لفظ الأقليَّات في التراث الإسلامي:
لا يكاد يعثر الباحث في التراث الإسلامي على استخدام للفظ الأقلية في المعنى المستخدم فيه اليوم، لكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك أقليات في الدولة الإسلامية، أو أنه لم تتم دراسة الأقليَّات في الفقه الإسلامي، بل كانت هناك في الواقع أقليات ببعض المعاني الموجودة اليوم، كما تمت دراسة أوضاع تلك الأقليَّات والأحكام المتعلقة بها ولكن تحت أسماء أخرى هي أوفق وأدل على المقصود من لفظ الأقليَّات كما سيأتي، وقد تعامل الإسلام مع ظاهرة الأقلية انطلاقا من شرعه المشبع بالعدل والإحسان فنتج من ذلك الخير والاستقرار للدولة وللأقلية في آن واحد.
أنواع الأقليَّات:
عندما أرسل الله تعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله دعا قومه أولاً في مكة ثم بدأ في توسيع مجال الدعوة، وقد عارضه المشركون في أول الأمر وتعرَّض هو وأتباعه لكثير من مضايقات المشركين وتعنتهم وإيذائهم الشديد لضعفاء المسلمين، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحمَّل هو ومَنْ معه وصبروا حتى فتح اللهُ عليهم وانتشر الإسلام وعَمَّ نوره جنبات الأرض وقامت دولة الإسلام التي شملت العديد من الأقاليم العربية (جزيرة العرب) وغير العربية (والتي تعرب أكثرها فيما بعد)، ولَمَّا كان الإسلام -كما ذكرنا في القواعد والأصول- لا يُكره أحداً على الدخول فيه امتثالاً للتوجيه القرآني: “لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرُّشد من الغي” فقد ظلت مجموعات من الأقوام الكافرة في البلاد المفتوحة محتفظة بدينها ولم تدخل في الإسلام، وانقسمت الأرض بذلك إلى جزأين: جزء سيطر عليه المسلمون وأقاموا فيه دينهم وبنوا عليه دولتهم كما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي ما عرف في الاصطلاح الشرعي بـ"دار الإسلام"، وجزء يسيطر عليه الكافرون بنظمهم وشركهم وأضاليلهم وهي ما عرف في الاصطلاح الشرعي بـ”دار الكفر"، فدار الإسلام هي الدار (الإقليم) التي يسيطر عليها المسلمون أو تحكمها شريعة الإسلام ولو كان المسلمون فيها أقل عدداً من غيرهم، ودار الكفر هي الدار (الإقليم) التي يسيطر عليها الكافرون أو تحكمها شرائعهم الكافرة وإن كانت أعدادهم فيها قليلة.
ومُرادنا بالأقلية هنا في هذا البحث “مجموعة الأشخاص في الدولة التي ليست لها السيطرة أو التحكم أو التأثير نظرا لمخالفتها للمسلمين في دينهم (الإسلام) أو عقيدتهم (عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة) أخذاً من المعنى اللغوي المتقدم القُل من الرجال: خسيس الدين"، وإن كانت أعدادها أكثر من غيرها، وانطلاقا من ذلك فإنه يمكننا أن نُميّز هنا نوعين من الأقليَّات: الأقليَّات الدينية (أقليات الملل)، والأقليَّات العقدية (أقليات النحل)، والأقليَّات الدينية في بلاد المسلمين نوعان: أقلية ذات إقامة دائمة، وأقلية ذات إقامة مؤقتة، فأما الأقلية ذات الإقامة الدائمة فهم أهل الذمة، وأما الأقلية ذات الإقامة المؤقتة فهم المستأمنون، أما بقية الكفار في دار الحرب فلا يدخلون في الحديث عن الأقليَّات الدينية لأن إقامتهم ليست في دار الإسلام، وكذلك كفار الدولة التي بينها وبين دار الإسلام معاهدة أو صلح أو هدنة فلا يدخلون في الحديث عن الأقليَّات لأنها كيان متميز لا يتبع دار الإسلام.
