أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة آل عمران الآيات من 186-190 السبت 27 أبريل 2019, 12:52 am | |
| لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ منَ الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ منْ قَبْلكُمْ وَمنَ الَّذينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثيرًا وَإنْ تَصْبرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَٰلكَ منْ عَزْم الْأُمُور [١٨٦] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
والبلاء في المال بماذا؟
بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح, أو بالمرض.
فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.
{وَلَتَسْمَعُنَّ منَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ من قَبْلكُمْ وَمنَ ٱلَّذينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثيراً} [آل عمران: 186] هما إذن معسكران للكفر: معسكر أهل الكتاب، ومعسكر المشركين.
هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا.
ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا.
إن الإبتلاء مجرد اختبار، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: "لتبلون"، أي سأختبركم -ولله المثل الأعلى- كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك "فنبتليك" يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟.
إنه شرّ على من لم يتقن التصرف.
فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال عليّ فتنة.
فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة "الفجر": {فَأَمَّا ٱلإنسَانُ إذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّيۤ أَكْرَمَن * وَأَمَّآ إذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْه رزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّيۤ أَهَانَن} [الفجر: 15-16].
فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق: {قَالَ إنَّمَآ أُوتيتُهُ عَلَىٰ علْمٍ عنديۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْله منَ ٱلْقُرُون مَنْ هُوَ أَشَدُّ منْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص: 78].
إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن أنه إهانه، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: "كلا" أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟
يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة، فقد أكون غنياً لا أعطي الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين: "كلا"، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة.
وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرمُونَ ٱلْيَتيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَام ٱلْمسْكين * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17-19].
"كلا بل لا تكرمون اليتيم" وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟
إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟.
إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهاناً، فلا تتحمل مسئولية المال.
إذن فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة.
{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرمُونَ ٱلْيَتيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَام ٱلْمسْكين} [الفجر: 17-18] وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟
أنت ضنين حتى بالكلمة، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك.
فإذا كنت تضن حتى بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟.
{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرمُونَ ٱلْيَتيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَام ٱلْمسْكين * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17- 19] أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم دون أن يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام.
فإذا كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟.
لا هذا ولا ذاك.
{لَتُبْلَوُنَّ فيۤ أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ منَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ من قَبْلكُمْ وَمنَ ٱلَّذينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثيراً} [آل عمران: 186] والذي يقول هذا الكلام: هو الله، إذن لابد أن يتحقق -فيارب أنت قلت لنا: إن هذا سيحصل وقولك سيتحقق، فماذا أعطيتنا لنواجه ذلك؟- اسمعوا العلاج: {وَإن تَصْبرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإنَّ ذٰلكَ منْ عَزْم ٱلأُمُور} [آل عمران: 186].
تصبر على الابتلاء في المال، تصبر على الابتلاء في النفس، وتصبر على أذى المعسكر المخالف من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور، والعزم هو: القوة المجتمعة على الفعل.
فأنت تنوي أن تفعل، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع القوة، فقوله: {فَإنَّ ذٰلكَ منْ عَزْم ٱلأُمُور} [آل عمران: 186] أي من معزوماتها التي تقتضي الثبات منك، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل.
إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب، وذلك كله يحتاج إلى صبر، و"الصبر" -كما قلنا- نوعان: "صبر على" و"صبر عن"، ويختلف الصبر باختلاف حرف الجر، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه، فيصبر عنها, والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على المتاعب، وفي المعصية يصبر عن المغريات.
و{لَتُبْلَوُنَّ فيۤ أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ} [آل عمران: 186] توضح أنه لا يوجد لك غريم واضح في الأمر، فالآفة تأتي للمال, أو الآفة تأتي للجسد فيمرض، فليس هنا غريم لك قد تحدد، ولكن قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ منَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ من قَبْلكُمْ وَمنَ ٱلَّذينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثيراً} [آل عمران: 186] فهذا تحديد لغريم لك.
فساعة ترى هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام.
فأوضح الحق: إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك تنفعل، وأَجّلْ عملية الغضب، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخفّك.
بل كن هادئاً، وإياك أن تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر، ولذلك قال: {وَإن تَصْبرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإنَّ ذٰلكَ منْ عَزْم ٱلأُمُور} [آل عمران: 186].
واتقوا مثل "اتقوا الله" أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين ما يغضب الله وقاية.
عن أسامة بن زيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يُسلم ابن أُبَيّ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا سعد ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب"؟
يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعفُ عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرقَ بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت.
فعفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإذْ أَخَذَ ٱللَّهُ ميثَاقَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ للنَّاس وَلاَ تَكْتُمُونَهُ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 186-190 السبت 27 أبريل 2019, 12:53 am | |
| وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ ميثَاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ للنَّاس وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورهمْ وَاشْتَرَوْا به ثَمَنًا قَليلًا فَبئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [١٨٧] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ونعرف -من قبل- أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: {وَإذْ أَخَذَ ٱللَّهُ ميثَاقَ ٱلنَّبيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كتَابٍ وَحكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمنُنَّ به وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلكُمْ إصْري قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ٱلشَّاهدينَ} [آل عمران: 81].
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق أخذه الله على أهل الكتاب الذين آمنوا بأنبيائهم، هذا العهد هو: {وَإذْ أَخَذَ ٱللَّهُ ميثَاقَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ للنَّاس وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
فما الذي يبينونه؟
وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟
نعم لأنهم ينسون بعضاً من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه: {فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكرُواْ به} [المائدة: 14].
والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟: {إنَّ ٱلَّذينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا منَ ٱلْبَيّنَات وَٱلْهُدَىٰ من بَعْد مَا بَيَّنَّاهُ للنَّاس في ٱلْكتَاب أُولَـٰئكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعنُونَ} [البقرة: 159].
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه.
والذي لم ينسوه كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه.
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا.
بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله: {فَوَيْلٌ لّلَّذينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكتَابَ بأَيْديهمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا منْ عنْد ٱللَّه ليَشْتَرُواْ به ثَمَناً قَليلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْديهمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا يَكْسبُونَ} [البقرة: 79].
وقولهم: "هذا من عند الله" ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله، وكلمة "ليشتروا به ثمناً قليلاً" لابد أن توسع مدلولها قليلاً، ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟
أنت إذا جعلت الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشترى بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه.
{وَكَانُواْ من قَبْلُ يَسْتَفْتحُونَ عَلَى ٱلَّذينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ به} [البقرة: 89].
إذن فقوله: "لتبيننه" يعني لتبينن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله.
وهكذا نجد أن المعاني تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان.
{لَتُبَيّنُنَّهُ للنَّاس وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورهمْ} [آل عمران: 187] يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟
هو بلا شعور يلقيها بعيداً.
والنبذ له جهات، ينبذه يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهذا دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورهمْ} [آل عمران: 187].
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماماً، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك، يعني لا تجعل أمراً أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورهمْ} [آل عمران: 187] أي أنهم جماعة و"ظهور" جمع "ظهر" كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره.
وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون.
والمشترى هنا هو الثمن، والثمن يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى {وَٱشْتَرَوْاْ به ثَمَناً} [آل عمران: 187].
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: {فَبئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]
لماذا؟
لأنك قد تظن أن بالمال -وهو الثمن- تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال {فَبئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وبعد ذلك يقول الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذينَ يَفْرَحُونَ بمَآ أَتَوْاْ وَّيُحبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بمَا لَمْ يَفْعَلُواْ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 186-190 السبت 27 أبريل 2019, 12:54 am | |
| لَا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ يَفْرَحُونَ بمَا أَتَوْا وَيُحبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفَازَةٍ منَ الْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ [١٨٨] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين من بعد ذلك.
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول -وهو فرح المنافقين- ممنوع، والفرح الثاني مشروع.
ولذلك يقول الحق: {قُلْ بفَضْل ٱللَّه وَبرَحْمَته فَبذَلكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله.
إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحبُّ ٱلْفَرحينَ} [القصص: 76].
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به.
إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة.
ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ, وهذا ما يفرح به الكافر, ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد أن تقوم الساعة.
ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائماً على فعله فهو في غم وحزن.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم.
هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق.
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذينَ يَفْرَحُونَ بمَآ أَتَوْاْ} [آل عمران: 188] يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن الآية السابقة تقول: {وَإذْ أَخَذَ ٱللَّهُ ميثَاقَ ٱلَّذينَ أُوتُواْ ٱلْكتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ للنَّاس وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورهمْ} [آل عمران: 187] ماذا فعل هؤلاء إذن؟
لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال.
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلاً على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم يأتي بعد ذلك الأشد؛ فيجب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟
بما لم يفعل, لأنه خلع على أمره غير الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة.
{وَّيُحبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟
أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟
إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء، إنّ الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانياً، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك.
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يُغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يُمدح، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك.
لكن لابد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة "ذي القرنين" يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذي ٱلْقَرْنَيْن قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذكْراً * إنَّا مَكَّنَّا لَهُ في ٱلأَرْض وَآتَيْنَاهُ من كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83-84].
كي تعلم أن الممَكَّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية.
ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله "وآتيناه من كل شيء سبباً" وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فأنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزَّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعى الأرض بالحرث والري.
فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله -جلت قدرته-.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله, مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به.
ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى أنت مثلاً جالس على الكرسي.
وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟
تقول: لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله.
وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق: {إنَّا مَكَّنَّا لَهُ في ٱلأَرْض وَآتَيْنَاهُ من كُلّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 84-85] فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.
ويتابع الحق: {حَتَّىٰ إذَا بَلَغَ مَغْربَ ٱلشَّمْس وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمئَةٍ} [الكهف: 86] هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبداً، إنما "تغرب في عين حمئة" أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود.
ويتابع الحق: {وَوَجَدَ عندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْن إمَّآ أَن تُعَذّبَ وَإمَّآ أَن تَتَّخذَ فيهمْ حُسْناً} [الكهف: 86].
والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: "إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً" فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: "أما من ظلم فسوف نعذبه" وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشري فيها الشرّ.
وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر.
{أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلَىٰ رَبّه فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: "فيعذبه عذاباً نكراً"، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟
ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟
إنه موقف مختلف.
يقول الحق: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَملَ صَالحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ منْ أَمْرنَا يُسْراً} [الكهف: 88] هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟
ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم.
ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى على اللعب بكرة القدم
لماذا؟
لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع هدفاً.
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيراً أو أسدى معروفاً حَفزاً للهمم وتشجيعاً لبذل الطاقات وفي الأثر: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغري الناس بأن يعملوا لابد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان.
وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة.
وهكذا تجد أن قوله الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذينَ يَفْرَحُونَ بمَآ أَتَوْاْ} [آل عمران: 188].
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين, وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله.
وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فالإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب، لكن بعد ما تهدأ شرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح.
هذه أول مرحلة.
ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب، ويحشره الله ضمن من قال فيهم: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَاب} [آل عمران: 188].
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً له، ويطلقون كلمة "مفازة" على الصحراء إطلاقاً تفاؤلياً، لا يسمونها "مهلكة" لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها "مفازة" تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت "مفازة" تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي لدغه الثعبان بـ "السليم”.
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسماً ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً.
قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال "خذ المملوء" ولا يقول: "خذ الفارغ" وهذا لون من التفاؤل.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ} [آل عمران: 188] هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده.
ولكن الحق بعد هذه الآية قال: {وَللَّه مُلْكُ ٱلسَّمَاوَات...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 186-190 السبت 27 أبريل 2019, 12:55 am | |
| وَللَّه مُلْكُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ [١٨٩] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ} [آل عمران: 188] فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمَنْ لا تستغني عنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن فـ {وَللَّه مُلْكُ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْض} [آل عمران: 189] تدل على أن الله حين يوعد فهو -سبحانه- قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبداً.
وهذه تؤكد المعنى.
فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟
ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَآ أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَب * في جيدهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟
ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟
ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟
ألم يكن صفوان منهم؟
كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً -صلى الله عليه وسلم- أنه بعد أن يقول: {تَبَّتْ يَدَآ أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَب * في جيدهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5] مَنْ كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله مَنْ كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَنْ كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص.
إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً، فيُسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافراً.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا "أحد صمد"، ولا أحد يعارضني في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2].
فما دام: {هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبداً.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ} [آل عمران: 188]، {وَللَّه مُلْكُ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْض..} [آل عمران: 189] يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: {وَللَّه مُلْكُ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْض..} [آل عمران: 189] وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظل، والأرض تُقل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟
{وَللَّه مُلْكُ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْض..} [آل عمران: 189] وقد يكون هناك المَلك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
{وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ} [آل عمران: 189].
ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة: {إنَّ في خَلْق ٱلسَّمَٰوَٰت وَٱلأَرْض...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 186-190 السبت 27 أبريل 2019, 12:57 am | |
| إنَّ في خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لَآيَاتٍ لأُولي الْأَلْبَاب [١٩٠] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية، لأن الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون، وفيه سماء بهذا الشكل: بلا عمد، وتحتها الكواكب، وأرض مستقرة، بالله ألا يفكر فيمَنْ صنع هذا؟
والله لو أن واحداً استيقظ من نومه ووجد سرادقاً قد نصب في الميدان ليلاً لوقف ليسأل: ما الحكاية؟
فما بالنا بواحد فتح عينيه فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟
ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحاً يجلي لنا قضية الإيمان بالفكر الإنساني، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج المراد لمَنْ خلق، بل يحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى مَنْ خلق، لأننا قلنا من قبل: لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناساً ولأنه مجهد غلبه النوم، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبل أن يمد يده لينتفع بها، ألا يجول فكره فيمَنْ صنع هذه؟
إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمَنْ جاء بها قبلما يذوق الطعام، رغم أنه جوعان، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا هذا الكون العجيب، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه، ولو كان أحد قد ادعى أنه خلقه، لكانت المسألة تسهل، لكن أحداً لم يدع صنعه.
