دققوا أيُّها الإخوة...
لو أنَّ إنساناً اقترف معصية ليس مكلَّفاً إطلاقاً أن يبلِّغ عن هذه المعصية أحداً، فما دام لم يدر به أحد فمعنى ذلك أنَّ الله أسبل عليه ستره، ويقترف معصيةً كبيرة حينما يفضح نفسه.
في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) سأل النبي أصحابه قائلاً: مَنْ له سُؤال؟ قال أحدهم: إنني نؤوم يا رسول الله. فقال عمر: ويحك فضحت نفسك! قال: ((دعه يا عمر فضوح الدنيا خيرٌ من فُضوح الآخرة، اللهمَّ أذهب عنه النوم إذا شئت)).
فإذا اقترف الإنسان ذنباً فليس مكلّفاً شرعاً أن يُبلِّغ عن نفسه، ما دام لم يدرِ به أحد معنى ذلك أنَّ الله أَسبل عليه سِتْرِهُ، فإذا فضح نفسه كأنَّه ارتكب معصيةً جديده.. هذا حكم شرعي..
أنت لست مكلّفاً أن تفضح نفسك ما دام الله قد سترك.
شيء آخر..
لو لم تكن مِمَّن يُكلَّف بتنفيذ أمر الله، فأنت إنسانٌ عاديٌ لست كالإمام فإذا اقترف إنسان آخر معصيةً أمامك لست مكلّفاً أن تُبلِّغ عنه، أما الإمام إذا بلغه أحد أنَّه قد انتُهك حدٌ من حدود الله فلا عفا الله عنه إن عفا، فالإمام شيء والمؤمن شيء.
فالمؤمن ليس مكلّفاً أن يفضح نفسه ولا أن يفضح غيره، أما الإمام إذا بلغه عن أحد أنَّه قد اقترف حداً أو اقترف ما يوجب الحد فلا عفا الله عنه إن عفا.
لذلك ورد في البخاري:
((عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (رواه البخاري).
وهذا الذي بلَّغ النبي عن إنسان يزني فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا سترته ولو بثوبك فكان خيراً لك)) فهذا حكم شرعي..
ليس القصد أن تقطَّع الأيدي ولا أن يُجلد الناس، فالقصد أن تكون الحدودُ الشرعيَّة رادعةً للمسلمين، لذلك حينما يطالب الشرع بأربعة شهود رأوا حالة الزنا رأي العين هذا شرط شبه مستحيل وهو شرط تعجيزي. الهدف منه أن يكون هذا الحدُّ رادعاً لا أن يكون مطبّقاً.
ومما يدلُّ على محبَّة الله الستَّار بإخفاء الذنوب والمعاصي قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)" (سورة النور).
أي أنَّ هذا الذي يحبُّ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا له عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة.. ماذا فعل؟ لم يفعل شيئاً إلا أنَّه تمنَّى أن تشيع هذه الفاحشة، معنى ذلك أنَّه في خندق المنافقين، لو كان في خندق المؤمنين لآلمه هذا الأمر أيَّما إيلام، فلمجرَّد أنَّه رضي أو تمنَّى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا معنى ذلك أنَّه ليس مؤمناً..
قال الله تعالى:
"إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)" (سورة آل عمران).
قال ابن كثير:
"هذه الآية تأديبٌ لمن سمع شيئاً من الكلام السيئ فقام بذهنه منه شيءٌ وتكلم به".
سمعت قصة لا تليق بمؤمن ولا ينبغي أن تروِّجها، لا ينبغي أن تنقلها، لا ينبغي أن تفرح بها، إن فرحت بها فلست مؤمناً، وإن روجتها فقد سببت فتنة لا يعلم إلا الله متى تنتهي..
ففي بعض الأحيان خطأ بسيط قد ينتهي بجريمة
أنا ذكرت لكم نقلاً عن أحد مخابر التحليل أنَّ إنساناً توجد بينه وبين ابنته مشكلة، شَكَّ بابنته، فطلب منها إجراء تحليل.
فالموظف في هذا المخبر وقعت منه العيِّنة فانكسرت فخاف من سيده فكتب نتيجة التحليل حمل إيجابي، فلما جاء الأب مساءً وتلقَّى النتيجة أنَّها إيجابيَّة فذهب وقتل ابنته مع أن النتيجة غير صحيحة والبنت بريئة..
فهؤلاء الذين يسمعون قصةً لعلها كاذبة، وقذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة ولعلها قصة كاذبة، إذا نقلها وروَّجها فما أدراك قد تقع جريمة من أجلها، فقضايا الأعراض خطيرة جداً، فلذلك هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات عليهم أن يُجلدوا ثمانين جلدة وأن يفقدوا حقَّهم المدني فلا تُقْبَل شهادتهم أبداً لِعِظَمِ حقِّ المرأة المؤمنة عند الله.
هناك معنىً آخر ذكره بعض العلماء:
وهو أنَّ الذي يفعل شيئاً قبيحاً ويحدَّث الناس به كأنه أراد أن تفشو الفاحشة في الذين آمنوا، ألم تسمعوا بالقول: رحم الله عبداً جبَّ الغيبة عن نفسه.
الآن إليك معنى آخر:
إنسان فعل فاحشة، والفاحشة انتقلت وشاعت وسرت بين الناس، ما الذي حصل؟ إن هذا العمل القبيح شاع بين الناس، وكلما شاعت الفواحش استمرأها الناس، وأقبل عليها ولم يروا بها شيئاً خطيراً.. أيضاً هذا المعنى آخر.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلا تُعَيِّرُوهُمْ وَلا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ)) (مسند الإمام أحمد).
