دلائل مَحَبـَّةِ الرَّسُـول صلّى اللهُ عليه وسلّم بين السُّنَّةِ والبِدْعَةِ
أحمد بن عبد الرحمن آل صويان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
إن محبَّة الرسول -صلى الله علـيـه وسلم- أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين، فلا إيمان لِمَنْ لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحَبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
* قال الله تعالى:
((قل إن كان آباؤكم وأبـنـاؤكـم وإخــوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحَـبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصُوا حتى يأتيَ اللهُ بأمره واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين))[التوبة: 24].
قال القاضي عياض في شرح الآية:
»فكفى بهذا حضاً وتـنـبـيـهــاً ودِلالةً وحُجَّةً على إلزام محبَّته، ووجوب فرضها، وعِظَمِ خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله عليه وسلم-، إذ قرَّع اللهُ مَنْ كان ماله وأهله وولده أحَـبَّ إليه من الله ورسـوله وتوعَّدهم بقوله تعالى: ((فتربَّصُوا حتى يأتيَ اللهُ بأمره))، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم مِمَّنْ ضَلَّ ولم يهده الله« (1).
* وقال الله تعالى:
((النبيُّ أولَى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم))[الأحزاب: 6].
* وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
»لا يؤمنُ أحدكم حتى أكــون أحَبَّ إليه مِنْ والده وولده والناس أجمعين« (2).
* وقال أيضاً:
»والذي نفسي بيده لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحَبَّ إلـيـه من والده وولده« (3).
* وعــن عبد الله بن هشام -رضي الله عنه- قال:
كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحَبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلاَّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »لا والـــذي نفسي بيده حتى أكون أحَبَّ إليك من نفسك«، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحَبَّ إليَّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: »الآن يا عمر« (4).
آثـار محـبته -صلى الله عليه وسلم-:
المحبَّة عملٌ قـلـبـيٌ اعتقاديٌ تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله.
ومن علامات ذلك:
أولاً تعزير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:
قال الله تعالى: ((إنا أرسلناك شاهداْ ومُبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاْ))[الفتح: 9].
ذكر ابن تيمية أن التعزير:
»اسمٌ جامعٌ لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه«.
والتوقير:
»اسمٌ جامعٌ لكل ما فـيـه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يُعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يُخرجه عن حَدِّ الوقار« (5).
وتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- له دلائل عديدة، منها:
1 - عدم رفع الصوت فوق صوته:
قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)) [الحجرات: 2].
وعن السائب بن يزيد قــال:
»كـنــت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: مَنْ أنتما أو مِنْ أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما مــن أهــل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-« (6).
2 -الصلاة عليه:
قال الله تعالى: ((إن الله وملائكته يُصلّونَ على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماْ))[الأحزاب: 57].
قال ابن عباس:
يُصلّون: يُبرّكون (7).
وفـي الآية أمرٌ بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجُوب، لهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »البخيل مَنْ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عَلَيَّ« (8).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
»رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ« (9).
ثانياً الـذَّبُّ عنه وعن سُنَّتِهِ:
إن الـذَّبَّ عــن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونُصرته، آيةٌ عظيمةٌ من آيات المحبَّة والإجلال، قال الله تعالى: ((للفقراء المهاجرين الذين أخْرِجُوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصَّادقون))[الحشر: 8].
ولقد سَطَّرَ الصَّـحـابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذَّبِّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفِـدائـه بالأموال والأولاد والأنفس، في المَنشط والمَكره، في العُسر واليُسر، وكُتُبُ السِّيَرِ عامرةٌ بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبَّة والإيثار.
وما أجمل ما قاله أنس بن النضر -رضي الله عنه- يـوم أُحُــدٍ لَـمَّـا انكشف المسلمون: »اللهمَّ إني أعتذر إليك مِمَّا صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مِمَّا صـنــع هؤلاء يعني المُشركين، ثم تقدَّم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النـضـر، إني أجد ريحها من دون أحُدٍ، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مَثَّلَ به المشركون، فما عرفه أحَدٌ إلا أخته ببنانه (10).