هذا الكون الذي نراه جميعاً بانتظامه الرائع، وقوانينه الثابتة.
هل قال أحد: إنني صنعته؟
لا إذن فالذي قال: إنني صنعته تَسْلم له الدعوة، حتى يأتي واحداً آخر يقول: أنا الذي صنعته.
لم يحدث هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله، ولذلك جاء قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ} [النمل: 60].
كأن الحق يقول: إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟
ولم يجرؤ أحد على أن ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم.
ومثال ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها، كي يصنعوه ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه -سبحانه- كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة، وقبل أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان أراد أن يترف الحياة، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى وفي المادة، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية واللمعان، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل.
واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى معامل وعلماء، كل هذه من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه، انظر ما يحتاجه لصنعه؟
احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون معادلات كيماوية، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟
إن كل صناعة تحتاج على قدرها، ولم يقل أحد: إنني صنعتها، فيقول الحق: مَنْ الذي صنع كل هذا؟
وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه، وهو القادر أن يقول: أنا الذي خلق السماء والأرض؟
فماذا يفعل المسئول؟
إنه يتخبط في إجابته ثم في النهاية لا يجد إلا الله.
وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما يريد: {أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلسَّمَآء مَآءً فَأَنبَتْنَا به} [النمل: 60] وجاء بهذه الحاجة المباشرة..
{فَأَنبَتْنَا به حَدَآئقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة، ونضارة، وطراوة، وظل، وأزهار، وثمار، ولم يختصر الأمر فيقول: "لتأكلوا منها" لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل مَنْ يرى، ويستمتع بما يراه.
وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره، صحيح أنك لا تمد يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك.
وأن تمتع أنفك برائحته الجميلة؟
لا.
وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمَنْ يملك ولمَنْ لا يملك فقال: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك: إياك أن تفهم أن الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا ننتفع بها أكلاً، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو، وبه خشب نحتاج إليه، وبجانب هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها.
ولذلك يقول الحق: {وَهُوَ ٱلَّذيۤ أَنزَلَ منَ ٱلسَّمَآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا منْهُ خَضراً نُّخْرجُ منْهُ حَبّاً مُّتَرَاكباً وَمنَ ٱلنَّخْل من طَلْعهَا قنْوَانٌ دَانيَةٌ وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبهاً وَغَيْرَ مُتَشَابهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إلىٰ ثَمَره إذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعه إنَّ في ذٰلكُمْ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} [الأنعام: 99 ].
وسبحانه يستفهم من الإنسان: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبتُواْ شَجَرَهَا أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّه بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدلُونَ} [النمل: 60].
بسطحية راح أحد المستشرقين يردد: أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟
ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه.
ويقول: {أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْن حَاجزاً أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61].
إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي، ويوضح الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم: {قُلْ أَإنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بٱلَّذي خَلَقَ ٱلأَرْضَ في يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلكَ رَبُّ ٱلْعَالَمينَ * وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسيَ من فَوْقهَا وَبَارَكَ فيهَا وَقَدَّرَ فيهَآ أَقْوَاتَهَا فيۤ أَرْبَعَة أَيَّامٍ سَوَآءً لّلسَّآئلينَ} [فصلت: 9-10].
فلماذا باركت يا الله؟
بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها، فالقوت هو ما يُنتفع به في استبقاء الحياة.
ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع، والزرع ينمو دائماً في الأرض الخصبة، وخصوبة الأرض تكون في الوديان، والوادي هو المكان الذي يكون بين جبلين.
ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟
لأن المطر حين ينزل من السماء، إنما ينزل على الجبال، والجبال كما نعرف معرضة لعوامل التعرية، فالحرارة تأتي بعد البرودة، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة تقبض المادة، وما بين القبض والبسط يحدث للجبال التشقق السطحي.
وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات، فتنزل من قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة، ونسميها نحن الغرْين أو الطمي، كالذي كان يأتي لنا من الحبشة، والذي أحدث خصوبة وادي النيل.
إذن فالجبال هي مخازن الأقوات.
ومن فضل الله جعل الجبال صلبة، فلو أنها كانت هشة من أول الأمر، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها، ولجعل الأرض سطحاً واحداً، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة.
وبعد ذلك يأتي الجدب.
ونعلم أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت، فكيف يكثر الحق سبحانه من القوت؟
نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي، ونعرف أن ضيق الوادي يكون في أدناه، واتساع الوادي في أعلاه، والجبل عكس الوادي.
