أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم الإثنين 03 ديسمبر 2018, 4:44 pm | |
| الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم أرجح دليل يتمسك به الإنسان كتاب الله تعالى الذي من تمسك به هداه ومن استدل به أرشده وهداه قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعفو ) وقال جل ذكره وتقدس اسمه: ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) وقال جل وعلا: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) وقال تعالى: ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولًا ) والآيات في ذلك كثيرة ومن أشدها قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ).
وروى في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتُمِنَ خان فالوفاء من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة يعظم صاحبه في العيون وتصدق فيه خطرات الظنون ويقال الوعد والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والإنجاز ومطره وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله.
وأنشدوا: ( إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فأن نعم دين على الحر واجب ) ( وإلا فقل لا تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب )
وقال آخر ( لا كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد ) ( فلا تعد عدة إلا وفيت بها ... واحذر خلاف مقال للذي تعد )
وقال اعرابي وعد الكريم نقد وتعجيل ووعد اللئيم مطل وتعليل وقال أعرابي أيضا العذر الجميل خير من المطل الطويل ومدح بشار خالد ابن برمك فأمر له بعشرين ألفا فأبطأت عليه فقال لقائده أقمنى حيث يمر فأقامه فمر فأخذ بلجام بغلته.
وأنشأ يقول: ( أظلت علينا منك يوما سحابة ... أضاء لها برق وأبطأ رشاشها ) ( فلا غيمها يجلى فييأس طابع ... ولا غيثها يأتي فتروى عطاشها )
فقال لا تبرح حتى تؤتي بها.
وقال صالح اللخمي: ( لئن جمع الآفات فالبخل شرها ... وشر من البخل المواعيد والمطل ) ( ولا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل )
وقيل ماتت للهذلي أم ولد فأمر المنصور الربيع أن يعزيه ويقول له إن أمير المؤمنين موجه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف يسليك بها وأمر لك معها بفرس وكسوة وصلة فلم يزل الهذلي يتوقع وعد أمير المؤمنين ونسيه المنصور فحج المنصور ومعه الهذلي فقال المنصور وهو بالمدينة إني أحب أن أطوف الليلة المدينة فاطلب لي من يطوف بي فقال الهذلي أنا لها يا أمير المؤمنين فطاف به حتى وصل بيت عاتكة فقال يا أمير المؤمنين.
وهذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص: ( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل ) ( إنني لأمنحك الصدود وإني ... قسما إليك مع الصدود لأميل )
فكره المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه فلما رجع المنصور أمر القصيدة على قلبه...
فإذا فيها: ( وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل )
فذكر المنصور الوعد الذي كان وعد به الهذلي فأنجزه له واعتذر إليه.
وقال الشاعر: ( تعجيل وعد المرء أكرومة ... تنشر عنه أطيب الذكر ) ( والحر لا يمطل معروفه ... ولا يليق المطل بالحر )
وقال آخر ( ولقد وعدت وأنت أكرم واعد ... لا خير في وعد بغير تمام ) ( أنعم علي بما وعدت تكرما ... فالمطل يذهب بهجة الإنعام )
وقال آخر ( لعبدك وعد قد تقدم ذكره ... فأوله حمد وآخره شكر ) ( وقد جمعت فيك المكارم كلها ... فما لك عن تأخير مكرمة عذر)
وقال آخر ( وميعاد الكريم عليه دين ... فلا تزد الكريم على السلام ) ( يذكره سلامك ما عليه ... ويغنيك السلام عن الكلام )
وقال آخر ( شكاك لساني ثم أمسكت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك ينطق ) ( فان لم تنجر ما وعدت تركتني ... وباقي لساني بالمذمة مطلق )
وقال آخر ( باتت لوعدك عيني غير راقدة ... والليل حي الدياجي منبت السحر ) ( هذا وقد بت من وعد على ثقة ... فكيف لو بت من هجر على حذر )
وقال آخر ( نذكر بالرقاع إذا نسينا ... ويأبى الله أن تنسى الكرام )
وأما الوفاء بالعهد ورعاية الذمم فقد نقل فيه من عجائب الوقائع وغرائب البدائع ما يطرب السامع ويشنف المسامع كقضية الطائي وشريك نديم النعمان بن المنذر وتلخيص معناها أن النعمان كان قد جعل له يومين يوم بؤس من صادفه فيه قتله وأرداه ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئا لصبيته وصغاره فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه فلما رآه الطائي علم أنه مقتول وأن دمه مطلول فقال حيا الله الملك إن لي صبية صغارا وأهلا جياعا وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس وقد قربت من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلف من الطوى ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره فان رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصى بهم أهل المروءة من الحي لئلا يهلكوا ضياعا ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره فلما سمع النعمان صورة مقاله وفهم حقيقة حاله ورأى تلهفه على ضياع أطفاله رق له ورثي لحاله غير أنه قال له لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا فان لم ترجع قتلناه وكان شريك ابن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه فالتفت الطائي إلى شريك.
