المطلب الرابع: مدى مشروعية الطاعة بطلب الخلوة والمسافرة قبل الزفاف
سبق أن تقرر عدم القوامة الزوجية قبل زفاف الزوجة ونقلها إلى بيت الزوجية، إلا في حدودها الأدبية الضيقة، كالمصافحة والمجالسة والمحادثة، أما فيما يخص بعض الأحكام والقضايا الشرعية من تفاصيل ليلة الزفاف، فيفضل تأخيره إلى قبيل الزفاف بأيام تقريباً، فإن ذلك وقت الحديث عنه من أحكام وآداب.
فمن نافلة القول:
عدم إيجاب الطاعة بطلب الخلوة أو المُسافرة حتى يبلغ الكتاب أجله، وامتناع الزوجة عن تلبية ذلك الطلب قبل الزفاف، هو حق مشروع ولا يُعدُّ نشوزاً، لا ديانة ولا قضاءً ولا عرفاً.
أمَّا ديانة:
فلأن القوامة عليها ما زالت لأبيها ما دامت في بيته.
وأما قضاءً:
فقد ذهبت محكمة الاستئناف الشرعية في تطبيقاتها القضائية إلى أبعد من ذلك، حيث ردت دعوى الطاعة قبل الزفاف بقرارها رقم (24399) ونصه: (إن مجرد تهيئة الزوج المسكن الشرعي لزوجته التي لم تُزف إليه بعد، وطلبه منها طاعته فيه، غير كافٍ وحده، ما لم يقم الزوج مع ذلك بما يجب عليه لإتمام الزفاف، وتهيئة أسبابه حسب العادة والعرف، بما في ذلك ذهابه بنفسه أو إرسال محرم لها للنقلة إلى مسكنه) (86).
وبذلك تكون المحكمة الشرعية قد تجاوزت ربط الطاعة بقبض المهر واستحقاق النفقة، إلى اعتبار الزفاف المعروف، حقاً مشروعاً للزوجة كما تقدم، وتتوقف عليه الطاعة وإتمام الزواج، فهذا القرار من محاسن ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف الموقرة لأنه يتماهى مع مصلحة النكاح ومقاصده الشرعية، ومشاعر المرأة الاعتبارية والنفسية، ويُطلعُها على حقوقها التي تصون لها كرامتها، ويقطع الطريق على الذرائع والتلاعب من ذوي النوايا السيئة، إذ لو كانت نية صاحب الدعوى حسنة وبريئة، لأتى البيوت من أبوابها، ولم يتسلل من نوافذها الخلفية، ولربما أرادها بسوء ليبتزها أو يبتزَّ أهلها لأسباب تافهة، وعلى جميع الأحوال، فإن تلك المرأة هي الرابحة بامتناعها، سواء تم الزواج وتسلمت كامل حقوقها، أم تم الطلاق فثبت لها نصف صداقها، وحفظت كرامتها.
وأمّا عُرفاً:
فقد جرت أعراف المسلمين العامة على عدم إلزام المعقود عليها بطاعة العاقد، وخاصة في طلب الخلوة والمسافرة بها والمبيت معها خارج بيت أهلها قبل الزفاف، لأنّ ذلك في نظر العقلاء، عيباً وخفّةً وطيشاً ورعونة، بصرف النظر عن تجاوزات بعض المتهاونين من هنا وهناك، وهذا العرف السليم في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يدار (87).
وللعُرف مستنداته الصحيحة من الكتاب والسنة والقياس مما لا يتسع المقام لبسطه هنا. وللعرف عند الفقهاء والمفتين والقضاة دوره البارز عبر مسيرة الشريعة فيما لا نص فيه ولم يخالف النصوص الصحيحة، فكل ما ورد به الشرع مطلقاً، ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف (88)، لذا فالزفاف شرطٌ ضمني من شروط الزواج في أعراف المسلمين المستحسنة والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً (89)، (وما رآة المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) (90)، وهذا الخبر هو أصلٌ للقاعدة الشرعية (العادة محكمة) (91) وما دام كذلك، فإن ذلك العرف يكون واجب التنفيذ كما لو كان مستنده الشرع، لأنه يحقق مصالح الناس، وقد أظهرت استبانة وزّعت على شرائح من طلبة كلية الشريعة في الجامعة الأردنية صحة هذا العرف.