فضيق الجبل يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعاً من قاعدته.
وعندما ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي، فيرفع من مستوى سطح الوادي، وتتسع مساحة الوادي.
وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين.
وعندما يشاء الحق سبحانه إيذان النهاية، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة: "قومي الآن”.
وهو يقول: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْن حَاجزاً أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61].
وفي موقع آخر يقول الحق: {مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْن يَلْتَقيَان * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغيَان} [الرحمن: 19-20].
الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض فيجد الماء عذباً، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح.
لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟
إذن لابد أن للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغى أحد على الآخر.
لماذا؟
لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى.
ونجد دائماً منابع الأنهار عالية وتصب في البحر.
والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب، حتى لا يطغى الماء المالح على الماء العذب، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ بالماء، ويريد للزرع أن ينمو، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء في بطن الأرض أو في البحار، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً ليصير سحاباً، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً.
والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً، هو.
هو، لا يزيد ولا ينقص.
فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته، فهل ظلت تلك الأطنان في جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟
إن الإنسان لا يختزن إلا الموجود فيه الآن من الماء.
والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من الماء، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض.
إذن فكمية المياه واحدة، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله.
وبعد ذلك يقول الحق: {أَمَّن يُجيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْض أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّه قَليلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته ولذلك يقول الحق: {وَإذَا مَسَّ ٱلإنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لجَنبه أَوْ قَاعداً أَوْ قَآئماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلكَ زُيّنَ للْمُسْرفينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].
وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم: {وَإذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ في ٱلْبَحْر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى ٱلْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء: 67].
ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم، فهو لا يكذب على نفسه، حتى الكافر بالله عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك إلهاً واحداً خالقاً.
فيقول: يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: {أَمَّن يُجيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْض أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّه قَليلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْديكُمْ في ظُلُمَات ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْر وَمَن يُرْسلُ ٱلرّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَته أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّه تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْركُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَآء وٱلأَرْض أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّه قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادقينَ} [النمل: 62-64].
كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى: {إنَّ في خَلْق ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْض وَٱخْتلاَف ٱلَّيل وَٱلنَّهَار لآيَاتٍ لأُوْلي ٱلأَلْبَاب} [آل عمران: 190].
إنها ظواهر كونية.
واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء آخر.
إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان: فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما أي كل منهما خليفة للآخر.
والزمن يمثل ذلك.
واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير، والليل مظلم، والنهار محل حركة، والليل محل سكون.
فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات، ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها هو وغيره من الناس وهكذا.
إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، ولبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم، وإمداداً حين أمدّ من عُدم، وإمداداً آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده، وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه، لكنها لا تكون مصحوبة بالبركة.
ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس إلا الخير.
فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات.
لكن الله لا يعطيكم البركة إذا أخذت النعمة وتركت المنعم.
فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة.
فحين ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول: {مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بٱللَّه} [الكهف: 39].
إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك.
ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه ولذلك يقولون: إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلقٍ أو هندام تقول حين تراها: {مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بٱللَّه} [الكهف: 39] فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛ لأنك رددتها إلى مَن خلقها، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد، والذي يحرسها هو الكلمة الواضحة: {مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بٱللَّه} [الكهف: 39].
ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى: {وَٱضْربْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْن جَعَلْنَا لأَحَدهمَا جَنَّتَيْن منْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كلْتَا ٱلْجَنَّتَيْن آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلم مّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لصَاحبه وَهُوَ يُحَاورُهُ أَنَا أَكْثَرُ منكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالمٌ لّنَفْسه قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبيدَ هَـٰذه أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائمَةً وَلَئن رُّددتُّ إلَىٰ رَبّي لأَجدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 32-36].
فماذا قال له صاحبه؟
{قَالَ لَهُ صَاحبُهُ وَهُوَ يُحَاورُهُ أَكَفَرْتَ بٱلَّذي خَلَقَكَ من تُرَابٍ ثُمَّ من نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّٰكنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبّي وَلاَ أُشْركُ برَبّي أَحَداً * وَلَوْلاۤ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بٱللَّه إن تَرَن أَنَاْ أَقَلَّ منكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسَىٰ رَبّي أَن يُؤْتيَن خَيْراً مّن جَنَّتكَ وَيُرْسلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ ٱلسَّمَآء فَتُصْبحَ صَعيداً زَلَقاً} [الكهف: 37-40].
فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم وهذا يوضح لنا معنى قول الحق: {لَئن شَكَرْتُمْ لأَزيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه بالبركة، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة عليك.
إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟
تكون إجابة الحق: {ٱلَّذينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قيَاماً وَقُعُوداً...}. |
|