ومــن الذَّبِّ عن سُنَّتِهِ -صلى الله عليه وسلم-:
حفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال الـمُـبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورَدِّ شُبُهَاتِ الزنادقة والطاعنين في سُنَّتِهِ، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم.
وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنَّضَارَةِ لِمَنْ حمل هــذا اللــواء بقوله: »نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سمع مِنَّا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامع« (11).
والتهاون في الذَّبِّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو الذَّبِّ عن سُّنَّتِهِ وشريعته، من الـخُـــذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكُليَّة، فَمَنْ ادَّعى الحُبَّ ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حُرمته وعِرضه وسُنَّتِهِ، فهو كاذبٌ في دعواه.
ثالثاً تصديقه فيما أخبر:
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته من الـكــذب أو البُهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالـى: ((والنجم إذا هوى ما ضَلَّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحَى))[النجم: 14].
والجفاء كُلُّ الجـفـــاء، بـل الكـفـــر كُلُّ الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذَمَّ اللهُ المُشركين بقوله: ((وما كان هذا القرآنُ أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رَبِّ العالـمـيــن، أم يقـولون افتراه قل فأتوا بسُـورةٍ مثله وادعوا مَنِ اسـتطعتم من دون الله إن كنتم صـادقـيـــن بل كذَّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولَمَّا يأتهم تأويله كذلك كَذَّبَ الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبةُ الظالمين))[يونس: 37-39].
ومن لطائف هذا الباب التي تَدُلُّ على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: »بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاةً فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: مَنْ لها يوم السَّبع ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خُلِقْتُ للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما« (12).
رابعاً إتباعه وطاعته والاهتداء بهديه:
الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله أنهــــا للإتباع والتَّأَسِّي، قال الله تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لِمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكر اللهَ كثيراْ))[الأحزاب: 21].
قــال ابن كثير:
»هذه الآية أصلٌ كبيرٌ في التَّأَسِّي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فـي أقـــواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتَّأَسِّي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومُصابرته ومُرابطته ومُجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل« (13).
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((وما آتاكم الرسولُ فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا)) [الحشر: 7].
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعته سبحانه، فقال: ((مَن يُطع الرَّسُولَ فقد أطاع الله)) [النساء: 80].
وأمر بالرَّدِّ عند التنازع إلى الله والرسول، فقال:
((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدُّوهُ إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً)) [النساء: 59].
وتواتــرت الـنُّـصـوص النبوية في الحَثِّ على إتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسُنَّتِهِ، وتعظيم أمـــــره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشـديــن الـمهديين، تمسَّكُوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجذ وإيَّاكم ومُحدثات الأمور، فإن كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٍ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٍ« (14).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
»صَلُّوا كما رأيتمُونِي أصَلِّي« (15).
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
»لِتَأخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ« (16).
فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي الـمـثـالُ الحَيُّ الصَّادقُ لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحُبُّ، زادت الطاعات، ولـهــذا قال الله عز وجل: ((قل إن كنتم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله))[آل عمران: 31].
فالطاعة ثمرة المحبة.
وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** ذاك لعمـري في القياس بديع
لـو كـان حـبـك صــادقاً لأطعتـه *** إن المحب لمن أحب مطيـع
خامساً التَّحاكُم إلى سُنَّتِهِ وشريعته:
إن التَّحاكم إلى سُنَّةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصـــلٌ من أصُول المحبَّة والإتباع، فلا إيمان لِمَنْ لم يحتكم إلى شريعته، ويُسَلِّم تسليماً، قال الله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكِّمُوكَ فـيـمــا شـجـــر بـيـنـهـم ثــم لا يجــــدوا في أنفسهم حرجًا مِمَّا قضيتَ ويُسَلِّمُوا تسليمًا)) [النساء: 65].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزَّيغ والنِّـفــاق الإعـــراض عن سُنَّتِهِ، وترك التَّحاكم إليها، قال الله تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمـنــوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِرُوا أن يكفروا به ويُريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيدًا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللهُ وإلى الرســــــول رأيت المُنافقين يَصُدُّونَ عنكَ صُدُودًا)) [النساء: 60،61].
الغُلو في محبَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
انـحــــرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- غلواً أخرجـهــــم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: ((وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السُبُلَ فتفرَّق بكم عن سبيله)) [الأنعام: 153].