أ-الأقليَّات الدينية (أهل الذمة والمستأمنون):
أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين الإسلام لكنهم رغبوا في البقاء في دار الإسلام والتمتع بحماية المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، سواء كانوا من أهل تلك البلاد المفتوحة أو قدموا من ديار الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة المسلمين يعرف بعقد الذمة حيث يرتب هذا العقد حقوقا وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما، ويدخل في هؤلاء الذين يجوز أن يعقد لهم عقد الذمة: أهل الكتاب اليهود والنصارى، ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران، قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الإجماع، أما من عداهم من عبدة الأوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم هل يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إلا الإسلام أو الحرب، وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الأوثان فيمن يجوز أن تعقد لهم الذمة، وهو الذي يعضده الدليل على ما تبين في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا وفيه: “وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم إلى أن يقول: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، فعمم بلفظ المشركين ولم يستثن من ذلك مشركا من المشركين، وأما المستأمنون: فهم الكفار من أهل دار الحرب أو دار الصلح الذين أبوا الدخول في الإسلام ورغبوا في دخول دار الإسلام لهدف مؤقت لا يجمعون إقامة بل يخرجون بعد المدة المعطاة لهم من قبل من أمَّنهم إلى بلادهم، وهؤلاء أنواع منهم:الرسل، التجار، المستجيرون وطالبو حاجة، ولا شك أن استعمال لفظ “أهل الذمة “و “المستأمن” أولى بكثير من استخدام لفظ "الأقلية” لأن الأخير لا يحمل أية دلالة ذات قيمة أخلاقية بل يحمل ما يدل على البعد عن المجتمع والاغتراب عنه مما يكون مدعاة للتنافر، بينما الألفاظ المستخدمة في الشرع تحمل دلالات ذات قيم أخلاقية تساهم في احترام تلك العقود والوفاء بها، كما قال أهل العلم: (الذمة: الأمان في قوله “ويسعى بذمتهم أدناهم “و أَذَمَّهُ أجاره) وفي اللسان:(الذِّمَّة و الذِّمام، وهما بمعنى العَهْد والأَمانِ والضمانِ والـحُرْمَةِ والـحق، وسُمِّيَ أَهل الذِّمَّةِ ذِمَّةِ لدخولهم فـي عهد الـمسلـمين وأَمانهم) والمستأمن هو الذي أعطي له الأمان (الذي هو ضد الخوف) على نفسه وماله وعرضه ودينه، وهو قريب من معنى "الذمة “والفرق بينهما في الاصطلاح من وجهين:أن عقد الذمة لا يعقده إلا الإمام أو نائبه بينما عقد الأمان يجوز أن يقع عقده من آحاد المسلمين، وأن عقد الذمة مؤبد بينما عقد الأمان مؤقت.
ولا يجوز أن يعد المرتدون من الأقليَّات التي يسمح بوجودها في الدولة الإسلامية، لأن المرتد-سواء ولد على الإسلام أو كان كافرا فأسلم- إذا لم يرجع ويتوب إلى الله مما وقع فيه فلا يجوز إقراره بجزية أو عهد أو أمان أو غير ذلك وليس أمامه إلا التوبة أو القتل.
عقد الذمة:
هو عقد بين الكفار الأصليين الذين يجوز إقرارهم في بلاد المسلمين وبين الدولة الإسلامية يلتزم بمقتضاه أهل الذمة بأداء الجزية (وهي مقدار مالي أو ما يقابله يؤدى لدولة الإسلام) كما يلتزمون بإجراء أحكام الإسلام عليهم في غير عقائدهم وعباداتهم الخاصة بهم ولا يمتنعون من ذلك، ويكون لهم في مقابل ذلك الأمان والحماية.
وقد بلغ من عناية المسلمين بالوفاء للأقليات الدينية في بلادهم بما عاقدوهم عليه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرَّض المسلمين على معاملتهم المعاملة الحسنة فقال: “من قتل نفساً مُعاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً” وقد بوَّب عليه البخاري في صحيحه بقوله: باب إثم مَنْ قتل ذمِّياً بغير جُرم، قال ابن حجر في شرحه: “والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم" وقال -صلى الله عليه وسلم-: “ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً" وهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت يقول: “أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيراً "والذين تبوؤوا الدار والإيمان" أن يقبل من محسنهم ويعفى عن مسيئهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم" فهو في هذا الموقف الشديد لم يفته أن يوصي الخليفة من بعده بأهل الذمة ويجعل الوصية بهم بجوار وصيته بالسابقين من المهاجرين والأنصار، وينص في وصيته على الوفاء بعهدهم وحمايتهم والذب عنهم، والرفق بهم.