وقال له: ( يا شريك بن عدي ... ما من الموت انهزام ) ( من لأطفال ضعاف ... عدموا طعم الطعام ) ( بين رجوع وانتظار ... وسقام ) ( يا أخا كل كريم ... أنت من قوم كرام ) ( يا أخا النعمان جد لي ... بضمان والتزام ) ( ولك الله بأني ... راجع قبل الظلام )
فقال شريك بن عدي أصلح الله الملك علي ضمانه فمر الطائي مسرعا وصار النعمان يقول لشريك إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع وشريك يقول ليس للملك علي سبيل حتى يأتي المساء فلما قرب المساء قال النعمان لشريك قد جاء وقتك قم فتأهب للقتل فقال شريك هذا شخص قد لاح مقبلا وأرجو أن يكون الطائي فان لم يكن فأمر الملك ممثل قال فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعا حتى وصل فقال خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي ثم وقف قائما وقال أيها الملك مر بأمرك فأطرق النعمان ثم رفع رأسه وقال والله ما رأيت أعجب منكما أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه ولا ذكرا يفتخر به وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء فلا أكون أنا ألأم الثلاثة ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم الإثنين 03 ديسمبر 2018, 4:55 pm | |
| فقال الطائي ( ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فعددت قولهمو من الاضلال ) ( إني امرؤ مني الوفاء سجية ... وفعال كل مهذب مفضال )
فقال له النعمان ما حملك على الوفاء وفيه اتلاف نفسك فقال ديني فمن لا وفاء فيه لا دين له فأحسن إليه النعمان ووصله بما أغناه وأعاده مكرما إلى أهله وأناله ما تمناه.
ومن ذلك ما حكى أن الخليفة المأمون لما ولي عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر والشام وأطلق حكمه دخل على المأمون بعض إخوانه يوماً فقال يا أمير المؤمنين أن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب وهواه مع العلويين وكذلك كان أبوه قبله فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر فتشوَّش فكره وضاق صدره فاستحضر شخصاً وجعله في زي الزُّهَّاد والنُّسَّاك الغزاة ودَسَّهُ إلى عبد الله بن طاهر وقال له أمض إلى مصر وخالط أهلها وداخل كبراءها واستملهم إلى القاسم بن محمد العلوي واذكر مناقبه ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة عبد الله بن طاهر ثم اجتمع بعبد الله بن طاهر بعد ذلك وادعه إلى القاسم بن محمد العلوي واكشف باطنه وابحث عن دفين نيَّته وائتني بما تسمع ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون وتوجَّه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه فلما نزل من الرُّكوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه وأدخله على عبد الله ابن طاهر وهو جالس وحده فقال له لقد فهمت ما قصدت فهات ما عندك فقال ولي الأمان قال نعم فأظهر له ما أراده ودعاه إلى القاسم بن محمد فقال له عبد الله أو تنصفني فيما أقوله لك قال نعم قال فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الإحسان والمِنَّة قال نعم قال فيجب عليَّ وأنا في هذه الحالة التي تراها من الحُكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب وأمري فيما بينهما مطاع وقولي مقبول ثم أني ألتفت يميناً وشمالاً فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضاً عليَّ أفتدعوني إلى الكُفر بهذه النِّعمة وتقول أغدر وجانب الوفاء والله لو دعوتني إلى الجنة عياناً لما غدرت ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له فسكت الرجل فقال له عبد الله والله ما أخاف إلا على نفسك فارحل من هذا البلد فلما يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون فأخبره بصورة الحال فسرَّه ذلك وزاد في إحسانه إليه وضاعف إنعامه عليه.
