وبِالمُناسبة:
بِمُجَرَّدِ أنْ تَعْرِف هذه النِّعمة أنها من الله فهذا نوْعٌ من الشُّكْر، ولِمُجَرَّدِ أنْ تَعْرِف هذه النِّعمة أنها من الله فهذا أحد أنواع الشُّكْر فأَهْلُ الدنيا تجد أحدهم يسْتَمِع في الأخبار مثلاً أنّ مُنْخَفَضاً جوِّياً في طريقِهِ إلى الشرق الأوسط فإذا لم يَخْطُر بِبالِهِ أنَّ الله تعالى رحْمَةً منه بِالبَشَر ساق هذه المُنْخَفَضات لِتَكون في النِّهايَة أمْطاراً ترْوي الزرع ويشرب منها الإنسان ويسْقي منها زرْعَهُ ويسْقي بهائِمَهُ هذا التفكير بِأنّ هذا مُنْخَفَض يسير بِسُرْعة كذا إلى المكان الفُلاني ولا يَذْكُر الله معه كان ذلك نوْعاً من الشِّرك لِذلِك فلا بد أن تعْتَرِف أنّ كلَّ شيءٍ أمامك نِعْمَةٌ عُظْمى يَنْبَغي أنْ تحْمَدَ الله تعالى علَيْها.
اسْتِنشاق الهواء نِعْمَة وكم من جِهازٍ في الإنسان يعْمَلُ بِانْتِظام وهذه العَيْنُ تعْمَلُ بانْتِظام وهي من أكبَرِ النِّعَمِ التي أنْعَمَ الله بِها علينا ترى الألوان كلَّها والأشياء بِحَجْمِها ولا تَحْتاج إلى تَحْميض فِلْمٍ ولا إلى انْتِظار حتى ترى ولا إلى ألوان باهِتَة فالعَيْن البشَرِيَّة تُفَرِّق بين ثمانمائة مئة نوع من اللون الأخْضر وتُفَرِّق بين درجتين من بين ثمانمئة ألف درجة فَهِيَ حسَّاسَةٌ جداً فالعَيْن نِعْمة والشِّم نِعْمة والسمع والنطق نِعمة والقلب والرئتان والأوعِيَة والأمعاء كلها نعم كذلك فالإنسان مغمورٌ بِالنِّعم وكلما فكَّر في هذه النَّعم كلما أحب الله عز وجل والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي)) (رواه الترمذي).
((أحِبوا الله لِما يغْدوكم من نِعَمِهِ)).
وحالةُ المؤمن دائماً الشُّكْر لأنّ الله عز وجل سخَّر له جِسْمَهُ وأنت شيء غير جِسْمِك والدليل قوله تعالى: "وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)" (سورة فصلت).
فَجِلْدُك خلايا والخلايا نفْسٌ لها مسؤولِيَة وتنطِق يوم القيامة وتشْهد فَجِسْمُكَ مُسَخَّرٌ لك والإنسان نقطة ماءٍ في هَيْكَلٍ عظمي وعظْم عُنُق الفخذ يتحَمَّل مئتين وخمسين كيلوا حُمولَة فالعظام يتحملان نِصْف طن وهذا الحُوَيْن المَنَوي الذي هو كالماء مِن أين جاء بِهذه المتانة في العِظام؟ هذا يعْني أنّ هناك في العِظام كِلْس متين فَمَن أعْطاه هذه المتانة؟ فالمواد الكِلْسِيَة تترسَّب في العِظام وبِطريقةٍ لا يعْلَمُها إلا الله تعالى يُصْبِح هذا العظْم متيناً بل إن ميناء الأسنان تأتي بعد الألماس في قساوَتِها والعِظام لها متانَةٌ كبيرة.
انْظر إلى القصاب يرْفَع الساطور إلى أعلى ويَهْوي بِه بِكُلِّ قُوَّتِه لِيَكْسِرَ عظْما من عِظام الخروف ما معنى ذلك؟ أيْ أنّ الله عز وجل أعْطاك هَيْكَلاً عظمياً وعضلاتٍ تتَحَرَّكُ بِها ولولا العضلات لما كانت هناك حركة ولا مَشْي ولا تَكَلُّم ولا نُطْق ولا تَنَفُّس ولا نَبْض قلب ولتوقف كلُّهُ فالله تعالى أعْطاك عضلاتٍ تتحرَّك وهَيْكَلاً عظمياً هو قِوامُ جِسْمِك وأَعْطاك الله عز وجل أجْهِزةً دقيقة جداً.