ب- الأقليَّات العقدية (الفرق الضَّالة):
كانت الأقليَّات الدينية في دولة الإسلام أحد نتائج شريعة الجهاد في سبيل الله، لذلك كان وجودهم مبكراً أدركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن الأمر في الأقليَّات العقدية لم يكن كذلك إذ تأخر ظهورهم في المجتمع الإسلامي كتجمع أو اتجاه وإن وجد منهم آحاد وأفراد قبل ذلك، لأن ظهورهم في الحقيقة كان نتيجة لاجتماعهم وقيامهم على الانحراف في فهم الإسلام والعمل به، فلم يكن من المتصور أن يظهروا على هذا الوجه مبكرا في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل تأخر ظهورهم إلى أواخر الخلافة الراشدة، وإن كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أشار إلى هذه الأقليَّات بقوله: “ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة"، وقد ظهرت تلك الأقليَّات فيما عرف في الاصطلاح الشرعي بالفرق الضالة، أو أهل الافتراق، أو أهل البدع، فكان منهم الخوارج والشيعة والقدرية والرافضة والمرجئة والجهمية والمعتزلة إلى مسميات كثيرة مسطورة في كتب الفرق، مصداقا لقول رسول الله السابق -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هناك أسباب كثيرة لظهور هذه الأقليَّات العقدية أهمها: اتباع الشهوات التي سببها تحكم الهوى، واتباع الشبهات التي سببها غلبة الجهل، وتقليد غير المسلمين الذي سببه التأثر بثقافات الأقليَّات الدينية وترجمة كتبهم إلى اللسان العربي، وفي أوقاتنا الزمنية الحديثة والمعاصرة ظهرت مسميات جديدة وهي تشترك مع أهل الابتداع والتفرق في كثير من الأصول والمناهج كالعصرانيين والحداثيين والعلمانيين والليبراليين واليساريين والاشتراكيين، غير أنهم داخل كل مسمى أطياف كثيرة إذ كلامهم ليس واحدا، بل في كل فريق تباينات واسعة، وفيهم غلاة لهم أفكار وأقوال لا تجتمع مع الإسلام في شخص واحد أبدا، حيث يوجد فيهم من يصرح برفض مناهج السلف وما أجمعت عليه الأمة، والدعوة إلى مناهج جديدة وفقه جديد يخالف المستقر المجمع عليه من دين المسلمين تحت دعوى التجديد، وهناك بدع في العبادات تقع من طائفة من الناس غير أنها لا تخرجهم من زمرة مجموع المسلمين وتدخلهم في عداد الأقليَّات العقدية لأنها بدع من قبيل المعاصي والسيئات لا من قبيل الافتراق في الاعتقادات.
ج- الأقليَّات اللغوية والعرقية:
هي أقليات من حيث اللفظ فقط دون المعنى إذ لا يترتب على هذا النوع أية أحكام خاصة بهم بل هم يدخلون في غمار المسلمين يجري عليهم ما يجري على سائر المسلمين، فالشريعة لم ترتب على هذه التقسيمات أية أوضاع أو أحكام، وإنما تترتب الأحكام بناء على الدين فالمسلم في أي إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية ليس من الأقلية (اصطلاحا) وإن كانت جنسيته مغايرة لجنس أبناء الإقليم أو لغته مغايرة للغتهم أو لونه مخالف للونهم فهو داخل في الأكثرية، إذ هو يتمتع بالحقوق كلها التي يتمتع بها الأكثرية كما تجب عليه الالتزامات كلها التي يلتزم بها الأكثرية، وهذا أمر قد عمت به النصوص وتصرفات المسلمين في أزمنة الخلافة الراشدة، فمن النصوص التي دلت على ذلك قوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” فذكرت الآية اختلاف الناس وتمايزهم لكنها لم تجعل هذه الأشياء معيارا تترتب عليه الأحكام وإنما المعيار هو الإيمان وتقوى الله وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته وسط أيام التشريق: “يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه..” الحديث وفي هذا المعنى وردت أحاديث كثيرة، وقد جاء قوله تعالى في إهدار تلك الرابطة العرقية حينما قال: “وآخرين منهم لما يلحقوا بهم” وقد فسرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كنا جلوسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ "وآخرين منهم لما يلحقوا بهم” قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي -صلى الله عليه وسلم-حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: وفينا سلمان الفارسي قال فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم-يده على سلمان ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" فهذا سلمان الفارسي وهو من الجنس أو العرق الفارسي ليس من الجنس العربي وقد قيل فيه أنه “منهم“ وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المقابل عن أقارب له: “جهارا غير سر يقول: ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين" وهذا بلال بن رباح رضي الله تعالى عنه وهو حبشي ومع ذلك فهو يتسنم مكانة عالية مرموقة حيث يقوم بأداء وظيفة عظيمة