وسنتكلم فيما يلي عن طلب الدخول السري قبل الزفاف في الفروع التالية:
الفرع الأول: حكم طلب الدخول السِّري قبل الزفاف
الحديث في هذه المسألة غاية في الأهمية ويستدعي التركيز في بيان حكمها ومحاذيرها ومخاطرها، على ضوء التفلّت الأسري الحاضر.
فبناءً على النتائج التي توصلت إليها دراسة مسألة الطاعة من حيث عدم مشروعيتها قبل الزفاف، سواء في ذلك طلب الخلوة، أو المسافرة ونحوها، فإنه من باب أولى، القول بعدم مشروعية الدخول السرّي قبل الزفاف، باعتباره في النهاية مندرجاً تحت مسألة طلب الخلوة والمسافرة، بل هو غايتهما العملية، فإن قيل: كيف وعقد الزواج يفيد حل الاستمتاع بالمعقود عليها، والدخول السري أحد أفراده؟
فالجواب:
أنّ الحِل حكم شرعي مأذون فيه، قيدته مصلحة النكاح ومآله، تحقيقاً لمقصد الشارع من إعفافٍ بالحلال وتعاونٍ على المصالح الدنيوية والأخروية (92) وطلب الذرية، وسواء كان المقصود بالحِل: الحق أم الإذن والإباحة، فالأساس الذي يستند إليه الحِل هو الشرع، لأنه مصدر الأحكام ومنشؤها، والحِل هنا ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق مصلحة النكاح وغايته.
يقول الشاطبي:
"إن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً" (93)، لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
ومثل هذه الآية، كثير ومستمر في جميع تفاصيل الشريعة (94)، وبما أن تكاليف الشريعة تهدف بالجملة إلى حفظ مقاصدها في العباد، الضرورية منها والحاجيّة والتحسينية، تحقيقاً لمبدأ العدالة، فإنها لا تقتصر على ظواهر النصوص، دون النظر إلى ما يخصص عمومها، أو يقيد مطلقها من أعراف ومقاصد، لذا فإن الاجتهاد التشريعي المعتمد على أصول الفقه، يعتبر أصلاً كذلك لاستنباط الأحكام التي تحقق العدل والمصلحة فيما لا نص فيه، لئلا تعود الشريعة على أصلها بالنقض، ومعاندة قصد الشارع عيناً باطلة (95).
وإن من أهم ما يحقق مقاصد الشارع، النظر في بواعث الأفعال ومآلاتها، لما لها من تأثير في الحكم على الأفعال صحة أو فساداً.
لذا فسأبحث مسألة الدخول السري لمحاولة الوقوف على حكمها الشرعي من خلال الباعث والمآل.
أما الباعث:
فهو الدافع الذي يحرك إرادة الإنسان إلى التصرف لتحقيق غرض غير مباشر (96)، وهو المعيار الذي يكشف عن النوايا المشروعة وغير المشروعة عند كثير من الفقهاء، حيث يقاس به شرف النوايا وطهارتها، ويحقق المبدأ الأخلاقي في جميع التصرفات، وأصل الاعتداد به، قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيَّات ولكل امرئٍ ما نوى) (97).
ولذا فإن معيار الباعث ذاتي إذا لم يعلن عنه صاحبه ويخبر به الطرف الآخر، ليحدد موقفه إزاءه سلباً أو إيجاباً، فإذا كان غير معلن فلا يكشف عنه إلا المآل الذي يصار إليه.
فالباعث على التصرف الذي ظاهره الجواز، إذا كان لتحقيق أمر غير مشروع، لم يشرع بالنظر إلى هذا الباعث، ولا يصلح الفعل الذي ظاهره الجواز معتصماً (98) والدخول السري الذي هو من مخرجات الخلوة التي حصلت خلسة، تصرّفٌ ظاهرهُ الجواز، لكن باعثه تحقيق شهوةٍ أمْرُها غير مشروع قبل الزفاف، لأنه بغير إذن الأولياء، وبغير الإشهار المقرر حقاً للمعقود عليها ولأوليائها، وإذنها وحدها لا يعتدُّ به، لأنها ليست صاحبة الشأن من الناحية الشرعية، فالقوامة عليها ما زالت لأوليائها، ولا يعتبر مُبرّراً مشروعاً، حفاظها على إرضاء العاقد وتحسباً لردود فعله مستقبلاً.