ومما يُعَدُّ من محاسن الشِّيَمِ ومكارم أخلاق أهل الكرم ويَحُثُّ على الوفاء بالعهود ورعاية الذِّمَمِ ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه في تاريخه قال قال لي أبو الفتح المنطيقي كنا جلوساً عند كافور الأخشيدي وهو يومئذ صاحب مصر والشام وله من البسطة والمكنة ونفوذ الأمر وعلو القدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر فحضرت المائدة والطعام فلما أكلنا نام وانصرفنا ولما انتبه من نومه طلب جماعة منا وقال أمضوا الساعة إلى عقبة النجارين وسلوا عن الشيخ منجم أعور كان يقعد هناك فإن كان حيا فاحضروه وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده واكشفوا أمرهم قال فمضينا إلى هناك وسألنا عنه فوجدناه قد مات وترك بنتين إحداهما متزوجة والأخرى عاتق فرجعنا إلى كافور واخبرناه بذلك فسير في الحال واشترى لكل واحدة منهما دارا وأعطاهما مالا جزيلا وكسوة فاخرة وزوج العاتق وأجرى على كل واحدة منهما رزقا واظهر أنهما من المتعلفين به لرعاية أمورهما فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك وقال أتعلمون سبب هذا قلنا لا فقال اعلموا أني مررت يوماً بوالدهما المنجم وأنا في ملك ابن عباس الكاتب وأنا بحالة رثَّةٍ فوقفت عليه فنظر إلي واستجلبني وقال أنت تصير إلى رجل جليل القدر وتبلغ منه مبلغا كبيرا وتنال خيرا ثم طلب مني شيئا فأعطيته درهمين كانا معي ولم يكن معي غيرهما فرمى بهما إلي وقال ابشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين ثم قال وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به ولا تنس فقلت له نعم فقال عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي معاهدته ولم يأخذ مني الدرهمين ثم إني شغلت عنه بما تجدد لي من الامور والاحوال وصرت إلى هذه المنزلة ونسيت ذلك فلما أكلنا اليوم ونمت رأيته في المنام قد دخل علي وقال لي أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك وإتمام وعدك لا تغدر فيغدر بك فاستيقظت وفعلت ما رأيتم ثم زاد في إحسانه إلى بنات المنجم وفاء لوالدها بما وعده والله أعلم.
ومما أسفرت عنه وجوه الاوراق واخبرت به الثقات في الآفاق وظهرت روايته بالشام والعراق وضرب به الأمثال في الوفاء بالاتفاق حديث السموأل بن عاديا وتلخيص معناه أن أمرأ القيس الكندي لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم أودع عند السموأل دروعا وسلاحا وأمتعه تساوي من المال جملة كثيرة فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدروع والاسلحة المودعة عند السموأل فقال السموأل لا أدفعها إلا لمستحقها وأبي أن يدفع إليه منها شيئا فعاوده فأبى وقال لاأغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء والواجب علي فقصده ذلك الملك من كنده بعسكره فدخل السموأل في حصنه وامتنع به فحاصره ذلك الملك وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرا ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل فأشرف عليه من أعلى الحصن فلما رآه قال له إن ولدك قد اسرته وها هو معي فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامريء القيس عندك رحلت عنك وسلمت اليك ولدك وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر فاختر ايهما شئت فقال له السموأل ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ما شئت فذبح ولده وهو ينظر ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبا واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه فلما جاء الموسم وحضر ورثة امريء القيس سلم اليهم الدروع والسلاح ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب اليه من حياة ولده وبقائه فسارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكروا السموأل في الأول وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه واستنطق الايدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه.