يوجد أشخاص -سبحان الله- هَمُّهُمْ تتبع العورات، قنص الزلاَّت، همُّهم أن يصطادوا في الماء العكر، أن يبحثوا عن زلةٍ فيشيعوها، هؤلاء يتتبعون عورات الناس..
مَنْ تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر داره.
وقد قال عليه الصلاة والسلام حينما أمر أن يستر الإنسان ذنبه قال عليه الصلاة والسلام: ((عَنْ أَبِي الْيَسَرِ قَالَ أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَقُلْتُ إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَتَقَبَّلْتُهَا فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلا تُخْبِرْ أَحَدًا فَلَمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلا تُخْبِرْ أَحَدًا فَلَمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلا تِلْكَ السَّاعَةَ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالَ وَأَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلا حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:"وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ"إِلَى قَوْلِهِ:"ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)) (سنن الترمذي).
وفي حديث الدعاء:
((عَنْ جُبَيْرِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِيَ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي وَقَالَ عُثْمَانُ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي)) (سنن أبي داوود).
أيها الإخوة:
أعتقد أن المؤمن الصافي حينما يسمع قصةٍ ويكتمها يشعر بسعادةٍ لا يعلمها إلا الله، فالنفس تميل للفضائح، الإنسان يميل إلى أن يُضحك الناس فيقول: هل سمعتم فلاناً ماذا فعل؟ هل عرفتم لماذا طلق زوجته، هل عرفتم فلاناً عندما صاحب فلاناً كيف خانهُ مع زوجته، هذه قصص يراها مرضى القلوب ممتعة ويحب الناس أن يرووها ويتحدثوا بها في مجالسهم، دائماً التكليف يتناقض مع طبع الإنسان، لكنَّ الفطرة تتوافق مع التكليف، عندما ينفذ الإنسان أمر الله عزَّ وجلَّ يشعر في البداية بمجاهدة، أما حينما ينتصر على نفسه ترتاح نفسه..
فالتكاليف سمَّاها الله تكاليف لأنها ذات كُلفة، أما الأعمال الكاملة والصالحة تتوافق مع الفطرة، فالتكاليف تتناقض في البداية مع الطبع المتعلِّق بالجسم، وتتوافق في النهاية مع الفطرة المتعلقة بالنفس، لذلك المستقيم مرتاحةٌ نفسه لعل جسمه يتعب أما نفسه مرتاحة.
من الأدعية المتعلِّقة باسم الستار:
اللهمَّ أنت الحليم الستار، وأنت عالم الغيوب والأسرار، أمدُّ إليك يدي تحت ستار الليل وقد مدَّ الليل أستاره ومددت لعبادك يَدا الحليم الغفار، فاستر اللهمَّ عورتي، وامحُ حوْبتي، وآمن روعتي، وشدَّ من عزيمتي، فإني استحيي منك، وأنا في الدنيا تشغلني عنك، فكيف بحالي يوم لقائك ياغفار الذنوب وستار العيوب بضعفي أمام قوتك، وعجزي أمام قدرتك، أسألك العفو والصفح، والمغفرة والرضوان ياذا الجلال والإكرام.
إخواننا الكرام...
أرجو الله سبحانه وتعالى، أن يكون من هذا الاسم الستار مبدأً لنا بقدر ما نستطيع هذا المبدأ"طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس".
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)) (سنن الترمذي).
((مَنْ ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
موضوع الستر أحد أخلاق المؤمن الأساسية والله عزَّ وجلَّ هو الستار، فإذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلَّها خطاياه وذنوبه.. فالله عزَّ وجلَّ يظهر الحسن ويخفي القبيح، والإنسان المؤمن يتخلَّق بأخلاق الله، ويقتدي برسول الله، والإنسان الكافر والعاصي يبحث عن العيوب ويُخفي الصفات الطيِّبة في غيره، فهو قنَّاص، فحينما يعثر على خطيئة كأنَّه عثر على كنزٍ ثمين يأخذها ويفضح بها وينشرها في الناس.
فأنت مؤمن بمعنى أنَّك ستَّار، مؤمن تستُر على إخوتك أخطاءهم حتى النصيحة إن كانت أمام ملأ كانت فضيحة، لا تكون النصيحة نصيحةً إلا إذا كانت بينك وبين أخيك..
فإذا أحببت أن تنصح يجب أن تختار الوقت المناسب والمكان المناسب، أما إذا نصح الناصح أمام ملأٍ فربما انقلبت النصيحة فضيحة وابتعد عن اسم الستَّار، والنبي قال: ((تخلَّقوا بأخلاق الله)).
فأحياناً يخطب شاب فتاة ثم تفسخ هذه الخطبة، فتجد معظم الماس يتكلَّمون عن أشياء كانت وأشياء لم تكن حتى يبرروا انسحابهم من هذه الخطبة، ما كان ينقصهم لو قالوا كلاماً موجزاً: لا يوجد نصيب، والله هم أحسن منا ولكن لا يوجد نصيب، لكنهم طلبوا أشياء لا نقوى على تحمُّلها، فانقطع النصيب، فلا تدخل في الأعراض والأخطاء.
فكلَّما ارتقى الإنسان في مراقي الإيمان يظهر الحسن ويخفي القبيح، وكلّما هبط يظهر القبيح ويُخفي الحسن، ودائماً وأبداً أو دعو أذهانكم هذا القول: ((تخلَّقوا بأخلاق الله)).
الله عزَّ وجلَّ ستَّار، وستَّار صيغة مبالغة تعني أنَّه كثير الستر نوعاً وكماً، وكلَّما كنت أقرب إلى الله كنت أكثر سِتراً على إخوانك.
والحمد لله ربِّ العالمين.