ذكرت لكم مرةً
أنّ في الدِّماغ جِهازاً يكْشِف تفاضُل وُصول الصَّوْتَيْنِ للأذُنَينِ فإذا دخل صوْتٌ من هنا قبل هنا بِقدْر واحد على ألف وسِتمئة جزء بالمئة حينها يعْلَم الإنسان أنّ الصوت جاء من هنا فإذا كان يقود سيارة مثلاً فإنه يَنْحَرِف نحو اليسار استجابة لذلك الصوت فهذا جِهازٌ مُعَقَّد جداً وهناك جِهاز توازن السوائل وجِهاز ضبط فالإنسان يَنْطَوي على آلاف الأجْهِزة ؛ الغُدَّة النُّخامِيَة وزنها نِصْف غرام وتُفْرِز اثْنى عشر هِرموناً.
أيها الإخوة
التسْخير يعني أنّ جِسْمَك مُسَخَّرٌ لك والطعام مُسَخَّر والشراب مُسَخَّر والأنعام مُسَخَّرة والبِحار مُسَخَّرة والأمطار مُسَخَّرة والرياح مُسَخَّرة ولولا الرياح اللَّواقِح ما حمَل النبات ولا أثمَر قال تعالى: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" (سورة الحجر).
والتسخير كذلك ورد في سورة النحل قال تعالى:
"وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)" (سورة النحل).
فلوْ أنّ الله تعالى جعل لكم النهار سَرْمَداً إلى يوْم القِيامة من إلهٌ غير الله يأتيكم بِلَيلٍ تسْكُنون فيه؟ لو أنَّهُ جعل لكم الليل سرْمَداً إلى يوم القِيامة من إلهٌ غير الله يأتيكم بِنهارٍ تنْتَشِرون فيه؟ إنه الله، فالليل مسَخَّر والنهار مُسَخَّر، وهذه دَوْرة الشمس والأرض فَلَو دارت الأرض على مِحْوَر مُوازٍ لِمُسْتوى دورانِها لما كان هناك ليلٌ ولا نهار فالدِّقة التي جعلها الله بينهما تدلّ على حِكْمَةٍ بالغة وخلقِ دقيق لو أنّ المِحور عمودي على مُسْتَوي الدوران لما كان هناك فصول ولكنه مائل وهذا الميَلان يُسَبِّب الفصول وهذا هو التسْخير قال تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".
فالله جعل القمر ضِياء والشمس جعلها سِراجاً وهاجاً والقمر نوراً، قرأت أن القمر يُعطي ثمانِيَة عشر بالمئة مما تعطيه الشمس فَيُمْكِن للقمر أنْ يُؤدي وظيفة إضاءة تُساوي ثمانِيَة عشر جزءاً بالمئة من الشمس، وذات مرةً كنت بالطائرة فرأيت في ليلةٍ مُقْمِرة وأنا مار على بِلاد رأيت كل ما فيها على ضوء القمر فالقمر مُسَخَّر وجعله الله تقْويما للإنسان فالآية الكريمة: "وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".
قد تكون نجْمَةٌ مُتألِّقة حجْمُها يزيد مئة مليون مرة عن حجم الشمس وهناك نجوم تَتَّسِع للأرض والشمس مع المسافة بينهما وهناك نجوم تبْعُد عنا ثلاثمئة مليون سنة ضوئيَّة: "وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".
وما ذرأ (أيْ وما خلق) لكم في الأرض مُخْتَلِفاً ألْوانُهُ، ففي الفواكِه تجد لوناً أصْفر مع خدٍّ أحمر وأحمر غامِق داكِن وأخضر غامِق وفاتِح فالفاكِهة ألوانُها من آيات الله الدالة على عظمتِهِ وألْوان الخُضَر والجِبال وألْوان البِحار فهذا كلّه من فضْل الله عز وجل، قال تعالى: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)" (سورة النحل).
فالبحر أربعة أخْماس اليابِسة وفي أعْمق نِقاطِه تقْريباً اثني عشر كيلو متراً في المحيط الوادي المعروف بِوادي مَرْيانة فالكَمُّ المائي كبير جداً فإذا أربعة أخْماس اليابسة على عُمْق متوسِّط خمسة كيلومترات، كم هي كُتْلة الماء في البِحار؟
فالبحر الأبيض المتوسِّط يُعَدّ بُحَيْرة إذا ما قيس بالمحيطات أما المحيط الهادي والأطْلسي فهي محيطات كبيرة جداً قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14)" (سورة النحل).
فالسمك مخلوقٌ خِصيصاً للإنسان وهناك مليون نوع من السمك في البِحار ولولا أنّ الأسماك الكبيرة تأكل الصغيرة لصار البحر كلّه أسْماكاً وقال تعالى: "وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا".