ومما وضع في بطون الدفاتر واستحسنته عيون البصائر ونقلته الأصاغر عن الاكابر وتداولته الألسنة من الاوائل والاواخر ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي خذ معك فلانا وفلانا وسماهما أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم واذهب مسرعا لما أقوله لك فإنه قد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى دور البرامكة وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فامض الآن أنت وعلي ودينار حتى تروا هذه الخرابات فاستتروا خلف بعض الجدران فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وانشد شيئا فائتوني به قال فاخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات وإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد وإذا شيخ وسيم له جمال وعليه مهابة ووقار قد أقبل فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب...
ويقول ( ولما رأيت السيف جندل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى ) ( بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا )
مع أبيات أطالها ورددها فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له أجب أمير المؤمنين ففزع فزعا شديدا وقال دعوني حتى أوصي وصية فإني لا أوقن بعدها بحياة ثم تقدم إلى بعض الدكاكين فاستفتح وأخذ ورقه وكتب فيها وصية ودفعها الى غلامه ثم سرنا به فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين زجره وقال له من أنت وبماذا استوجبت البرامكة منك ما تفعله في خرائب دورهم وما تقوله فيها قال الخادم ونحن وقوف نسمع فقال يا أمير المؤمنين إن للبرامكة عندي أيادي خطيرة أفتأذن لي أن احدثك حديثي معهم قال قل قال ياأمير المؤمنين أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورءوس أهلي أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبيا وصبية وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فدعوت بثويبات لي كنت قد أعددتها لا ستمنح بها الناس فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد أسأل عن دور البرامكة فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي وإذا بخادم قد أقبل فدعا القوم فقاموا وأنا معهم فدخلوا دار يحيى بن خالد ودخلت معهم وإذا بيحيى جالس على دكة له في وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحد وبين يديه عشرة من ولده وإذا غلام أمرد عذاراه خداه قد أقبل من بعض المقاصير بين يديه مائة خادم منمطقون في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من الف مثقال ومع كل خادم مجمرة من ذهب في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهر قد قرن بها مثلها من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام إلى جنب يحيى ثم قال يحيى للقاضي تكلم وزوج بنتي عائشة من ابن عمي هذا فخطب القاضي وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر فالتقطت والله ياأمير المؤمنين ملء كمي ونظرت فإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر رجلا فخرج الينا مائة واثنا عشر خادما مع كل خادم صينية من فضة عليها الف دينار فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في اكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الاول فالاول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على اخذ الصينية فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي وأخذت الصينية في يدي وقمت وجعلت التفت إلى ورائي مخافة أن امنع من الذهاب بها فبينما أنا كذلك في صحن الدار ويحيى يلحظني إذا قال ائتني للخادم بذلك الرجل فرددت إليه فأمر بصب الدنانير والصينية وما كان في كمي ثم أمرني بالجلوس فجلست فقال لي ممن الرجل فقصصت عليه قضيتى فقال للخادم ائتني بولدي موسى فاتي به فقال له يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك فقبض موسى علي يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في الذ عيش وأتم سرور فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال إن الوزير قد أمرني بالعطف على هذا الرجل وقد علمت اشتغالي في دار امير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام فلما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد ثم لم أزل في ايدي القوم يتداولوني عشرة أيام لا اعرف خبر عيالي وصبياني افي الأموات هم أم في الأحياء فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا لي قم فاخرج إلى عيالك بسلام فقلت واويلاه سلبت الدنانير والصينية وأخرج إلى عيالي في هذه الحالة إنا لله وإنا إليه راجعون فرفع الستر الاول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع فلما رفع الخادم الستر الاخير قال لي مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به فلما رفع الستر رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلي الف الف درهم وعشرة آلاف دينار ومنشورين بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق واقمت يا امير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب اصطنعوني فلما جاءتهم البلية ونزل بهم من امير المؤمنين الرشيد ما نزل اجحفني عمرو ابن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به فلما تحامل علي