إمتاع النظر بأحكام الجمع في المطر
الشيــخ: فهـــد بن يحــيى العـمــاري
غفر الله له ولــوالديــه وللمسلميـــن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.
وبعد:
فهذه بعض المسائل المهمة في أحكام الجمع بسبب المطر، سألني بعض الإخوة عن المشكل منها، وقد صار نقاش حول بعض هذه المسائل، والعلم يحيا بالمذاكرة والفكرة والدرس والمناقشة، فكم من كتاب بل مجلدات ومشروعات كانت وليدة فكرة ومناقشة ومطارحة، جعلنا الله وإياكم مفاتيح للخير.
فكتبتها لنفسي وإخواني إجابة على أسئلتهم، ومن ثم طلب بعض الإخوة نشرها، فاستعنت بالله في جمعها وكتابتها على عجل، واخترت أهمها، دون إطالة، وخشية السآمة والملل، مع إشارة للخلاف يسيرة، وفاءً بالوعد، ورغبة في عدم التأخير، وضيقًا للوقت، وفي عدد منها يحتاج إلى زيادة في التحرير والتأمل، وهي أربعون مسألة، وأسميتها: إمتاع النظر بأحكام الجمع في المطر.
سائلاً الله التوفيق والسداد والهدى والرشاد لأنفسنا وأمتنا، وأن يحيينا جميعًا على العلم النافع والعمل الصالح، وأن يمتعنا متاعًا حسناَ، وأن يتقبل وينفع بهذه الرسالة العباد والبلاد، والحاضر والباد، وأن يعفو ويصفح عما كان من خطأ وزلل في الدنيا ويوم التناد، إنه سميع قريب مجيب للعباد.
إن رُمْتَ أنْ تَعرِفَ أحكــامَ المــطرْ *** وتبلُغَ المُنى وتَقضي للوطر
وتَرتوي من خيرِ علمٍ مُستطَر(1) *** فاقرأ كتابي ذاك إمتاع النظر
فيا طلاب العلم، يا نجوم الهدى وبحور الندى:
لتُحيا المجالس والاجتمعات والأندية الواتسية بمطارحة العلم ومسائله ونوازله ففي ذلك خير كثير ونفع عظيم، تصحيحاً للعبادات وحماية للمجتمعات وتحريراً للتساؤلات، بروح التكامل والتواضع والإفادة لا النقد المذموم والانتصار للرأي، والحذر من الانشغال بالخلافات والنزاعات التي تفسد الفكر والقلب والروح وتنقص الإيمان وتشتت الذهن والنفوس وتولد الحيرة واليأس والقيل والقال والتجريح والعصبيات، وتشغلنا عن نشر العلم وتصحيح عقيدة الناس وعبادتهم، وإنقاذ الناس من الجهل والانحراف العقدي والأخلاقي، والتصدي للعابثين بالشريعة وأحكام الدين فهذه مهمة أتباع الأنبياء والمرسلين.
أولاً:
إن من نعم الله على عباده نعمة المطر، يقول الله تعالى: {فَقُلتُ استغفِرواربَكم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}، ويقول سبحانه: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.
فالواجب شكر الله وحمده، والدعاء، وعدم مقابلة ذلك بالفسق والعصيان واللهو المُحرم، فإن النعم تزول بالمعاصي، وتسلب بركة الخيرات وثمرتها بسببها، وتعود على البلاد والعباد بالشرور والفساد.
غيثٌ من الرحمنِ عَمّ بلادنا *** سُقيا منَ المنّان تَروي أرضَنا
فانظرْ إلى آثـارِ رحمةِ ربّنا *** واشــكره أَكــثِرْ للإله مـن الثّنا
*******
قال الإله "استغفروا ربكمُ" *** لمنْ أرادَ الغيثَ مِدرارًا يَصُبْ
فاستغــفروه دائمًا وسرمدًا *** ولتفــعــلــوا كــل الــذي يُــحِبْ
*******
ثانياً: الرِّفق الرِّفق والحكمة الحكمة:
ينبغي للإمام مراعاة الخلاف في مثل هذه المسألة التي هي من الرُّخص خاصة إذا كان المذهب الفقهي وفتوى علماء البلد مستقرة على قول معين، فإن الخلاف شر، وترك الرخصة والسُّنَّة مقدم على فعل رخصة أو سنة تحدث فتنة وخلافاً وفرقة، وينبغي للإمام أن يكون ذا حكمة ورأي سديد ورشيد، فالاعتصام والائتلاف أصل عظيم لا يترك لأجل سنة ورخصة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ويعلّم الناس السُّنَّة وأدلتها، وأدب الخلاف مع العلماء، وإعذار الناس والعلماء بعضهم لبعض، وعدم الإنكار على المقلدين في الخلاف السائغ والمعتبر، والذي له أدلته القوية والمتكافئة وما بين راجح ومرجوح، وليس بين راجح وضعيف أو شاذ أو تنقل بين الأقوال بالتشهي والهوى.