هذا اللؤلؤ شيء دقيق؛ حيوانٌ إذا شعر أنّ في محارِهِ جِسْماً غريباً مهما كان دقيقاً أفْرز عليه مادَّةً فسفورية ِكلْسِيَة يُدافِع بِها عن نفسِه ويُحَجِّم هذا الجِسم الغريب وهذه المادة الفسفورية الكلْسِيَة هي اللؤلؤ واللؤلؤ غالٍ جداً قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
كل البضائع هذه الأيام اسْتيرادٍ وتصْديرٍ تنقل عبْر السُّفُن وهناك الآن حامِلات بواخِر تَحْمِل مليون طن؛ مُدُن تسير في البِحار وهناك الآن معامِل لِصُنْع سْتانْلِس هي بواخِر تأخذ المواد الأولِيَّة من أُسْترالْيا وفي طريقها إلى الشرق الأوْسَط تُصَنِّعُها وتبيعُها مُصَنَّعَةً خالِصَة فالبواخِر مُدُنٌ تمشي في الماء قال تعالى: "وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
أذْكُر مرةً أننا كنا في سَفَرٍ وكان الطريق طويلاً وساحِلِياً ومن الممكن أن نقْطَعَهُ في البحر كانت تقِف أمامنا بواخر تُستعمل ناقِلاتٍ للسيارات فيها سيارات كبيرة وشاحِنات وبولْمانات وتكْسيات تحمل عدداً كبيراً من السيارات؛ كيف تتحرك هذه الباخِرة بِهذا العدد؟ وكيف يحْمِلها الماء؟ إذا قلت البترول قلنا لك من خلق البترول؟ الله جل جلاله، قال تعالى: "وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
وقال:
"وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)" (سورة النحل).
فالجِبال هذه يبدو أَنها مُوَزَّعة توزيعاً دقيقاً جداً بِحيث أن الأرض تدور دَوْرَةً مُسْتَقِرة تجد بِناءً عمره سبعمئة سنة ليس به بأس ولو كانت هناك حركة لانْهَدم فالأرض مُتَحَرِّكة وكأنها ساكِنة وهذا من آيات الله الدالة على عظَمَتِه اسْتِقرار مُطْلَق مع حركة مذهلة قال تعالى: "أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)" (سورة النمل).
مَنْ جعلها مسْتَقِرة؟ ومَنْ جعل الأشياء تسْتَقِرّ عليها؟ الله جل جلاله قال: "وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
كل شيء له علامة تميزه وتعلن عن حقيقة بواطنه، إذا كان هناك جُرْثوم بِالإنسان فإنها ترتَفِع حرارته فارْتِفاع الحرارة علامة وإذا الفاكهة نضجت يصْفَرُّ لوْنُها وهذا اللون الأصْفر علامة وأحْياناً الزيتون يَسْوَدّ والحب يشْتَدّ والعِنب يصْفَرّ كل شيءٍ خلقه الله عز وجل جعل له علامةً تدلّ على باطِنِهِ حتى الأمراض كلها لها علامات ولولا هذه العلامات لما عرف الأطِباء الأمراض وكل شيء باطِن له علامة ظاهرة قال تعالى: "وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)" (سورة النحل).
وقال تعالى:
"وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)" (سورة النحل).
أيْ أنتم عاجِزون عن إحْصاء النِّعم فَلأن تكونوا عاجِزين عن شُكْرِها من باب أوْلى ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى: إن الله لغفور رحيم.
وفي سورة الأنْبِياء قال تعالى:
"فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)" (سورة الأنبياء).
أيْضاً هذه الآية وما بعدها تُبَيِّن تسْخير الله تعالى لِهذا النبي الكريم.
وفي سورة الحج قال تعالى:
"وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)" (سورة الحج).
فهذه الناقة قرأت عنها بعض المقالات في مجلاتٍ عِلْمِيَّة تستطيع أن تسْتَغْني عن الماء ثلاثة أشْهر فهي تسْتطيع أن تسْتَهْلِك ماء خلاياها وتسْتطيع أن تسْتغني عن الطعام أكثر من سِتة أشهر لأنّ سنامها مُدَّخَرٌ غِدائِيٌ لها فهذا الحيوان مُسَخَّرٌ للإنسان ولاسِيَما في الصحراء أَخْفافُها آية لها رُموش تمْنَع دخول الغُبار إلى عَيْنِها وعَيْنُها آية وتُريها البعيد قريباً والصغير كبيراً عَيْن الناقة كالميكروسكوب تماماً فَعَيْنُها آية وشَفَتاهاَ آية وأَعْضاؤها آية وتجْلِس جلْسَةً نِظامِيَة وترْتاح ولها ثفنة في بَطْنِها وعلى أيْديها وأرْجُلها جَلْسَتُها النِّظامِيَة تُتيح لك أن تُحَمِّل عليها.
وربنا عز وجل يقول:
"أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)" (سورة الغاشية).