الدهر كنت في أواخر الليل اقصد خرابات القوم فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي وأشكرهم على إحسانهم فقال المأمون علي بعمرو بن مسعدة فلما أتي به قال ياعمرو أتعرف هذا الرجل قال نعم يا امير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة قال كم الزمته في ضيعته قال كذا وكذا قال رد له كل ما استأديته منه في مدته ووقع له بهما ليكونا له ولعقبة من بعده قال فعلا نحيب الرجل وبكاؤه فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال يا هذا قد احسنا إليك فلم تبكي قال يا امير المؤمنين وهذا ايضا من صنائع البرامكة إذ لو لم آت خراباتهم فأبكيهم واندبهم حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل ما فعل فمن اين كنت أصل إلى أمير المؤمنين قال إبراهيم بن ميمون فلقد رأيت المأمون قد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر وقيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم الإثنين 03 ديسمبر 2018, 4:57 pm | |
| قال الشاعر ( سقى الله أطلال الوفاء بكفه ... فقد درست أعلامه ومنازله )
وقال آخر ( أشدد يديك بمن بلوت وفاءه ... إن الوفاء من الرجال عزيز)
وقال مالك بن عمارة اللخمي كنت جالسا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبدالملك بن مروان من الإتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا حدث وحلاوة لفظه إذا حدث فخلوت معه ليلة فقلت له والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك فقال إن تعش قليلا فسترى العيون طامحة إلي والأعناق نحوي متطاولة فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إلي ركابك فلأملأن يديك فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر فلما رآني أعرض عني فقلت لعله لم يعرفني أو عرفني وأظهر لي نكره فلما قضيت الصلاة ودخل بيته لمألبث أن خرج الحاجب فقال أين مالك بن عمارة فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه فمد إلي يده وقال إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت فأما الآن فمرحبا وأهلا كيف كنت بعدي فأخبرته فقال أتذكر ما كنت قلت لك قلت نعم فقال والله ما هو بميراث وعيناه ولاأثر رويناه ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ما خنت ذا ود قط ولا شمت بمصيبة عدو قط ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذا بها فكنت أؤمل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي وقد فعل ثم دعا بغلام فقال له يا غلام بوئه منزلا في الدار فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلا حسنا فكنت في ألذ حال وأنعم بال وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي ويقبل علي ويحادثني ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة فتغديت يوما عنده فلما تفرق الناس نهضت قائما فقال على رسلك فقعدت فقال اي الامرين أحب إليك المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة أو الرجوع إلى اهلك ولك الكرامة فقلت يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي علي أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد فقال لا بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا وقد أمرنا لك بعشرين الف دينار وكسوناك وحملناك أتراني قد ملأت يديك فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدا وزرنا إذا شئت صحبتك السلامة.
ومن ذلك ما روي عن أبي بكار الأعمى وكان قد انقطع إلى آل برمك قال مسرور الكبير لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت عليه فوجدت عنده أبا بكر الأعمى يغنيه...
ويقول: ( فلا تحزن فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي )
فقلت في هذا والله قد أتيتك ثم أمسكت بيد جعفر واقمته وضربت عنقه فقال أبو بكار ناشدتك الله إلا ما ألحقتني به فقلت له ما الذي حملك على هذا فقال أغناني عن الناس فقلت حتى استأمر الرشيد ثم أحضرت الرأس إلى الرشيد وأخبرته بخبر أبي بكار فقال هذا رجل فيه مصطنع أضمه إليك وانظر ما كان يجري عليه جعفر فادفعه إليه وكان يحيى بن خالد إذا أكد في يمينه قال لا والذي جعل الوفاء أعز ما يرى.
قال ابو فراس بن حمدان الشاعر: ( بمن يتقي الإنسان فيما ينوبه ... ومن اين للحر الكريم صحاب ) ( وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئابا على أجسادهن ثياب )
وسأل المنصور بعض بطانة هشام عن تدبيره في الحروب فقال كان رحمه الله تعالى يفعل كذا وكذا فقال المنصور عليك لعنة الله تطأ بساطي وتترحم على عدوي فقال إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي فقال له المنصور إرجع يا شيخ فإني أشهد أنك لوفيٌ حافظٌ للخير ثم أمر له بمال مأخذه ثم قال والله لولا جلالة أمير المؤمنين وإمضاء طاعته ما لبست لأحد بعد هشام نعمة فقال له المنصور لله درك فلو لم يكن في قومك غيرك لكنت قد ابقيت لهم مجدا مخلدا وخرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب في بعض جبابين الشام فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي قال سليمان فرفعت البرقع عن وجهها فحكت شمسا عن متون غمامة فوقفنا متحيرين ننظر إليها فقال لها يزيد بن المهلب يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين بعلا فنظرت إلينا...