عند المسلمين وهي النداء للصلاة، وعندما عير أبوالدرداء أحد المسلمين بلونه قائلا له يا ابن السوداء قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إنك امرؤ فيك جاهلية" فأهدرت النصوص التفريق بين المسلمين على أساس اللغات أو الألوان أو العرق أو الجنسيات مما يعني عدم الاعتداد بهذه الأمور في ميزان الشريعة كمقياس لتصنيف الأقلية، ولم تكتف النصوص بهذا القدر في جانب التفضيل والمكانة الدينية، وإنما حتى في مجال القيادة والحكم فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما ترويه عنه أم الحصين: “تقول حججت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حجة الوداع قالت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" وهذا عمر رضي الله تعالى عنه وقد لقي نافع بن عبد الحارث بعسفان وكان عمر يستعمله واليا على مكة، فلما رآه بعيدا عن محل ولايته بادره بالسؤال فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ يريد مكة، فقال:استعملت ابن أبزى، ولما كان هذا الشخص مجهولا عند عمر سأله قائلا: ومن ابن أبزى؟ قال:مولى من موالينا، فكأن عمر رضي الله عنه لم يرقه أن يجعل مولى لا تميز له أميراً على قريش، وهم خلاصة العرب، فقال كالمتعجب: فاستخلفت عليهم مولى! قال نافع -مقدماً المسوغات لما فعل-: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه عالم بالفرائض، عندها قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم-قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" وقد جاء النهي عن العصبية القائمة على التناصر والتعاضد على أواصر الدم أو اللغة أو ما شابه ذلك فقد قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: “من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية" فإذا ذهبنا إلى التاريخ الإسلامي وجدنا كثيرا من رجالات العلم والقيادة ممن لم يكن من الأكثرية بل كان ممن يمكن أن يطلق عليهم لفظ الأقليَّات في العصر الحاضر، فعلى سبيل المثال لا الحصر هذا أبوحنيفة الفقيه الكبير ليس من الأكثرية العربية وكذلك أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري، وكذلك الإمام مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم كثير، وهذا عالم النحو العربي بلا مدافع سيبويه لم يكن من العرب، وهذا صلاح الدين الأيوبي من أشهر القادة المسلمين في تاريخ الحروب الصليبية من العرق الكردي وليس من العرب، وهذا قطز بطل عين جالوت الذي هزم التتار وهم من أشر الخليقة كان من المماليك، بل هذا طارق بن زياد فاتح الأندلس هو من البربر وليس من العرب، والقائمة طويلة جدا وإنما ذكرنا ذلك على سبيل التنبيه لا الحصر، ومن هنا يتبين بلا أدنى شك أن التباينات اللغوية أو العرقية أو اللونية لم يكن يعول عليها الإسلام في تعامله مع الناس، فمن الممكن جدا في نظام الإسلام أن يكون الوالي على إقليم من الأقاليم من إقليم آخر، أو ينتمي إلى قومية مغايرة، أو لون مختلف، وإن كان الأولى من ناحية السياسة الشرعية أن يؤمر على الناس من يألفونه ويلتفون حوله ويكونون له أطوع، وقد جرت طبائع الناس أن تكون أكثر ميلا لمن يشابههم في المظهر العام أو يوافقهم من حيث العقائد والتصورات، فإذا وجد شخصان صالحان للإمارة من أصحاب الاعتقاد الصحيح فإن تولية المشابه للقوم أفضل من تولية غيره، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه قوم مسلمين أمَّر عليهم من كانوا يرتضونه قبل الإسلام، ومما تقدم يتبين أن الأقليَّات اللغوية والعرقية واللونية قد اندمجت في الأمة اندماجاً حقيقياً وليس اندماجاً صورياً لا يتعدى المظهر الخارجي، فقد كانت المساواة حقيقية في التمتع بالحقوق التي كفلتها الشريعة وفي تحمل الالتزامات التي أوجبتها عليهم، وهذا الأمر لم تستطع أن تقوم به أية فكرة أو منهج من المناهج الداعية للحفاظ على حقوق الأقليَّات أو حقوق الإنسان، إذ جل ما استطاعت تحقيقه هو إصدار بعض التشريعات في ذلك، والتي لم تزد في أحيان كثيرة عن أن تكون حبرا على ورق، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفى أن نذكر ما تتعرض له نساء الأقليَّات المسلمة في تلك البلاد التي لا تمل عن الحديث عن حقوق الأقليَّات وعن عدم جواز التمييز الديني، وهن في الوقت نفسه يجبرن جبراً وقسرن قسراً بمقتضى القوانين على خلع الحجاب وعدم ارتدائه، لقد اتخذت مقولة الحفاظ على العلمانية مسوغاً لمنع النساء المسلمات من حقهن المشروع في ارتداء الحجاب، كما اتخذت الديمقراطية سلماً لإصدار التشريع الملزم القاضي بذلك، ولفرض دكتاتورية الأغلبية على الأقلية.