ولذا فباعث الدخول السرّي باعثٌ تعسفي وغير أخلاقي، ولم يحقق مصلحة حقيقية ظاهرة، فهو مصادم لقصد الشارع، والمقاصد أرواح الأعمال (99)، فالدافع غير المشروع يجعل الفعل المأذون فيه فعلاً تعسفياً لعلة المفسدة المادية الراجحة، التي يؤول إليها (100)؛ لأن الأسباب تأخذ حكم المقاصد غالباً، فيكون للباعث أثره في تكييف الفعل من المشروعية أو عدمها، فإذا كان الضرر راجحاً صار الفعل غير مشروع، لئلا يساعد على تفشي التصرفات الضارة بين الناس، ويؤدي في النهاية إلى فعل ما لا يجوز، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن المقرر عند علماء القواعد الفقهية: أن ما وضع لمباح لم يقصد به التوصل إلى مفسدة لكنه يفضي إليها غالباً؛ فإنه يجب سد تلك المفسدة، لأن الظن يجري مجرى العلم، فاعتباره هو الأرجح (101)، حيث إن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات (102).
وأما المآل:
فهو نتيجة الباعث وثمرته، وعلى ضوءه يحل الفعل أو يحرُم بقطع النظر عن أصل وصفه الشرعي (103).
والدخول السري كما يبدو، له مآلان متعارضان:
المآل الأول:
هو مصلحة العاقد المتوهمة المأذون له فيها بالعقد الشرعي، وهي الاستمتاع.
المآل الثاني:
هو المفسدة التي تنتج عن ذلك الاستمتاع، من خطر المجاحدة والمتاركة، التي قد تفضي إلى ضياع الحقوق والتغرير بزوج آخر، وهذه المفسدة عظيمة جداً وهي تبدو أرجح من المصلحة التي في الدخول السري، لأنها مناقضة لقصد الشارع من حيث عدم استقرار النكاح ودوامه، وقد ذهب الأصوليون إلى أن مثل هذا الفعل يصبح غير مشروع لأنه آل إلى مفسدة (104).
الفرع الثاني: معيار المفسدة التي تجعل الفعل المأذون فيه غير مشروع
لقد قسم الإمام الشاطبي (105) الفعل المأذون فيه الذي يؤدي إلى مفسدة غير مشروعة إلى ثمانية أقسام، وصاغها المرحوم الشيخ مصطفى الزرقا (106) بمواد قانونية مقترحة.
ومنها بتصرف ما يلي:
مادة (1/ب):
إذا تولَّد من استعمال الحق ضرر جسيم للغير، أو إزعاج شديد، وكانت المصالح التي يحققها لصالح الحق تافهة تجاه ذلك الضرر أو الإزعاج، فإنها تصبح غير مشروعة.
وجاء في المادة (3/أ)، ما يلي:
يعتبر قرينة على تمحض قصد المضارة بشرط علم صاحب الحق بالضرر، انعدام الغاية الشرعية من استعمال الحق.
(3/ب)
انتفاء أية ثمرة أو منفعة لصاحب الحق من ممارسة حقه يجعله غير مشروع.
(3/جـ)
إذا كان لصاحب الحق مندوحة عن الإضرار بالغير، بأن كان يستطيع استعمال حقه بطريقة لا تضر بالغير ولا تحمّله أية كلفة إضافية، أو تحمّله كلفة تافهة، فإن ذلك يجعل تصرفه غير مشروع، لأن صاحب الفعل إما أنه مقصر في النظر المأمور به وذلك ممنوع، وإما أنه قصد إلى نفس الإضرار، وهو ممنوع أيضاً، فيلزم أن يكون ممنوعاً من ذلك الفعل (107).
وأخيراً:
فإن هذه المواد المؤصلة على نصوص الشريعة تنطبق على الدخول السري وتقضي بمنعه شرعاً، لأن لصاحبه مندوحة عنه للوصول إلى طلبه بما لا يضر بالمعقود عليها ولا بأهلها.
وإذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع (لاعتناء الشارع بالمنهيات أكثر من اعتنائه بالمأمورات) (108)، وذلك استناداً إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار) (109) وفيه الإخبار الذي يفيد النهي عن الإضرار بالغير بصريح اللفظ، مما يجعل الفعل الضار غير مشروع، سواء كان قصد الضرر متوفراً أم معدوماً، اجتثاثاً لواقعة الضرر في أية صورة من صورها (110).
وجميع ذلك يصب في توازن المصالح أو انعدام التناسب (111)، الذي هو عين العدالة التي جاءت الشريعة لإقرارها في الحياة، فمصلحة الفرد يجب أن تتسق مع التنظيم التشريعي ولا تناقضه (112).
بقيت هنا مسألة أصولية متعلقة بذلك، وهي:
بناء على التأصيل الفقهي لانعدام مشروعية الفعل المأذون فيه إذا أدى إلى مفسدة، فهل ينعكس هذا الحكم على أصل المشروعية لذلك الفعل بالبطلان؟ أي: هل يجعل الوصف المنخرم غير مناسب أم لا؟ لقد رجح الدكتور الدريني (113) ما ذهب إليه الأصوليون من الشافعية، حيث ذهبوا إلى عدم انخرام مناسبة ذلك الوصف، لأن أصلَ المشروعية ثابت لا يتغير، أما المآل: فهو متغير دائماً، كما أن المفسدة لا تبطل المناسبة عند تعارض المآلات.
ويؤيد ذلك ما قرره الشاطبي بقوله:
"ولأن الأمر الكلي إذا ثبت، فتخلف بعض الجزئيات على مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً" (114) ويمكن الاستئناس لذلك، بمسألة الصلاة في الدار المغصوبة، حيث إن أصل الصلاة مأذون فيها (115)، لكن يلزم إضرار الغير، فتكون محرمّة، ولذلك تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة، ويكون صاحبها عاصياً بالطرف الآخر، وضامناً إن كان ثمَّ ضمان، ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها (116).
وبناءً على ذلك:
فإن الفعل المشروع إذا أدى إلى مفسدة وآل إليها كمفسدة جحود الدخول وجحود الولد وموت العاقد، فإنه يجعل ذلك الفعل بخصوصه غير مشروع لكنه لا يخرج العقد بالكلية عن أصل مشروعيته، أما المآل فهو متغير كما تقدم.
الفرع الثالث: مخاطر الخلوة والمُسافرة والدخول السِّري
قبل الكلام عن استنتاج المخاطر المتوقعة من الخلوة وما بعدها، يمكن التذكير بحقيقة قد تغيب أحياناً عن البال، وهي: أن مشكلات ما بين العقد والزفاف لم يكن لها وجود في ما مضى من الزمان كما هي صورتها المجتمعية في السنوات الحالية، حيث كانت المدة ما بين الخطوبة وبين العقد ثم الزفاف قصيرة جداً كما ذكرنا سابقاً، وربما كان السبب قلة التكاليف وعدم المبالغة في المهور والتجهيز والأثاث، وعدم الحاجة لانتظار اكتمال مدة الدراسة، فنتج عن هذه الظروف كثير من المشكلات ذات المخاطر المجتمعية الجسيمة...
فإطالة المدة بين العقد والزفاف قد توقع العاقدين في فترة اختبار محرجة تجعل المعقود عليها بين خيارين أهونهما صعب:
الخيار الأول:
أن تعامل العاقد على أنه زوج أو شبه زوج، وتتبسط معه وكأنها في بيت الزوجية الحقيقي شريطة عدم الوصول إلى المحظور، وهذا تصور مقبول نظرياً، لكنه لا يتحقق عند التطبيق العملي، لأن الفطرة الجسدية لا يمكن كبحها دون الوصول إلى المرحلة الأخيرة، وكل محاولة لضبط الأمر، لا تعني إلا المزيد من الإثارة وضعف المقاومة ثم الوقوع في الممنوع.
وأما الخيار الثاني:
فهو أن المعقود عليها، تعامل العاقد على أنه شخص غريب أو خطيب، فتتحرَّز منه دائماً، وهي بذلك معذورة حرصاً على مصلحتها، لكن هذا الخيار صعب كذلك من الناحية العملية، فالعاقد يعتبر العقد إذناً شرعياً، كأن المعقود عليها زوجة تعيش في بيته، فهو دائم المحاولة للاختلاء والمُسافرة ثم الدخول جراء الضغوطات الإغرائية الرهيبة، التي يتعرض لها الطرفان.
وكلا الخيارين منطقي من الناحية الافتراضية، لكنه يعتبر ضاراً بالاثنين معاً من حيث الكبت الجنسي وحرج الرقابة المجتمعية.
وبناء على ما تقدم، يتبيَّن أن لهذا السلوك عدة مخاطر تجب مراعاتها، ومنها ما يلي:
1. إن الدخول السري فيه مخالفة شرعية، لأن المعقود عليها ما زالت تحت قوامة والديها، فهي تعتبر خلية عرفاً وربما قانوناً كذلك، وكأنهما خاطبان، وأن حلّ الاستمتاع إذنٌ قيدته المقاصد الشرعية والأعراف الصحيحة، بألا يكون وطء قبل الزفاف، وما ثبت بالعُرف الصحيح ثبت بدليل شرعي.