ثم أنشأت تقول: ( فإن تسألاني عن هواي فإنه ... يحول بهذا القبر يا فتيان ) ( وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني )
ومن ذلك ما روي عن نائلة بنت القرافصة بن الأحوص الكلبي زوج عثمان رضي الله عنهما أن عثمان لما قتل اصابتها ضربة على يدها وخطبها معاوية فردته وقالت ما يعجب الرجل مني قالوا ثناياك فكسرت ثناياها وبعثت بها إلى معاوية فكان ذلك مما رغب قريشا في نكاح نساء بني كلب ولما احس مصعب بن الزبير بالقتل دفع إلى مولاه فص ياقوت قيمته ألف ألف وقال له إنج بهذا فأخذه زياد زياد ودقه بين حجرين وقال والله لا ينتفع به أحد بعدك ولما قدم هدبة بن الحشرم للقتل بحضرة مروان بن الحكم قالت زوجته إن لهدبة عندي وديعة فامهله حتى آتيك بها فقال اسرعي فإن الناس قد كثروا وكان مروان قد جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق وأتت إلى قصاب فقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك فأخذتها وقربت من حائط وأرسلت ملحفها على وجهها ثم جدعت أنفها من اصله وقطعت شفتيها وردت الشفرة إلى القصاب ثم أقبلت حتى دخلت بين الناس فقالت أتراني يا هدبة متزوجة بعد ما ترى فقال الآن طابت نفسي بالموت فجزاك الله من حليلة وفيه خيراً.
ولنجعل لهذا الباب من القضايا ختاماً هو أوجزها كلاماً وأحسنها نظاماً وأبينها حكماً وإحكاماً وهي قضية جمعت الأمرين وفاءً وغدراً وعرفاً ونكراً وخيراً وشراً ونفعاً وضراً واشتملت على حال شخصين أحدهما وفي بعده ففاز ونجا وحاز من مقترحات مناه ماأمل ورجا وغدر الآخر فلم يجد له من جزاء غدره إلى النجاة فرجا ولم يلق له من ضيق الغدر مخرجا وهو ما ذكره عبد الله بن عبد الكريم وكان مطلعا على احوال أحمد بن طولون عارفا بأموره عالما بوروده وصدوره فقال ما معناه إن أحمد بن طولون وجد عند سقايته طفلا مطروحا فالتقطه ورباه وسماه أحمد وشهره باليتيم فلما كبر ونشأ كان اكثر الناس ذكاء وفطنة وأحسنهم زيا وصورة فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده أبا الجيش خمارويه به فأخذه إليه فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش إليه وقال له أنت عندي بمكانة أرعاك بها ولكن عادتي إني آخذ العهد على كل من أصرفه في شيء إنه لا يخونني فعاهده ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله فصار أحمد اليتيم مستحوذا على المقام حاكما على جميع الحاشية الخاص والعام والأمير أبو الجيش بن طولون يحسن إليه فلما رأى خدمته متصفة بالنصح ومساعيه متسمة بالنجح ركن إليه واعتمد في أمور بيوته عليه فقال له يوما ياأحمد امض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سبحه جوهر فائتني بها فمضى أحمد فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شباب من الفراشين ممن هو من الأمير بمحل قريب فلما رأياه خرج الفتى وجاءت الجارية إلى احمد وعرضت نفسها عليه ودعته إلى قضاء وطره فقال لها معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إلي وأخذ العهد علي ثم تركها وأخذ السبحة وانصرف إلي الامير وسلمها إليه وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد بعدما أخذ السبحة وخرج من الحجرة لئلا يذكرها للأمير فأقمت أياما لم تجد من الامير ما غيره عليها ثم اتفق أن الامير اشترى جارية وقدمها على حظاياه وغمرها بعطاياه واشتغل بها عمن سواها وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها ولا يراها وكان أولا مشغولا بتلك الجارية الخاسرة الخائنة الخائبه الغادرة العائبة