ولا ينبغي أن يكون الخلاف سبباً في الفرقة والتعصب والتناحر بين المسلمين وبين طلبة العلم بل ربما يصل إلى التحريم، والأئمة الأربعة لم يفتوا الناس ويعلموهم لكي يتعصب الناس لمذاهبهم وأقوالهم، وكلهم علماء مجتهدون، معرّضون للخطأ والصواب، وأقوالهم مشتهرة في هذا، وللأسف أن بعض الناس يتعلم من العلماء العلم ولكن لم يتعلم منهم أدب الخلاف والتواضع والرفق والحكمة واللين، ويكون لساناً حاداً وسيفاً مصلتاً على إخوانه حتى في مسائل السنن والمستحبات، وكل هذا بسبب الجهل بمعرفة الخلاف وأدلته وقوته وضعفه، وما هو معتبر وما ليس معتبراً، ويدعي أنه يملك الحق والحقيقة المطلقة والله المستعان، وليتنا نطبق ذلك المنهج العظيم الذي التزمه الصحابة والعلماء في حياتهم العلمية...
ومن ذلك:
قال أبو حنيفة:
لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، ويقول: حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً. ويقول: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.
وقال مالك:
إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسُّنَّة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه.
ويقول:
ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويُؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي:
ما من أحد إلا وتذهب عليه سُنَّةٌ من سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصَّلت من أصل فيه عند الرسول صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي.
ويقول:
إذا صح الحديث فهو مذهبي.
ويقول:
انظروا في قولي، فإذا رأيتموه يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به، وإذا رأيتموه يخالفه فاضربوا به عرض الحائط.
وقال أحمد بن حنبل:
كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنه في حياتي وبعد موتي.
يا طلاب العلم:
رفقاً رفقاً بأنفسكم وإخوانكم، انشروا الرحمة والتراحم بينكم، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، كونوا على ما كان عليه الكبار من الصحابة والتابعين والأئمة رحمهم ورحمكم الله.
ماذا جنى المسلمون اليوم في جانب العلم والعمل والأخلاق وغيرهامنذ عشرات السنين بسبب التناحر والفرقة والخلاف والتعصب والشقاق!؟
اللهم رُحماك، رُحماك بأمَّة الإسلام، اللهم اجمع القلوب على الخير والمحبة والوئام وادفع عنهم النزاعات والكراهة والأحقاد، وشر الأشرار والحساد الذين يسعون للتحريش والإفساد والظلم والبغي والعدوان.
*******
ثالثاً: أهم المسائل في أحكام الجمع بسبب المطر:
1 - حكم الجمع في المطر.
محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول:
أن الجمع أولى وهو مذهب بعض المالكية وجعله بعضهم المعتمد كما في حاشية العدوي وصرح بعضهم بالسنية كما في المدونة.
القول الثاني:
يجوز، وهو مذهب عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وعروة وأبان بن عثمان رضي الله عنهم (2) وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب وعامة فقهاء المدينة وهو مذهب المالكية.
القول الثالث:
يجوز، ولكن الأفضل تركه، وهو قول بعض المالكية ومذهب الشافعية واختاره النووي ومذهب الحنابلة وصححه المرداوي وابن مفلح وعليه أكثر الأصحاب.
القول الرابع:
لا يجوز الجمع إلا في عرفة ومزدلفة، وهو مذهب الحنفية.
الراجح:
الجواز، لأن الأحاديث الواردة في السُّنَّة التي تدل على أصل الجمع بغير سبب المطر كثيرة، وفعل الصحابة رضوان الله عليهم وسلف الأمة على مشروعية الجمع بسبب السفر والمطر والخوف ونحوها.