الأقليَّات بين الاندماج والتمايز:
هناك عوامل سواء من جانب الأقلية أو من جانب الأكثرية تدعو وتساعد على اندماج الأقلية في الأكثرية، كما أن هناك عوامل تدعو أيضا وتساعد على الاختلاف والتمايز، فعوامل الاندماج من جانب الأقلية كثيرة من أهمها شعورها أن اختلافها وتمايزها عن الأكثرية ليس عاملاً حاسماً في حصولها على حقوقها أو مساواتها بالأكثرية، فهي من ثم لا تحرص على البقاء أو الحرص على التمايز،وخاصة في الأنظمة العادلة التي تتعامل مع طبقات وشرائح المجتمع بالعدل والقسط، وأما العوامل التي تساعد على الاندماج من جانب الأكثرية فعلمها بأن موقفها من الأقلية ليس من باب الفضل والإحسان، وإنما هو حق كفلته لهم التشريعات، إضافة إلى رحابة صدر الأكثرية وحرصها على التآلف، وهذا يفسر حالة المجتمع الإسلامي الأول في صدر الإسلام حيث لم تظهر مشاكل الأقليَّات رغم وجودها، بل ذابت كثير من الأقليَّات واندمجت في الأكثرية (العرب)، وتغلبت عوامل التوحد والاتفاق بل والاندماج على عوامل الانعزال والابتعاد، وذلك أن الإسلام يوحد بين المسلمين ويساوي بينهم، ولا يعتد بتلك الفروقات القائمة على أساس المميزات الجسمية أو اللغوية أو الفيزيائية أو العرقية، ويتعامل مع المسلمين جميعا على أنهم إخوة، وقد ترتب على ذلك أن تحولت كثير من البلاد التي لم تكن يوما ما بلادا عربية إلى العربية فجميع البلاد العربية الموجودة اليوم باستثاء جزيرة العرب لم تكن عربية قبل ذلك كمصر والسودان والشام والعراق وبلاد المغرب وإنما تعربت بعد الفتح الإسلامي لها، ومن الممكن أن ننظر إلى مثال مبكر جدا في ذلك وهي قضية المؤاخاة بين الأنصار أصحاب البلد الأصليين يثرب (المدينة) وبين المهاجرين الأقلية القادمة من بلادها مهاجرة إلى الله ورسوله قد تركت ديارها وأموالها فجاءت فقيرة ليس معها شيء، فكان الأنصاري يشاطر أخاه المهاجري ماله وعقاره حتى أن أحدهم ليطلق إحدى زوجتيه حتى يتزوجها أخوه المهاجري وهو أعظم ما يكون الاندماج والامتزاج، وقد حدث ذلك بمحض الإيمان والرغبة وليس بالقهر أو الرهبة، وهذا الامتزاج والاندماج لم يكن يعني زوال الخصوصيات والتمايزات المحمودة، فقد ظل الأنصاري أنصاريا كما ظل المهاجري مهاجريا ولم يسع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا خلفاؤه من بعده في القضاء على هذه التسميات لأنها لم تكن قائمة على العصبية، وكذلك القبائل لم يشرع القضاء عليها أو إلغاؤها بل قال الله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” فحافظ عليها وأظهر الامتنان بوجودها، لكنه هذب مما يمكن أن يوجد معها مما يضر فنهى عن العصبية وعن التناصر القائم على آصرة الدم، ولذلك عندما حدثت مشادة بين رجل مهاجري كان يمزح مع رجل من الأنصار وقال الأنصاري: يا للأنصار يستنصر برهطه، وقال المهاجري: يا للمهاجرين يستنصر برهطه، قال لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “ما بال دعوى أهل الجاهلية-ثم لما استفسرهم عن سبب ذلك التنادي- قال: دعوها فإنها خبيثة" وفي رواية “فإنها منتنة” وهذا بعكس ما إذا لم تشعر الأقلية بالأمان على نفسها والحصول على حقوقها فإنها تخشى من الذوبان