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يُحَذِّرُ تحذيراً شديداً من الغُلو والانحراف في حقه.
ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:
* عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: »لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله« (17).
* وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »لعنةُ اللهِ على اليـهــود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إلا أني أنهاكم عن ذلك يحذر ما صنعوا« (18).
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: »جعلتني للهِ عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده« (19).
* وعن أنس -رضي الله عنه-
أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سـيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل« (20).
ونظائر هـــــذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهَدْي الذي ارتضاه وسَنَّهُ لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: »مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌ« (21).
حقيقة المولـد النبـوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العُبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عـشـر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المُبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النـبـويــة والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرَّقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعــــــاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة بـه، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طُـقُـــوسٍ وثـنـيـــةٍ من الأهازيج الشعريَّة والطُبُول والمزامير والتمايل والرَّقص، وبالتالي الانحراف بـه عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخُرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المُـنـحـرفــــــة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرُّكِ بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبَحَّتِ الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الـنــاس مــن العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأذكر أنني كنت قـبــل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعـــــداد للـيـــوم الثاني عشر، تحدَّثتُ مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بُحَّ صــوتـــي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!!
عندها تذكرت قول غلاة الصوفية:
»مَنْ أراد التحقيق فليترك العقل والشَّرع!« (22)، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غُلاتهم: »كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم« (23).
ومن المُفارقات التي تدعو إلى التَّأَمُّل، أن بعض الناس قد يعصى النبي -صلـى اللـه علـيـه وسـلــم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسُنَّتِهِ، ومع ذلك فهو يحتفـــي بـيـــوم المولد، ويُوالي فيه ويُعادي، وكأن غاية الحُبِّ عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء...؟!
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
»مَنْ تَتَّبَعَ التاريخ يـعـلــم أن أشَدَّ المؤمنين حُبًّا واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غُلُوّاً فيه ولاسيما أصحابه -رضي الله عنهم- ومَنْ يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غُلُوّاً في القول وابتداعاً في العمل«.
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي تُرمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقـــــــاف والسياحة.
ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحـيـاؤنــــا لا يـرزقــون بـدرهـــم وبـألــف ألــف يــــرزق الأمــــوات
مـــن لـي بـحــظ الـنـائـمـين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات؟! (24)
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان للعجزة النَّائحين.
وما أجمل قول أنس بن النضر -رضي الله عنه- لَمَّا مَرَّ بقومٍ من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فمُوتُوا على ما مات عليه« (25).
===========
هـوامـش:
(1)الشفا بتعريف أحوال المصطفى 2/18.
(2)أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 1/67.
(3)أخرجه البخاري 1/58.
(4)أخرجه البخاري 11/523.
(5)الصـارم المسلـول على شـاتم الرسـول ص422.
(6)أخرجه البخاري 1/560.
(7)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به 8/532.
(8)أخرجه أحمد 201، والترمذي 5/551.
(9)أخرجه أحمد 2/254، والبخاري في الأدب المفرد ص 220، والترمذي 5/550.
(10)أخرجه البخاري 6/21 و 7/354.
(11)أخرجه أحمد 1/437، والترمذي 5/34، وابن ماجة 1/85.
(12)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: 6/152 و 7/18 و 42.
(13) تفسير القرآن العظيم 3/475.
(14)أخرجه أحمد 4/126،127، وأبو داود 5/13-15، والترمذي 5/44، وابن ماجة 1/16.
(15)أخرجه البخاري 2/111 و 10/438.
(16)أخرجه مسلم 2/943.
(17)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها 6/478.
(18)أخرجه البخاري 8/140، ومسلم 1/377.
(19)أخرجه أحمد 1/214 و 283 و 347.
(20)أخرجه أحمد 3/153 و 241.
(21)أخرجه مسلم 3/1344.
(22) مجموع الفتاوى 11/243.
(23) مجموع الفتاوى 2/174.
(24)الديوان، ج1، ص 318.
(25)أخرجه البخـاري 6/21 و 7/355 ومسلم 3/1512.
* من تعليقاته على كتاب »صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان « للسهسواني.
المصدر:
http://www.saaid.net/