2. إنه اعتداء على حق الزفاف الذي هو حق للفتاة وأهلها، باعتبار أن الزفاف إشهار من شأنه أن يحمي سمعتهم أمام الناس، (وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله أحسن) (117).
3. إنه امتهان لكرامة كلا العاقدين معاً، حيث يفقدهم الثقة بسلامة تصرفاتهم، لأنهم يحسون بالتأثُّم في داخلهم، ويشعرون بعقدة الذنب، والإثم ما حاك في الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس.
4. إنه يصبح سبباً في ضعف ميل كل منهم تجاه الآخر، ويولد في نفوسهم نوعاً من الفتور والمخاشنة التي تؤدي غالباً إلى الفرقة، لأن الشاب وصل بسهولة إلى ما يعسر الوصول إليه بلا معاناة فيسهل عليه تركه.
5. إنه يشعر الفتاة بعقدة الذنب وهي تتسلل من وراء والديها الحنونين خِلْسَةً، حيث تعرضهم إلى الفضيحة عند افتضاح الأمر بين الناس.
6. إنه يجعل فترة الزفاف بعد ذلك فاقدة لقيمتها وبهجتها، ويصير الطرفان ينظران إلى ابتهاج الأهل والمجتمع نظرة المُتفرج وليس المُتفاعل، فكأنهم في مشهد تمثيلي! مما ينعكس أثره على علاقتهما تلك الليلة وما بعدها.
7. إنه يعرض الفتاة لفقد عذريتها وفي حالة عدم إتمام الزواج قد ينكر الرجل ما حصل ثم تتزوج من زوج آخر فيكتشف أمرها فيردها بفضيحة بعد دخولها بزفة، وعلى افتراض عدم اكتشافها، تكون قد غررت به على أنها بكر وليست ثيباً، وتظل عقدة الذنب تلاحقها طيلة حياتها كذلك.
8. إنه يُعرّض الفتاة إلى حملٍ مبكر قبل انتقالها إلى بيت الزوجية، وفيه فضائح لا تخفى على أحد.
9. إنه يعرض المولود إلى ضياع النسب عند عدم الاعتراف به، فيظل منبوذاً في نظر المجتمع طيلة حياته، لأنه لم يولد تحت ضوء الشمس وبهجة الجميع، بل جاء إلى الحياة من الأبواب الخلفية، فهو دائماً يتوارى من الظهور عن القريب والبعيد، وفي ذلك ضرر عظيم.
10. إنه عامل هدم كبير في إيقاع الطلاق قبل الزفاف، حيث تشير إحصائيات المحاكم الشرعية في الأردن أن نسبة (70%) من حالات الفرقة بين العاقدين تحصل قبل ليلة الزفاف (118)، وأغلب تلك الحالات ناتج عن استعجال الدخول أو محاولة ذلك حسب ما رأيناه في مسائل التحكيم القضائي في المحاكم الشرعية، والخطر الأهم من كل ما ذكر، هو أن الدخول السري، دخول مبعثه داعية الهوى، والشريعة جاءت لإخراج المكلف من داعية الهوى والنفس، إلى داعية الشرع وتحقيق العدل ودفع الضرر وبطلان العمل المبني على الهوى.
لأن مُتبع الهوى:
يتخذ الأحكام ذريعة لاقتناص أغراضه (119)، وهذا ما يميز المسلم العاقل بسلوكه الرباني عن سلوك غيره من الناس وبقية المخلوقات غير العاقلة.
الفرع الرابع: جزاء الدُّخول السِّرِّي (الفعل الضار) (120)
بما أن الدخول السري يعتبر فعلاً ضاراً فينبغي ألا يخلو عن جزاءٍ يناسبه، وبما أنّ أصل الفعل مأذون فيه، فإن الجزاء المناسب يتمثل بالجزاء التعزيري والجزاء الأخروي.
أما التعزيري:
فهذا موكول إلى ولي الأمر، لأن مثل هذا الضرر ليس فيه حدّ مقرر في الشرع، فإذا ظهر مثل هذا الضرر ووصل الأمر إلى القاضي فللقاضي تقدير ذلك الضرر وتقدير الجزاء المناسب، فقد يكون الجزاء توبيخاً، وقد يكون مالياً.
وأما الجزاء الأخروي:
فلا يخلو هذا الضرر عن الإثم الذي يلحق الفاعل، لأن الفعل الضار حرام ويقابله الحلال، ونظام العقوبة الأخروية أهم من العقوبة الدنيوية.