إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [٦٨]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49] أي رسولاً مسلماً في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا.
وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين“.
وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهودياً أو نصرانياً.
إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء.
وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسوا أن المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماماً على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتماماً بالشكل والمضمون معاً.
والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلي خمسة فروض، فيُصلِّي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي، لكن هناك إنساناً آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضموناً وشكلاً، إنه يتم الأوامر الإلهية إتماماً يرضى عنه الله.
ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه.
ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟
أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟
إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضاً، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد أن يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضاً، فلم يكن معروفاً في ذلك الزمان "السقالات" وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع.
ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام بـ "مقام إبراهيم" فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماماً للناس في دينهم لأنك أديت "افعل ولا تفعل" بتمام وإتقان.
ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالباً استمرار الأمانة في ذريته: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
أي أن المسألة ليست وراثة، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة.
إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي: "سلمان منا آل البيت“.
إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي: "أنت من العرب" لا.
بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصاً وروحاً، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحاً بأن ينجيه وأهله من الطوفان ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفاً على الغرق، فيتساءل "ألم يعدني الله أن ينجي أهلي؟" فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
فيقول الحق رداً على طلب نوح نجاة ابنه: {قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام "إنه ليس من أهلك"؟
لماذا؟
"إنه عمل غير صالح”.
إن الحق لم يقل "إنه عامل غير صالح" -الذاتية ممنوعة- لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسباً، ولا انتماء لبلد ما، أو انتماء لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفاً يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر.
لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126].
فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟
لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر.
وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا.
أما رزق المنهج فأمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تحريف.
وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة.
ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضاً، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام، والله ولي المؤمنين جميعاً من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيماناً صحيحاً كاملاً، ومن آمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ...}.