وورد عن ابن عباس، قال:
«جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف، ولا مطر» في حديث وكيع: قال: قلت لابن عباس: لِمَ فعل ذلك؟ قال: «كي لا يُحرج أمته» رواه مسلم، فيُفهم من الحديث جواز الجمع بسبب المطر، وهو ما يُسمَّى بمفهوم المخالفة، وهو حجة عند جمهور أهل الأصول، والجمع رخصة، وسواء قلنا سنة أو رخصة، فإن الرخصة يحبها الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُحب أن تؤتى رخصه) رواه أحمد وصححه النووي وغيره، والله يُحب أن تؤتى رخصه.
2-هل يجوز الجمع لتوقع المطر؟
محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول:
يجوز فإن لم ينزل وجبت الإعادة، وهو مذهب المالكية.
القول الثاني:
لا يجوز، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
الراجح:
الثاني، لعدم وجود السبب، وللقاعدة: (الحُكم يدور مع العِلَّة وجوداً وعدماً).
3-أيهما أولى الصلاة في المساجد جمعًا في جماعة أم الصلاة في البيوت بدون الجمع؟
له حالتان:
الأولى:
إن كان نزل المطر قبل خروج الناس إلى الصلاة في المساجد فيُنادي المؤذن: (ألا صَلَّوا في رحالكم) وهذا هو السُّنَّة، وقد ورد ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر فقال في آخر ندائه: (ألا صَلُّوا في رحالكم) ثم قال إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السَّفر أن يقول: (ألا صَلُّوا في رحالكم) رواه مسلم.
وورد كذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه مسلم، وهي سُنَّة مهجورة، فإن أقيمت الصلاة ولا يلحق الإنسان حرج ومشقة في الذهاب إلى المساجد فيجب المشي إلى المسجد، وإن يجد حرجاً ومشقة فيترخص في الصلاة في بيته، لأن المطر عُذر في ترك الجماعة سواء كان ليلاً أو نهاراً، حَضراً أو سَفراً، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
الثانية:
إن كان نزل المطر بعد وصول الناس إلى مساجدهم فيُشرع الجمع حينها، وكون الصلاة تؤدى جماعة حين وجود سبب الجمع هو الرخصة وهو الأفضل من أن تؤدى الصلاة فرداى في وقتها اتفاقاً عند من يرى جواز الجمع.
4- ضابط المطر المبيح للجمع.
محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول:
أن يكون غزيرًا يشق على الناس في الذهاب للمساجد، وهو مذهب المالكية.
القول الثاني:
أن يبل الثياب، وهو مذهب الشافعية.
القول الثالث:
أن يبل وتلحق به المشقة، وهو مذهب الحنابلة، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
الراجح:
ضابط المشقة هو الأقرب، وأما الجمع بسبب المطر اليسير فلا يجوز، وهو مذهب جمهور الفقهاء واختاره ابن باز وابن عثيمين، ويتساهل الناس في هذا كثيرًا وخاصة في هذه الأزمان، فالطرق مُعبَّدة، ووسائل النقل متيسرة، فلا مشقة، والعلة ظاهرة في أن سبب الجمع هو المشقة، وليس حصول المطر فقط كالسفر، لأن سبب القصر في السفر هو السفر، فالشارع علق ذلك بالسفر وليس المشقة، فكل مسافر يقصر الصلاة سواء وجدت المشقة أم لا.
وأما الجمع بسبب المطر فالعلة المشقة فمتى وجدت وجد السبب وإذا انتفت فلا جمع، وكذا جميع أسباب الجمع المناط والعلة فيها المشقة والحرج، ولأنه إذا كان المقصود من الجمع المطر فما فائدة ضابط المطر المبيح للجمع وكلام الفقهاء عنه، والنداء بقول: ألا صلوا في رحالكم.
لذا نصيحتي للأئمة ألا يتساهلوا في ذلك، ويحملون أنفسهم ما لا طاقة لهم به، من المخاطرة بصلاة من ورائهم دون سبب يقيني مجيز للجمع، واليقين لا يزول إلا بيقين، واليقين لا يزول بالشك، والقاعدة استصحاب الحال الأصلية إذا حصل النزاع والشك، والحال الأصلية هنا أداء كل صلاة في وقتها والله أعلم.