في الأكثرية إذا تخلت عن خصوصياتها، لذلك فهي تجتهد في المحافظة على تميزها، فإذا تمت عملية الاندماج بناء على الاقتناع وتوفر شروط ذلك كان هذا من أكبر الأسباب في تآلف المجتمع وتماسكه، أما إذا حدثت عملية الدمج من غير توفر شروطها، أو حدثت بالقهر والعنف أوشك أن يعود التمايز أشد مما كان بمجرد زوال المؤثر الضاغط، ومشاكل الأقليَّات اللغوية أو العرقية وغيرها في الدولة الإسلامية لم تبرز إلى الوجود بهذا الشكل إلا مع تفتت الدولة وتمزقها وضياع معاني الخلافة الحقيقية -وإن ظلت أزمانا باقية من الناحية الشكلية- وقد زاد ذلك بصورة قوية مع قيام الدول العلمانية على أنقاض دولة الخلافة، واستعمار تلك الدول من قبل الدول الغربية التي بدأت في النفخ في أتون هذه المشكلة وتضخيمها، إن الظلم أو التهميش الذي يمكن أن يقال إنه وقع على الأقليَّات فيما مضى من الزمان لم يكن إلا ظلما وتهميشا للمجتمع كله الأقلية والأكثرية لصالح الأنظمة الحاكمة المستبدة، فالظلم الواقع على هذه الفئة هو نفسه الواقع على تلك، وذلك نتيجة البعد أو التغافل عن الشريعة، وإن مما يذهب بهذه المشكلة وينقضها من أساسها: التمسك بشريعة الإسلام والعمل بها، ونشر أحكامها بين الناس وتطبيقها على الجميع وفق تشريعها الذي لا يفرق بين المسلمين، وإن الحلول القائمة على إفساد الدين بالدعوة إلى العلمانية أو استيراد النموذج الديموقراطي لحل تلك المشكلة هي أفكار ضالة شاردة تزيد أوار المشكلة ولا تقوم بحلها، فهي كمن يحاول إطفاء الحريق بسكب النفط عليه، وإذا كان لنا أن نقدم بعض ما يمكن فعله في هذا المجال فإننا نوصي بما يلي: إفساح المجال أمام تلك القوى والمجموعات للتعبير عن نفسها وممارسة خصوصياتها (في حدود المسموح به شرعا) بدلا من ضغطها ومحاولة جعلها تابعة لنموذج الأكثرية في الدولة، وعدم التضييق عليها في التكلم بلغاتها الخاصة وتعليمها لأبنائهم، (وأما قيام الدولة بتعليم تلك اللغات الخاصة والإنفاق عليها فهي قضية مصلحية تعتمد على إمكانات الدولة وحاجتها لتلك اللغة والفائدة العامة الراجعة من تعليمها)، وفتح باب الوظائف في جميع المجالات بحيث تكون الكفاءة والقدرة على تحقيق الأهداف مع الصلاح هي المعيار، والابتعاد عن استخدام وسائل الدمج القسري والقهر لأن ذلك سرعان ما يزول بزوال القوة المؤثرة، وعدم التدخل في إعادة توزيع الانتشار الجغرافي للتأثير على تجمعاتهم سواء بالتشتيت والتفريق على مساحة واسعة، أو بالحصر والتضييق في مكان واحد، وإذا كانت تلك الأقلية موجودة على بقعة جغرافية واحدة بمعنى أنها ليست منتشرة في أرجاء الدولة فإن الأولى أن يعهد في إدارتها من حيث التعليم والقضاء والإمامة والشرطة ونحو ذلك إلى الأفراد المؤهلين الصالحين من هذه الأقلية، وإذا احتاجت إلى المعونة والمساعدة إما لعدم الكفاية أو عدم الخبرة أو عدم المؤهلات التي يحتاج إليها فلا مانع أن يقوم بذلك أناس يصلحون لذلك من غير هذه الأقلية إذ "المؤمنون أخوة “ولا يصلح أن تكون السياسة العامة المتبعة في مثل ذلك أن تدار هذه الأقليَّات بأفراد من خارجها حتى وإن وجد فيها المؤهلون الصالحون للإدارة، فإن هذا مما يخالف السياسة الشرعية.