العاهرة الفاسقة الفاجرة فلما أعرض عنها اشتغالا بالجارية الجديدةالممجدة السعيدة الحامدة المحمودة الوصيفة الموصوفة الأليفة المألوفة العارفة المعروفة وصرف لبهجة محاسنها وكثرة آدابها وجهه من ملاعبة أترابها وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها وكانت تلك الجارية الأولى لحسنها متأمرة على تأميره لا تخاف من وليه ولا نصيره فكبر عليها أعراضه عنها ونسبت ذلك إلى احمد اليتيم لاطلاعه على ما كان منها فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها وأعلنت بالبكاء بين يديه لاتمام كيدها ومكرها وقالت إن احمد اليتيم راودني عن نفسي فلما سمع الأمير ذلك استشاط غيظا وغضبا وهم في الحال بقتله ثم عاوده حاكم عقله فتأنى في فعله واستحضر خادما يعتمد عليه وقال له إذا ارسلت إليك إنسانا ومعه طبق من ذهب وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكا فاقتل ذلك الإنسان واجعل رأسه في الطبق وأحضره مغطى ثم إن الامير أبا الجيش جلس لشربه وأحضر عنده ندماءه الخواص وأدناهم لمجلس قربه وأحمد اليتيم واقف بين يديه آمن في سربه لم يخطر بخاطره شيء ولا هجس هاجس في قلبه فلما مثل بين يدي الامير وأخذ منه الشراب شرع في التدبير فقال يا احمد خذ هذا الطبق وامض به إلى فلان الخادم وقل له يقول لك أمير المؤمنين املأ هذا الطبق مسكا فأخذه أحمد اليتيم ومضى فاجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء والخواص فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم فقال أنا ماض في حاجة للأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق فقالوا له أرسل من ينوب عنك في إحضارها وخذها أنت وأدخل بها على الامير فأدار عينيه فرأى الفتى الفراش الذي كان مع الجارية فأعطاه الطبق وقال له أمض إلى فلان الخادم وقل له يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكا فمضى ذلك الفراش إلى الخادم فذكر له ذلك فقتله وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق وأقبل به فناوله لأحمد اليتيم فأخذه وليس عنده علم من باطن الامر فلما دخل به على الامير كشفه وتأمله وقال ما هذا فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم وما كان من انفاد الطبق وإرساله مع الفراش وأنه لا علم عنده غير ما ذكره قال أتعرف لهذا الفراش خبر يستوجب به ما جرى عليه فقال أيها الامير إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة وقد كنت رأيت الإعراض عن إعلام الامير بذلك وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره لما انفذه لإحضار السبحة الجوهر فدعا الامير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها فأقرت بصحة ما ذكره أحمد فأعطاه إياها وأمره بقتلها ففعل وازدادت مكانة أحمد عنده وعلت منزلة لديه وضاعف إحسانه إليه وجعل أزمة جميع ما يتعلق به بيديه فانظر رحمك الله إلى آثار الوفاء كيف تحمى من المعاطب وتنجي من قبضة التلف بعد إمضاء القواضب ويفضى بصاحبه إلى ارتفاء غوارب المراتب فهذا الغلام لما وفى لمولاه بعهده وهو بشر مثله وليس في الحقيقة بعبده واطلع الله عز و جل على صدق نيته وقصده دفع عنه هذه القتلة الشنيعة بلطف من عنده فإذا كان العبد مع خالقه ورازقه وافيا في طاعته بعقده كيف لا يفيض عليه من ألطاف مواهب بره ورفده ويفتح له من أنواع رحمته وأقسام نعمته ما لا ممسك له من بعده وقالوا ليس شيء أوفى من القمرية إذا مات ذكرها لم تقرب آخر بعده ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. |
|