آية كريمةٌ، قال تعالى:
"وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
درسنا اليوم يتناول ِكلٍّ حركةٍ من حركاتِك؛ ويريك كل ما سخره الله لك من خلال ذلك، خرجْت من المسجد ولَبِسْتَ حِذاءك من جِلْد الأنْعام فهذا الجِلد مُسَخَّرٌ لنا، ركِبْتَ مرْكَبَةً تتحرَّكُ بِالبِترول فالبِترول مُسَخّر لنا، دخلت إلى البيت وشَرِبت كأساً من ماء فالماء مُسَخَّرٌ لنا ومن جعلهُ عذْباً فُراتاً؟ وكان من قبل مِلْحاً أُجاجاً فالماء مُسَخَّرٌ لنا رأيْتَ زوْجَتَك فمن سَخَّرها زوجَةً مُطيعَةً لك ورأيْتَ أوْلادك واسْتَلْقَيْت على فِراشٍ وفير فمن خلق الصوف؟ والله هذا الاسم العظيم اسْم المُسَخِّرْ يدور معك في كلِّ ثانِيَة من حياتِك؛ كَيْفَما تحرَّكْت وَجَدْت الأشياء مُسَخَّرة لك أعْظم تسْخير.
ألا تسْتَحْي من الله:
إلى متى أنت بِاللَّذات مشْـغول
وأنت عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مسؤول
تعصي الإله وأنت تُظهر حُبَّهُ
هذا لَعَمْري في المقال بديــعُ
لو كان حُبُّك صادِقاً لأَطَـعْتَهُ
إنّ المُحِبّ لِمن يُحِب يطيــعُ
وفي سورة العنكبوت قال تعالى:
"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)" (سورة العنكبوت).
وفي سورة لُقْمان قال تعالى:
"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)" (سورة لقمان).
أذكُر مرةً كنت بالخليج وكان هناك سِباق للهُجْن يَعْتنون به كثيراً ولكنّ الذي لَفَت نظري أن الذي يرْكَب على هذه الناقة طِفْلٌ صغير وهذا الطِّفل من شِدَّة الاِهْتِزاز يَنْعَطِب عمودُهُ الفقري ورأَيْت العَكْس في هذا الموقف فالإنسان هنا مُسَخَّرٌ لِهذه الناقة والأصل أنّ الناقة هي المُسَخَّرة للإنسان فالإنسان حينما يُسَخَّر لِمَخْلوقٍ أدْنى منه ما عرف قيمَة نفسه وإنسانيته لِذلك الله عز وجل قال: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)" (سورة البقرة).
هناك أشياء كثيرة قد ترْفُضُها لأنها لا تُعْجِبُك ولأنَّك تَحْتَقِرها إلا أنَّك إذا رفضْت الدِّين فإنَّك تَحْتَقِر نفْسَك قال: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ".
حينما يحتَقِر الإنسان نفْسَهُ يُعْرِض عن الدِّين، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ".
وفي سورة الزمر قال تعالى:
"خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)" (سورة الزمر).
وفي سورة الزخرف قال تعالى:
"وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)" (سورة الزخرف).
مِن أجل أن تعرف قيمة البِتْرول؛ سيارة فيها خمسة رُكاب وتحْمِل أغْراضاً وأمتعة وتسير في طريق صاعِد فلو أنَّها وقَفَت وأُطْفِىءَ مُحَرِّكُها وكَلَّفْناك أنْ تدْفَعَها إلى الأعلى مع رُكابِها وحاجاتِها فهل تسْتطيع؟ فلو كان هناك خمسة رجال أقوياء لما اسْتطاعوا تحريك هذه السيارة بِطريقٍ صاعِد لكن هذا البترول كيف ينْفَجِر وكيف يدْفع هذا الوزْن الثقيل من المركَبَة مع ما فيها من ركاب بِطريقٍ صاعِدٍ هكذا؟
سبحان الذي سخَّر لنا هذا وإذا ركِبت باخرة من الذي جعل الماء يحْمِلها؟ الله عز وجل وكذلك الطائرة في الهواء وهناك دعاء قرآني كلما ركِبْت مرْكَبَةً أو دابَّةً أو سيارَةً تقول: ((كما روي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ عَلَّمَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ "سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ"...)) (رواه مسلم).
أيها الإخوة
اسم المُسَخِّر اسم يدور في حياتِنا كلِّها ولك أن تُفَكِّر فيه في كلِّ ثانِيَة فَكُلِّ شيء تراه أمامك مُسَخَّرٌ لك وكل ما تراهُ أمامك هو من نِعَم الله عز وجل وقد سخّره لك ولولا أنك ذو شأنٍ عند الله عز وجل لما سَخَّر لك الكوْن من أجْلِك قال تعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)" (سورة النحل).
لذلك مُلَخَّص الدرس:
أحِبُّوا اللهَ لِما يَغْدوكم بهِ من نِعَمِهِ وأحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ وأحِبُّوا آلَ بيتِي بِحُبِّي.
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينْ.