروفُ، ويَنْدُر فيها الإنصافُ.

تعلَم -سلَّمك الله- أنَّ المشكلاتِ الأسريَّةَ مِن هذا النوعِ الذي ذَكَرْتَهُ، لا تكاد تخلو منها أسرةٌ فيما أعلَمُ؛ وإنما تَتَنَوَّع في أشكالِها وأسبابها وصُوَرِها، ومعرفةُ هذا مما يَدْفَعُ الإنسانَ للهُدُوء والتروِّي؛ لأنَّ ما هو فيه ليس بالأمر الفريد ولا العجيب؛ وإنما هي صورٌ متطابقةٌ ومتكرِّرةٌ، ومِن ثَم يكون البحثُ عن طُرُقٍ هادئة للعلاج، والاستفادة من التجارب السابقة.

والخطوةُ الرئيسةُ في العلاجِ تَكْمُنُ في الحِرصِ على العدل، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، والبُعدِ عن المحاباة والجَوْر، فلا تراعِ طرَفًا على حسابِ آخَرَ، ثم السعيِ الحثيث لِبَثِّ رُوح الأُلْفةِ والموَدَّةِ، بتَضييقِ مَداخل الشيطان، والبُعد -قَدْر المستطاعِ- عن أسباب الشَّحناء والبَغضاءِ، وهذا -بلا شكٍّ- سهل باللسان صعب بالأفعال، ولذلك يحتاج إلى جهاد ووقتٍ وجهدٍ وحُسنِ تصرُّف؛ فصِلَةُ الرَّحِم أسمى وأغلى ما يُسْعَى إليه.

وأول ما يجب عليك أخي الكريم هو ترتيب أَوْلَوياتك، وأن تبدأ بالأهمِّ فالمهمِّ، وتأتي في المرتبةِ الأولى صلةُ أمِّك ورعايتُها وتلبيةُ رَغباتها، ومساعدتها ماديًّا إن كانتْ محتاجةً؛ فهذا هو اللائق بمنزلة الأم، وقد أجْمَعَ أهلُ العلم على وُجُوب النفقةِ للأمِّ إن كانت مُعسِرة محتاجة؛ ولكن لا تُخْبِرْ زوجتَك بما تفعَلُه معها إن كان ذلك يُغضِبُها، أو يكون سببًا للخلاف بينكما، وفي المعاريضِ مَنْدُوحةٌ عن الكذب، والرجلُ هو رئيسُ البيتِ، ويجب أن يَتعامَلَ بالحكمة واللطف، فيَحْفَظ ودَّ زوجِه، ويعرف حقَّ أمِّه وفضلَها، ويصل أخواتِه؛ فيَجْمَع بين الحُسْنَيْينِ.

وفي الصحيحينِ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسْن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثُم مَن؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثُم مَنْ؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثُم مَن؟ قال: ((ثم أبوك))، وزاد مسلم: ((ثم أدناك أدناك)).

وزوجتُك يَجِب أن تَفْهَمَ هذا جيِّدًا، وتعلم أنَّ حقَّ أمِّك مُقَدَّمٌ على حقِّ مَن سواها، وأنه لا مجالَ للمناقشةِ ولا للتماحُل، خصوصًا أنَّ زوجتك صاحبة دينٍ وخُلُق، وتلك المزِيَّةُ خليقةٌ أن تُرَغّبَها في الصبر والاحتساب، وأن تُعينَك على صلة أهلك، وليس العكس، ولا شك أنَّ منعَها لوالدتك مِن رؤيةِ أحفادها، وتربيتَهم على قطيعة الرحمِ بالصورة التي ذَكَرْتَ - مِن الحرام القطعيِّ، وزَيْغٌ عن سواء السبيل، وحِرْمانٌ مِن التوفيق، نسأل الله السلامة والعافية!

ويا لله العجَب! كيف لم تُفكِّر زوجتك -ولو للحظةٍ واحدةٍ- أنها بهذا الفعلِ تسنُّ لأبنائها أسوأَ سنةٍ وأقبحها، وتربيهم على القطيعة، وعدم توقير الكبير، والاستهانة بالأقارب الأدنون؟! وهم مازالوا نبتةً نامية، وكالغُصن الرطْب يوجَّه ويُمال، وبدلاً من أن تغرس فيهم مبادئ الخير، وفَهم دين الله وشرائعه، ما ترجو لهم بركته، وتَحمَد لهم عاقبته، غرست فيهم القطيعة الملعونَ فاعلُها، وقد قيل: التعليم في الصِّغَر كالنَّقْش على الحجر.
 
وقال الشاعر:
ويَنشَأ ناشئُ الفِتيان فينا
على ما كــان عوَّده أبوه


ولا يشفع لها ما تَتَعَلَّل به، فحتى لو كانتْ تُبْغِضُ أهلك، فأين مَسؤوليَّتها الشرعيةُ عن تربية الأبناء تربيةً صالحةً على الدين والخُلُق الحَسَن، وغَرْس الفضائل والقِيَم، فإن لَم تَتَدارَكْ ذلك سريعًا، وتَرْجِع لنفسِها، وتَتُبْ توبةً نَصوحًا - فستُكوى بتلك القطيعة ولا بدَّ، حينما يُذيقُها أبناؤها نارَ القطيعة؛ فالجزاءُ دائمًا مِن جِنْس العمَل.

ومَثَلُ زوجتِك كمَثَلِ عالِمٍ كبيرٍ يُرَبِّي طلابَه على الوقيعةِ في أهل العلم، وعدمِ توقيرهم، فلم يَسْتَفِقْ هذا العالِمُ إلا على صفَعات طُلابِه له، ولم يَستَطِعْ إلا لومَ نفسِه؛ فهو مَن ربَّاهم على تلك الطريقة المُنكَرَة!

فقلْ لزوجتك هداها الله: إنها وإن كانتْ تفعلُ ذلك غيظًا وحنَقًا على مَن آذَوْها، فإنَّ أبناءَها هم مَن يدفعون الثمن، وحتى إن لَم تخفْ مِن عقاب الله تعالى ومَكْرِه، فلا أقلَّ مِن أن تُغَلِّبَ مصلحة أبنائها في التربية الحسنة، وهل يظنُّ عاقلٌ أنَّ للوالدينِ أن يدفعَا أبناءهما إلى السَّبِّ أو البصق أو غير ذلك على مَن يُسيء لهما أو لهم! فيشبَّ الولدُ على عدم استقباح أكبر الكبائر؟!

فالأهلُ هم الأحِقَّاءُ بالبِشْر، وحُسن الخُلُق، والإحسان وجَلْب النفع ودَفْع الضرِّ، ولا شك أنَّ الولدَ إن نَشَأَ على القيم الرفيعة ومعالي الأمور كان مِن خير الناس، وإن رُبِّيَ على العكس مِن ذلك فهو في الجانبِ الآخر مِن الشَّرِّ، وكثيرًا ما يقع الناسُ في هذه الورطة بسبب الغضب الذي يُغطِّي العقلَ، ويُشَوِّه الفكر.

فبَيِّنْ أخي الكريم لزوجتك ما تَقَدَّمَ ذِكْرُه، مِن أنه لا يجوز أن تَمْنَعَ أمَّك ولا أخواتك مِن رؤية أولادك، وأنَّ هذه قسوةٌ شديدةٌ، وأنَّ ما وَقَعَ عليها مِن أخواتك، لا يُجيز لها فِعْلَ ذلك، وهي وإن كان لا يَلْزَمُها شرعًا صلةُ إخوتك - خصوصًا أنها تتأذَّى منهم - فإنه يَجِب عليها تمكينُ الأبناء مِن الصلة، بل وحثُّهم عليها، كما يجب تربيتُهم على معالي الأخلاق والفضائل والإحسان، ومِن أولاها صلةُ الأرحام؛ فهي مِن أعظم الواجبات، وأفضلُ القُرُبات، كما أنَّ قطيعةَ الرَّحِم مِن أعظم الكبائر المُوبِقات.

ودَعْهَا تَتَدَبَّرِ الحديث الذي رواه مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويَقْطَعُونني، وأُحْسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلمُ عنهم ويَجْهَلُون عليَّ، فقال: ((لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسفُّهم الملَّ، ولا يَزالُ معك مِن الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك)).

اطلبْ من زوجتك أن تَسْلُك سبيل العفو والتجاوز، وتَتَذَكَّر ما أعَدَّهُ الله لأهله مِن الأجر والمنزلة الرفيعة؛ قال تعالى: ﴿و سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].

واطلُبْ منها طلَبًا جازمًا ألا تَمْنَعَ والدتك مِن رؤية أبنائك، وألا تَحْرِمَ أمك مِن حَفيدِها؛ لأنَّ ذلك يُؤلمها ويُشعرها بالظلم، ويُولِّد عندها الكراهيةَ، وطاعتُها لك حقٌّ واجبٌ في المعروف.

ذَكِّرها أن الله تعالى حضَّ عباده المؤمنين على العفو والإصلاح عن المسيء، وأخْبَرَ أنه يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا؛ فقال ﴿ وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 40 - 43]، وقال سبحانه: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 96]، وقال ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].

وكما أنَّ العبد المؤمن يُحب أن يعفوَ الله عنه، فكذلك يُعامل الناس بخُلُق العفو؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فمَن أَحَبَّ أن يُزَحْزَحَ عن النار، ويَدْخُل الجنة، فلْتَأْتِه منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحب أن يُؤتى إليه)).

ثم يأتي حقُّ زوجتك في المرتبة الثانية بعد الأم، وقد ذَكَرْنا في غير هذا الموضع النصوصَ الكثيرةَ الدالة على ما لها مِن حقوقٍ، ولو لم يَردْ إلا الحديثُ الصحيحُ الذي رواه أحمدُ والترمذيُّ وصحَّحه لكفَى؛ فعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم))، وعن عائشةَ قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي))؛ رواه الترمذيُّ وصحَّحه.

ثم تأتي بقية الحقوق والصلات، كما يجب عليك مُناصَحة أخواتك، وأن تُظْهِرَ لهنَّ شفَقَتَك عليهنَّ.

أما السكنُ بعيدًا عن والدتك، فإنْ كان لا يُؤثِّر ذلك في زيارتها والسؤال عنها وصِلَتِها والقيام بشُؤونِها، فلا بأسَ به.

أسأل الله أن يُيَسِّرَ لك، وأن يُصْلِحَ أحوالكم

رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/fatawa_counsels/0/124679/#ixzz60O6ltmtZ