أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [٢٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضاً حبط العمل في الدنيا والآخرة، وكذلك من نهج نهجهم، ومعنى "حبطت" أي لا ثمرة مرجوة من العمل، إن كل عمل يعمله العاقل لابد أن يكون لهدف يقصده، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف.
إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه، وما الذي يحققه من النفع؟
وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه؟
أو هو أقل من ذلك؟
وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله، وحينما يقول الحق: {أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ} [آل عمران: 22] فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنساناً قد يفعل عملاً هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيراً.
لماذا؟
لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازى، فالإنسان إن عمل عملاً قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطاً في الدنيا، وفي الآخرة؟
إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطاً لأنه لم يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر الأعلى.
إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى.
وبعض من الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة للبشرية.
يقوم الواحد منهم: هل يعقل أحد أن "باستير" الذي اكتشف الميكروبات، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة، وكل هؤلاء العلماء يذهبون إلى النار؟
ولهؤلاء نقول: نعم، إن الحق بعدالته أراد ذلك، ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس.
إن الذي يطلب أجراً على عمل يطلبه ممن؟
إنه يطلب الأجر ممن عمل له.
فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟
إن بالهم كان مشغولاً بالإنسانية، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد، وغير ذلك من مكاسب الدنيا، وينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال؛ قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار“.
إذن فإذا كان الجزاء من الله، فلنا أن نسأل: هل كان الله في بال هؤلاء العلماء حينما أنتجوا مخترعاتهم؟
لم يكن في بالهم الله.
والذي يطلب أجراً، فهو يطلبه ممن عمل له.
ولم يُضع الله ثمرة عملهم، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة.
لم يضع الله أجر من أحسن عملاً.
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
وقد قلت لكم قديماً: تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملاً هو في ظاهره خير، ولكن لم يكن ربه في باله، هذا ينطبق عليه قول الحق: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ} [النور: 39].
إنه يفاجأ بوجود الله، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك.
{أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 22] إن أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملاً يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم جميعاً.
وانتصر دين الله رغم قلة العدد وقلة العُدّة.
وليس لهؤلاء ناصرون.
أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم، إنهم لن يجدوا ناصراً إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره.
وبعد ذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ...}.